كيريل ديمترييف... حليف بوتين الذي لا يُمكن المساس به

دور محوري لتمثيل مصالح الرئيس الروسي مع أميركا

رويترز
رويترز
كيريل ديمترييف

كيريل ديمترييف... حليف بوتين الذي لا يُمكن المساس به

عندما بدا أن طريق السلام في أوكرانيا قد وصل إلى نهاية مسدودة، تدخل ممول روسي تلقى تعليمه في جامعة "هارفارد" في الجهود الدبلوماسية الأخيرة التي بذلها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، لكسر الجمود في جهود إنهاء الصراع في أوكرانيا.

لقد بذل ترمب محاولات متكررة لإقناع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بالتفكير جديا في مبادراته السلمية المختلفة، ولكنه لم يجد لديه أذنا مصغية، وأخذت فرص التوصل إلى حل سلمي للصراع تتضاءل يوما إثر يوم. ودفع رفض بوتين تقديم أي تنازلات حقيقية ترمب إلى إلغاء قمته المقررة مع الرئيس الروسي في بودابست، وفرض مجموعة جديدة من العقوبات الثانوية، ما كان سيلحق ضررا أكبر بالاقتصاد الروسي.

وهنا بالذات تدخل كيريل ديمترييف، رئيس صندوق الثروة السيادية الروسي، الحليف المقرب لبوتين، في محاولة لإحياء محادثات السلام، ومنع بلاده من الدخول في متاهة جديدة من الصعوبات الاقتصادية.

وبعد وقت قصير من إعلان ترمب في أواخر أكتوبر/تشرين الأول إلغاء قمة بودابست، سافر ديمترييف إلى فلوريدا، والتقى هناك ستيف ويتكوف، المبعوث الخاص للرئيس ترمب الذي اضطلع بدور كبير في المفاوضات، لإنهاء الحرب في أوكرانيا. كلا الرجلين– ديمترييف وويتكوف– يفتقران إلى الخبرة في الدبلوماسية رفيعة المستوى، ومع ذلك تمكنا من صياغة خطة سلام مكونة من 28 بندا. ومع أن الخطة ترجح كفة مصالح موسكو بشكل كبير، فقد قدمت دفعة جديدة للجهود الرامية إلى تنفيذ وقف إطلاق نار دائم.

أعاد الإعلان عن مبادرة ترمب الأخيرة للسلام، التي تمنح روسيا السيطرة على مساحات واسعة من شرق أوكرانيا، وتضع حدا لطموحات كييف في الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، الحياة إلى مسار تفاوضي كان على وشك الغرق في الرمال المتحركة.

ورغم غياب أي ضمانات حتى الآن بشأن قدرة الطرفين على التوصل إلى اتفاق سلام دائم، في ظل مقاومة بوتين للمحاولات الأوكرانية الرامية إلى تعديل بنود المقترح الأصلي المؤلف من 28 بندًا، يتّضح أن التدخّل المفاجئ لديمترييف في اللحظة الحاسمة أنقذ العملية الدبلوماسية من الجمود، وأعادها إلى دائرة الفعل بعدما كانت مهددة بالركود التام.

التدخّل المفاجئ لديمترييف في اللحظة الحاسمة أنقذ العملية الدبلوماسية من الجمود، وأعادها إلى دائرة الفعل بعدما كانت مهددة بالركود التام

ويبدو ظهور ديمترييف كلاعب رئيس في الرقصة الدبلوماسية لإنهاء الصراع مثيرا للدهشة بشكل لافت، نظرا لأن خريج "هارفارد" البالغ من العمر 50 عاما مولود أصلا في العاصمة الأوكرانية كييف خلال الحقبة السوفياتية، وفُرضت عليه مؤخرا عقوبات أميركية بسبب علاقاته الشخصية الوثيقة مع بوتين، الذي عينه رئيسا لصندوق الاستثمار المباشر الروسي (RDIF) وهو الاسم الرسمي لصندوق الثروة السيادية للبلاد.

