ازدواجية سياسات بريطانيا باتجاه أفريقيا... السودان ورواندا مثالا

استبدال الدبلوماسية القيمية بدبلوماسية المصلحة

أ.ف.ب
أ.ف.ب
مقاتلو الجبهة الوطنية الرواندية يتوجهون إلى خط المواجهة في 13 فبراير 1993، حيث يقاتلون القوات الحكومية منذ خمسة أيام.

ازدواجية سياسات بريطانيا باتجاه أفريقيا... السودان ورواندا مثالا

في رواية أوسكار وايلد صورة دوريان غراي، يبرم البطل صفقة شيطانية تمنحه القدرة على الحفاظ على مظهر الشباب والبراءة الجميل أمام المجتمع، بينما تتشوه صورة وجهه في اللوحة المخفية أعلى منزله بسبب التشوهات الأخلاقية والنفسية الناجمة عن خطاياه. هذه الاستعارة من الخيال الأدبي، تقدم إطارا تحليليا ناجعا لتصوير السياسات البريطانية باتجاه القارة الأفريقية، حيث يتكشف للناظر إلى توجهات وسياسات المملكة المتحدة في أفريقيا عن ازدواجية هي في حد ذاتها انعكاس لأزمات بريطانيا الداخلية. فالمملكة المتحدة تلبس في المحافل الدولية قناعا لامعا تطغى عليه ملامح القيم الليبرالية والشرعية الدولية والدفاع عن مبادئ الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان، ولكنها تخفي خلف ذلك سياساتها الفعلية والتي تتبنى كل شيء هو نقيض ذلك.

إن هذا التناقض ليس مجرد تحول سياسي عرضي، بل نتاج تحول استراتيجي أعمق، بدأ مع سعي بريطانيا لإعادة رسم دورها العالمي بعد البريكست، حيث بدأت تتخلى تدريجيا عن الالتزامات السياسية الأخلاقية- التي كان كثير منها مفروضا عليها بشكل معياري على أسس مواثيق واتفاقيات الاتحاد الأوروبي- لصالح تحالفات برغماتية نفعية، بشكل يعكس تحولات فلسفية في مفهوم القيم البريطانية في عصر الانكفاء على الداخل. ويتجلى هذا الارتداد القيمي بوضوح أيضا في الدعوات السياسية القوية لانسحاب بريطانيا من المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وحملة تعديل قانون حقوق الإنسان 1998 والذي اعتمد على الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان كإطار لحماية الحقوق، وتسعى الدوائر السياسية البريطانية لاستبداله بقانون بريطاني جديد وتعديل بنوده خصوصا في المواد المتعلقة بحقوق المهاجرين وطالبي اللجوء.

تُقدِّم المملكة المتحدة نفسها في المحافل الدولية بوصفها دولة راسخة في احترام سيادة القانون، وبوصفها مانحا سخيا للمساعدات، وحامية لحقوق الإنسان. غير أن هذا الوجه المصقول لا يعكس الصورة الحقيقية المخفية في العلية الأفريقية، والتي يحمل الوجه البريطاني فيها تشوهات السياسات البريطانية باتجاه القارة السمراء. هذه التشوهات التي تنكشف ملامحها بوضوح في ملفين مترابطين: السودان، الذي يجسد خطيئة الصمت والتواطؤ أمام جرائم ممنهجة. ورواندا، التي تعكس خطيئة الهندسة السياسية وتزييف الواقع عبر إعادة إنتاج أنماط الهيمنة تحت غطاء الشراكة.

هاتان الحالتان لا تمثلان استثناء، بل تكشفان عن نمط منهجي في السياسة البريطانية النفعية تجاه أفريقيا، حيث يتم تقديم المصلحة البريطانية وتجاهل الالتزام القيمي، ويُستَخدم خطاب حقوق الإنسان والشراكة المتساوية بشكل مخادع كأداة لتبرير ممارسات تُفاقم عدم الاستقرار الإقليمي وتُشرعن الجرائم والاستغلال، وتُقوِّض الجهود الدولية لمكافحة الفساد والانتهاكات الإنسانية.

في سياق ما بعد "البريكست"، تسعى بريطانيا إلى إعادة صياغة علاقاتها التجارية والأمنية مع أفريقيا والعالم بأسره على أساس نفعي صارخ. ويتبدى التناقض في هذه السياسات بين الادعاءات المعلنة والواقع الفعلي، الذي يعكس استمرار إرث الهيمنة في ثوب جديد، ويطرح تساؤلات جوهرية حول الدور البريطاني في دعم الاستقرار والعدالة الدولية.

