"في ظل السرو" ومضاعفات ما بعد صدمة الحرب

صمت يتيح التأويل

المخرجة ورسّامة الرسوم المتحركة الإيرانية شيرين سوهاني وزميلها حسين ملایيمي يحملان أوسكار أفضل فيلم قصير للرسوم المتحركة عن" في ظلال السرو" في هوليوود، 2 مارس 2025

"في ظل السرو" ومضاعفات ما بعد صدمة الحرب

يعيد الفيلم الإيراني القصير "في ظل السرو" الألق الى جماليات سينما الرسوم المتحركة، منحازا لبلاغة بصرية متفردة شعريا، تستغرق 20 دقيقة من السرد الصامت.

الفيلم الصادر عام 2023، بإخراج لافت من المبدعين الإيرانيين شيرين سوهاني وحسين مولاييمي، كان حصد جائزة الأوسكار لهذه السنة 2025، وبذا يثري رصيده من التتويج في أكثر من محفل، ومنها جائزة مهرجان البندقية لأفضل فيلم قصير 2023.

يرصد الفيلم العلاقة الهشة بين قبطان سفينة متقاعد، وابنته الصغيرة الوحيدة، بينما يعيشان في منزل أعزل، على شاطئ البحر.

يستهل الفيلم مشهده البكر باندفاع القبطان إلى المرآة ناطحا إياها بناصية رأسه، حدّ الكسر والإدماء، مما يؤشر الى حالة اضطرابه، فيما تبدي ابنته تعاطفا عواقبه الانهاك النفسي والجسدي. فهي تحاول الحفاظ على توازن البيت الطبيعي، بتدبير شؤونه، لكنها لا تجد في المقابل سوى ردود أفعال حادة عنيفة من والدها المتقلب المزاج، الضالع في نوبات عصابية متعاقبة، هي محض نوبات ما بعد صدمة الحرب، أفقدته غريزة الأبوة، وجعلته ينسحب من اشتراطات مسؤوليته كراع لابنة هي من أمست ترعاه بشكل مفارق.

وحين تتأهب للهرب بعد بلوغ يأسها درجة الاستياء المطلق، إذ يسقطها الأب لحظة كانت تسعفه في مهب غضب مستعر، تفاجأ الصباح الموالي بحوت ضخم يلفظه البحر على الشاطئ، فتتعاطف مع حالته الحرجة، في مسعى لإنقاذه من حالته المنكوبة، فتشرع في سكب الماء عليه، تخفيفا من وطء الشمس اللاسعة. أما الأب، القبطان المتقاعد، فلم يعر الحادثة أي انتباه، ربما عن شعور فادح بالعجز من خيبة أمله، خوفا من فشل قديم، وهذا ما يفصح عنه استرجاع الفيلم لذكريات سوداوية تتعلق بتاريخه الشخصي وهو يقود السفينة في حرب مدمرة آلت به إلى انكسار مبين.

في رهان الفيلم على اللاحوار، واعتماد الصمت البليغ كلغة مضاعفة، ينزاح بالتجربة الجمالية للمادة السينمائية صوب اجتراح قصيدة بصرية طاعنة في الشعرية

يتغير سلوكه فجأة مع هجوم النوارس على جثمان الحوت، بغية التهامه، وإذ تنبري ابنته لطرد الطيور المتحرشة، يمتشق هو بندقيته ويطلق رصاصة في سربها، ولا يكتفي بذلك، بل يتمادى، وهو يصوب البندقية إلى الحوت كيما يصيبه في مقتل، لكن ابنته تستبسل في منعه.

إنقاذ حوت

يعود الأب إلى سفينته المعطوبة، كأنما يسعى إلى استعادة ما تبقى من إنسانيته، ويقرر صباح اليوم التالي أن يربط الحوت بحبل، ويوجه سفينته إلى أعماق البحر، محررا الحوت من مأزقه، مسعفا إياه، ولحظة يتحرر الحوت وقد عاد إلى سالف حياته، يفك القبطان الحبل ويمسي الأب طافيا على المياه.

تجربة إنقاذ الحوت رمزية، تتماهى مع محاولة الأب الأخيرة لإنقاذ ما تبقى من روحه. فالسفينة الخردة هي ذاكرته، مجمل ماضيه، ومغامرة إسعاف الحوت هي نفسها التحرر من مأساة سيرته العائلية، صدمة موت زوجته في أتون تضاعيف الحرب، في مرام لاستيعاب مدى غور الجرح، وما خلاص الحوت إلا من خلاص الأب في تصالح عبر مشقة التضحية كشفاء.

مشهد من "في ظلال السرو"

ينحو الفيلم منحى بلاغة بصرية، تستغور حالات نفسية، تتأرجح بين الاسترجاع/ تقنية "الفلاشباك"، وآنية المضاعفات المأسوية لماض سوداوي، مستشرفة مآلات ذات عزاء. وفي رهان الفيلم على اللاحوار، واعتماد الصمت البليغ كلغة مضاعفة، ينزاح بالتجربة الجمالية للمادة السينمائية صوب اجتراح قصيدة بصرية طاعنة في الشعرية.

كل هذه العناصر المينيمالية جغرافيا (الشاطئ/ السفينة/ الحوت)، تكتنز في هامشيتها ومحليتها، مركزية كونية كبرى مجازيا، وهي تستند إلى تجربة إنسانية يتمثلها الأب المنكسر، وابنته كمعادل موضوعي لغياب الأم وإعادة التأقلم، عبر التضحية، يأتي الشفاء من فداحة انشطارات الماضي التراجيدي.