وثمة ما يشير إلى أن للرجل نفوذا خاصا على إدارة ترمب، وقد تجلت أولى مؤشرات هذا النفوذ في أبريل/نيسان، عندما سافر إلى واشنطن، على الرغم من إدراجه رسميا على القائمة السوداء الأميركية، للضغط محاولا منع استهداف روسيا بالتعريفات الجمركية العالمية التي فرضها ترمب. وبعد موافقة وزارة الخزانة الأميركية على تعليق العقوبات المفروضة على ديمترييف مؤقتا، عقد رجل الأعمال الروسي اجتماعا مطولا مع ويتكوف في واشنطن، أفضى إلى تجنيب موسكو تداعيات وأعباء نظام عقوبات ترمب. وأبرز نجاحُه في تلك المهمة أمرين اثنين: علاقاته الوثيقة بإدارة ترمب، وحجم الثقة التي وضعها فيه بوتين للتفاوض نيابة عنه لحماية المصالح الاقتصادية الروسية.

في مقابلة مع شبكة "CNN" بعد لقائه مع ويتكوف، صرح ديمترييف بأن هدفه الأساسي يتجسد في استعادة العلاقات التجارية بين واشنطن وموسكو. وقال: "إذا رغبت أميركا في زيادة أعمالها التجارية مع روسيا... يمكن للولايات المتحدة أن تفعل ذلك بالطبع". وأضاف في مقابلة منفصلة مع وسائل إعلام روسية رسمية أن أحد "الموضوعات الرئيسة" التي ناقشها مع ويتكوف كان "استعادة العلاقات الروسية-الأميركية".

أ.ف.ب
المبعوث الأميركي الخاص ستيف ويتكوف وصهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب جاريد كوشنر، برفقة مساعد الكرملين يوري أوشاكوف والمبعوث الاقتصادي للكرملين كيريل دميترييف، قبل اجتماع مع الرئيس الروسي في الكرملين في موسكو في 2 ديسمبر 2025

ويتضح اليوم أن تلك المهمة الناجحة أرست الأسس لجهوده الأخيرة في الوصول إلى الاتفاق مع إدارة ترمب حول مجموعة جديدة من مقترحات السلام في أوكرانيا.

وقدمت حادثة أخرى مثالا واضحا على الدور المحوري الذي يلعبه ديمترييف في تمثيل مصالح بوتين، عندما عقد مسؤولون من الجانبين الأميركي والروسي محادثاتهم التمهيدية الأولى في المملكة العربية السعودية حول مجموعة من القضايا، من بينها الصراع في أوكرانيا.

وتردد صدى نجاح اللقاء مع الزوار الأميركيين في تعليقات نشرها لاحقا على موقع "إكس" حين كتب: "روسيا منفتحة على التعاون الاقتصادي مع الولايات المتحدة، وتعتقد أن مثل هذا التعاون هو المفتاح نحو اقتصاد عالمي أكثر مرونة". وثمة توقعات بأن احتمال تطوير علاقات تجارية مربحة بين الولايات المتحدة وروسيا هو أحد الدوافع الرئيسة وراء محاولات ترمب للتوصل إلى اتفاق سلام في أوكرانيا، والذي من شأنه أن يمكّن واشنطن من رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على الكرملين.

أخصائي التحالفات الاستراتيجية

ولد ديمترييف في أوكرانيا في الحقبة السوفياتية، وكان أبواه عالمين بارزين. نشأ ودرس في مدرسة "ليسيوم" رقم 145 للنخبة في كييف، وهي مدرسة تنافسية للرياضيات والفيزياء، حيث يتذكر أصدقاؤه وزملاؤه أنه كان تلميذا مجتهدا مفتونا بالولايات المتحدة.

وفي عام 1989، اختير ديمترييف للمشاركة في برنامج تبادل طلابي مع الولايات المتحدة الأميركية، وهو من أوائل البرامج التي أُطلقت بين الجامعات الأميركية ونظيراتها السوفياتية. واصل دراسته في جامعة "ستانفورد" وتخرج فيها عام 1996، قبل أن يلتحق بجامعة "هارفارد" لنيل درجة الماجستير في إدارة الأعمال. وخلال وجوده في "هارفارد"، ورد اسمه في مقال نُشر في صحيفة "نيويورك تايمز" عام 2000 حول كلية إدارة الأعمال المرموقة، حيث عبّر ديمترييف عن إعجابه بالفرص التي أتاحها له البرنامج الجديد. وقال في ذلك المقال: "هناك إحساس رائع بالترابط مع زملائك في الفريق؛ تعيشون معا، وتخرجون ليلا للاحتفال بالانتصارات أو لنسيان الأحزان".

وأشار في ذلك المقال أيضا إلى طموحاته الشخصية، وموهبته في بناء العلاقات: "أذهب أيضا إلى نيويورك لتطوير الأعمال، وإقامة تحالفات استراتيجية، والالتقاء بالعملاء أربع مرات في الشهر".

بعد تخرجه من جامعة "هارفارد"، تابع مسيرته المهنية في "غولدمان ساكس" وهو بنك استثماري عالمي، و"ماكينزي آند كومباني" وهي شركة استشارات إدارية مرموقة، قبل أن يعود إلى موسكو للانخراط في ثورة السوق الحرة، حيث قضى معظم فترة العقد الأول من القرن الحادي والعشرين في شركة "دلتا برايفت إيكويتي"، الفرع المالي لمشروع حكومي أميركي يهدف إلى دفع الاستثمار الخاص في روسيا.

وتحت قيادته، نجح صندوق الاستثمار المباشر الروسي في الاستثمار مع شركاء أجانب في أكثر من 90 مشروعا بقيمة إجمالية تجاوزت 2.1 تريليون روبل، وتغطي 95 في المئة من مناطق الاتحاد الروسي

عندما أُنشئ صندوق الاستثمار المباشر الروسي عام 2011 لجذب الاستثمارات الأجنبية، بدا ديمترييف الخيار المثالي لهذا المنصب، فهو ممول ذو خبرة، متحدث أصلي للغة الروسية، مسلح بقاعدة اتصالات وعلاقات واسعة. ويجيد في الوقت نفسه مخاطبة الغربيين بلغتهم.

وتحت قيادته، نجح صندوق الاستثمار المباشر الروسي في الاستثمار مع شركاء أجانب في أكثر من 90 مشروعا بقيمة إجمالية تجاوزت 2.1 تريليون روبل، وتغطي 95 في المئة من مناطق الاتحاد الروسي. وأقام الصندوق شراكات استراتيجية مشتركة مع كبار المستثمرين الدوليين من أكثر من 15 دولة، منها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والصين وقطر والكويت والبحرين وكوريا الجنوبية واليابان وفيتنام وإيطاليا وفرنسا.

يقول ألكسندر كولياندر، المحلل المالي والباحث الأول غير المقيم في مركز "تحليل السياسات الأوروبية"، والذي عمل مراسلا ماليا لصحيفة "وول ستريت جورنال" في موسكو خلال العقدين الأول والثاني من القرن الحادي والعشرين: "إنه ذكي للغاية، ولا يشبه كثيرا المسؤولين الحكوميين الروس، فهو يعرف كيف يتصرف، ويتمتع بضبط النفس، ويدرك المفاهيم الاجتماعية جيدا ويتعامل بمسؤولية".

أ.ف.ب
الرئيس الروسي فلاديمير بوتن يلتقي بالرئيس التنفيذي لصندوق الاستثمار المباشر الروسي كيريل دميترييف في موسكو في 2 أبريل 2021.

ولعل أحد العوامل التي أسهمت في صعود ديمترييف كلاعب مؤثر في الكرملين كان الصلة العائلية الوثيقة التي تربطه بالرئيس بوتين. فزوجته، ناتاليا بوبوفا، تشغل منصب نائبة مدير شركة "إينوبراكتيكا"، التي أسستها كاترينا تيخونوفا، ابنة بوتين. وكان الزوجان من بين المدعوين إلى حفل زفاف تيخونوفا على زوجها السابق كيريل شامالوف.