Getty Images / Kevin Winter / AFP
أندرو غارفيلد وغولدي هاون يسلّمان شيرين سوهاني وحسين ملاييمي جائزة أفضل فيلم قصير للرسوم المتحركة عن "في ظلال السرو" خلال حفل الأوسكار الـ97 في هوليوود، 2 مارس 2025

شعرية الثنائيات

استغرق إنتاج الفيلم ست سنوات بسبب عقبات التحديات، السياسية منها والمادية، ومع ذلك استطاع أن يتخطى ذلك بالاحتكام إلى أصالة الرسم اليدوي، وسلك أسلوب البساطة الثنائية الأبعاد، فضلا عن تجاوز سطوة الرقابة المفروضة من السلطة ووخامة العقوبات التي حدّت من مشاركة المخرجين في محافل العروض والمهرجانات.

ما يبدو عقدة فردية من حيث حدة المعاناة، هو في الآن ذاته عقدة جماعية، معنية بذاكرة كلية لتاريخ بلد بأكمله، وفق عثراته الاجتماعية وأعطابه الحضارية

بوتيرة التخفف من ثقل السرد، والجنوح إلى وتيرة الترميز البصري، ينزع الفيلم إلى تحقيق توازن، تتضافر فيه الثنائيات في خلق الأثر الفني:

- الاضطراب النفسي للقبطان يتطابق مع الاضطراب البصري، إذ أن كدمات التشوش في هندسة الخطوط شكلا، هي نفسها بثور الاختلال الروحي للشخصية.

- التوازن بين ما هو جمالي وأخلاقي، إذ أن حجم الألم لا يفيض كمعطى جاهز، مبالغ في وجدانية مأسويته حدّ الاستغلال أو الارتزاق، بل هو مادة إيحائية، تحيل عليه دوال سيميائية، يتموقع فيها الألم في استلابية الماضي، مجهزا على يقظة الحاضر، مع إبقاء كوة مفتوحة على عزاء المستقبل.

- ما يبدو عقدة فردية من حيث حدة المعاناة، هو في الآن ذاته عقدة جماعية، معنية بذاكرة كلية لتاريخ بلد بأكمله، وفق عثراته الاجتماعية وأعطابه الحضارية.

- النزوع إلى الاقتصاد الإبداعي لغة، حكاية، تقنية، يفتح القراءة المتعددة على تأويلات لا محدودة، تسبغ على الفيلم معنى قوته الدامغة، من خلال عين إبرة: السهل الممتنع.

- كل ما في حركية الفيلم إيقاعيّ، يتماهى مع موسيقى الماء.

- مجمل الأصوات في الفيلم، تؤدي دور الحكي المضاعف، أو الحكي الفعلي، بدءا بصدى الأمواج، ورجع الرياح، وصرير الخشب، وحدة تهشم الزجاج، ونعيق النوارس، فضلا عن تقلبات حركية البيت، إنسانية كانت أو غيرها، تتطابق مع ما يقع داخليا في أغوار نفسيتي القبطان وابنته، وبذا فجدلية الداخل والخارج تتوطآن في إنتاج معنى بقدر ما هو مزدوج، هو متعدد وملحمي.

- التماثل في فاعلية الشخصيات، إذ أن البحر والحوت والسفينة محض شخصيات تخييلية تضاهي شخصيتي القبطان المتقاعد وابنته.

مشهد من "في ظلال السرو"

رمزية السرو

لكن، ماذا يعنيه السرو في عنوان الفيلم؟

في الميثولوجيا الإغريقية والرومانية، قام سيباريسوس وهو صبي محبوب من لدن أبولو، بقتل غزاله الأليف على سبيل الخطأ، وأمسى حزينا على نحو تراجيدي حد أنه ظل يبكي الى الأبد، وتحوّل بفعل ذلك إلى شجرة سرو.

وفق هذه الخلفية الأسطورية، أضحى السرو يحيل على الحداد، في الثقافات الغربية، لكن في الوقت ذاته كان يمثل القداسة والصلابة والخلود في الفكر الزرادشتي، الى درجة أن مثلهم الشعبي يقول بأن من قطع شجرة سرو مصيره القتل. أكثر من ذلك، تعد شجرة السرو في المعتقد الجمعي لسكان أميركا الأصليين مصدرا للحماية والشفاء.

وفي النسق الفارسي، يغدو السرو رمزا روحيا، كمصدر للتطهير، تتراجع فيه سلطة الأنا، لصالح وتيرة نمو جماعية شاملة.

ما بين الحكمة والخلود، تتأرجح قدسية شجرة السرو التي راهن عليها الفيلم في عنوانه، فهي القوام الرشيق الدال على قد الحبيبة، وهي في الآن ذاته قوة التحمل

ما بين الحكمة والخلود، تتأرجح قدسية شجرة السرو التي راهن عليها الفيلم في عنوانه، فهي القوام الرشيق الدال على قد الحبيبة، وهي في الآن ذاته قوة التحمل التي تقاوم تقلبات المناخ عبر تحولات الفصول، إذ تظل محتفظة بخضرتها الى الأبد، كيفما عصفت بها تموجات المناخ.

مشهد من "في ظلال السرو"

في ظل السرو إذن، يتطهر تاريخ القبطان المتقاعد وتشفى جراح تاريخه بفعل حضور طارئ لحوت، يحرض على التضحية، يحفز على إيقاظ ما تبقى من روح منكسرة، في سبيل التطهر من عار جماعي، وشرارة التطهير تتألق في وعي وحرص ابنة، مثقل كاهلها بهزائم أب وجيله، تنبري هذه الابنة البطلة إلى إسعافه على الخلاص، الابنة التي تعادل مستقبل بلاد تيمّم بوجهها شطر الأمل والتصالح.

font change