مكانة ديمترييف المقرب من بوتين جعلته هدفا دائما للعقوبات الأميركية. استهدفه البيت الأبيض بعد ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، ثم فرض عليه إجراءات مماثلة بعد غزو أوكرانيا عام 2022. وعلى الرغم من أصوله الأوكرانية، تجنب ديمترييف التعليق العلني على الحرب، مفضلا التركيز على مسيرته المهنية داخل روسيا.

هذه العقوبات لم تحل دون استمرار تواصله مع البيت الأبيض، حيث واصل إرسال رسائل تتعلق بفرص استثمارية واعدة بين البلدين، في حال التوصل إلى اتفاق سلام في أوكرانيا، من بينها مشاريع بمليارات الدولارات في منطقة القطب الشمالي.

اليوم، يعزى الظهور الأخير لديمترييف كلاعب رئيس في مسار المحادثات حول أوكرانيا إلى العلاقة الشخصية الوثيقة التي تربطه مع ويتكوف

واليوم، يعزى الظهور الأخير لديمترييف كلاعب رئيس في مسار المحادثات حول أوكرانيا إلى العلاقة الشخصية الوثيقة التي تربطه بويتكوف، والتي بدأت عندما عملا معا على إطلاق سراح المدرس الأميركي مارك فوغل ضمن عملية تبادل أسرى في فبراير/شباط.

قال ويتكوف للصحافيين بعد العملية: "ثمة رجل محترم من روسيا، يدعى كيريل، وكان له دور كبير في هذا الأمر. لقد كان مهماً. وكان محاورا ناجحا قرّب المسافات بين الجانبين".

وبعد أيام، عندما التقى دبلوماسيون أميركيون وروس في المملكة العربية السعودية، ساعد اللقاء فعليا في كسر عزلة روسيا الدبلوماسية في الغرب.

ولكن على الرغم من قرب ديمترييف من بوتين، فإنه لا يحظى بتأييد جميع أصحاب النفوذ في موسكو، وتربطه علاقة متوترة على وجه الخصوص بوزير الخارجية المخضرم سيرغي لافروف، الذي يشغل منصبه منذ سنوات طويلة.

أ.ف.ب
الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، برفقة المبعوث الاقتصادي للكرملين كيريل دميترييف ومساعد الكرملين يوري أوشاكوف، مع المبعوث الأميركي الخاص ستيف ويتكوف وصهر الرئيس الأميركي، جاريد كوشنر في الكرملين في موسكو في 2 ديسمبر 2025

اصطدم لافروف وديمترييف في فبراير الماضي خلال محادثات السلام مع الولايات المتحدة في الرياض، عندما حاول وزير الخارجية استبعاده بإزالة الكرسي المخصص له، وفقا لشخصين منفصلين رويا الحادثة، إلا أن ديمترييف انضم في النهاية إلى الاجتماع بعد مكالمة هاتفية مع بوتين.

وقال مصدر مقرب من الكرملين لصحيفة "الغارديان": "لقد خلق ديمترييف أعداء له في روسيا. لكن في الوقت الحالي لا يمكن المساس به لأنه أثبت فائدته الكبيرة لبوتين". إن ثقة ديمترييف بقدراته دفعته إلى السعي وراء أجندته الخاصة، رافضا الأخذ بنصائح الدبلوماسيين المخضرمين.

وتابع المصدر: "إنه بحاجة ماسة لبعض النصائح في العلاقات الخارجية، لأنه اعترف لي بنفسه بأنه لا يمتلك الخبرة الكافية في هذا المجال. بيد أنه قرر أن يتولى الأمر بمفرده".

أما في اللحظة الراهنة، ولا سيما بعد النجاح الذي حققه في كسر الجمود في محادثات أوكرانيا، يبدو أن ديمترييف سوف يواصل الاضطلاع بدور محوري في إنهاء الحرب؛ طالما حافظ على دعم بوتين الشخصي.

font change