تم حظر استخدام مصطلح "إبادة جماعية" في تقارير تقييم المخاطر الخاصة بالصراع في السودان عند اندلاع الحرب وتم تخفيف اللغة لتقول إن دارفور "قد تعود إلى الصراع"

في الملف السوداني لا يمكن النظر إلى الدور البريطاني دون وضع الجذور التاريخية في الاعتبار، إذ إن السودان ليس مجرد نقطة هامشية في السياسة الخارجية البريطانية، بل هو نتاج مباشر للإمبراطورية الاستعمارية البريطانية، التي رسمت حدوده وأسست هيكله الإداري، مما يجعل أي تورط معاصر يحمل أبعادا أخلاقية مزدوجة. هذا البعد الأخلاقي زاد من عمقه الانخراط البريطاني في أعمال الآلية الرباعية التي سبقت الانزلاق إلى الحرب الحالية في السودان، ومجهودات سفيرها السابق للخرطوم (جايلز ليفر) في فرض تصورات معينة عن إصلاح المؤسسات العسكرية والأمنية في السودان. وبعد الحرب، مضت بريطانيا إلى ممارسة دور حاملة القلم "Penholder" في صياغة مشروعات القرارات الأممية في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وهو تموضع استراتيجي لا يمكن النظر إليه كإجراء تقني محايد، بل هو موقع سياسي يضاعف من مسؤوليتها الأخلاقية باتجاه ما يحدث في السودان.

أ.ف.ب
سودانيون فارّون من الفاشر في دارفور يملأون صفائح المياه في مخيم العفاد للنازحين في بلدة الدبة، شمال السودان، في 21 نوفمبر 2025.

ومع كل ذلك، فقد كشفت تقارير حديثة عن تورط مخزٍ للحكومة البريطانية في التغطية على الكارثة التي تتجلى في السودان. فقد كشفت صحيفة "الغارديان" البريطانية في تقرير حديث (ديسمبر 2025) بحسب تسريبات منسوبة إلى مسؤول حكومي عن قيام وزارة الخارجية البريطانية بممارسة رقابة لحجب تقارير تحذر من خطر الإبادة الجماعية التي ترتكبها ميليشيا "الدعم السريع" في إقليم دارفور. وتم حظر استخدام مصطلح "إبادة جماعية" في تقارير تقييم المخاطر الخاصة بالصراع في السودان عند اندلاع الحرب وتم تخفيف اللغة لتقول إن دارفور "قد تعود إلى الصراع". واستمر هذا النهج في الرقابة وتخفيف اللغة في تقييم المخاطر حتى بعد ما حدث في الجنينة في غرب دارفور وهو ما تم تصنيفه على نطاق واسع على أنه إبادة جماعية، وهو تصنيف لم ينحصر على المنظمات الحقوقية والإنسانية فحسب بل اعتمدته الحكومة الأميركية  نفسها بشكل رسمي.

وقد أشار تقرير "الغارديان" إلى أن الهدف الرئيس من هذه الرقابة كان تجنب إغضاب جهات إقليمية متورطة في دعم ميليشيا "الدعم السريع"، المسؤولة عن عمليات عنف واسعة النطاق وجرائم حرب في دارفور والسودان بأسره، وشمل هذا الدعم توفير أسلحة وتمويل ودعم سياسي يعزز من قدراتها العسكرية. وهنا تتجلى البرغماتية في أقسى أشكالها: بريطانيا، التي نصبت نفسها "حاملة القلم" في مجلس الأمن الدولي بما يجعلها مسؤولة عن صياغة القرارات المتعلقة بالسودان، اختارت تعطيل آليات الإنذار المبكر للإبادة الجماعية لحماية تحالفاتها ومصالحها الاقتصادية والدبلوماسية. هذا التواطؤ لم يكن خطأ إداريا، بل توجه واعٍ يعكس آلية رقابة داخلية تحول دون انتشار معلومات قد تؤثر على علاقات بريطانيا الدبلوماسية مع شركاء متورطين في دعم الانتهاكات، مما يعزز من ثقافة الإفلات من العقاب ويجعل بريطانيا شريكا غير مباشر في استمرار الصراع.

ملف ترحيل طالبي اللجوء في بريطانيا إلى رواندا لم يكن مجرد سياسة تنظيم للهجرة، بل انقلاب فلسفي على مبادئ القانون الدولي بشكل يقوم على تسليع الحقوق الإنسانية مقابل الحسابات السياسية والصفقات الاقتصادية

ظهور هذا التواطؤ البريطاني ليس جديدا في هذه الحرب. فقد وردت تقارير من "الغارديان" وغيرها من وسائل الإعلام في يونيو/حزيران 2024، عن سعي الخارجية البريطانية لإسكات وقمع الانتقادات الموجهة لدور أطراف خارجية وإقليمية في تسليح ميليشيا "الدعم السريع". كما أفادت تقارير أخرى بأن معدات عسكرية بريطانية وجدت في يد جنود الميليشيا، مما يثير تساؤلات حول فعالية ضوابط التصدير الأخلاقية وعما إذا كانت حكومة بريطانية تغض النظر عن وصول أسلحتها إلى يد ميليشيا فاشية تمارس الإبادة الجماعية.

يؤسس هذا السلوك البريطاني لنمط يتجاوز العجز الدبلوماسي عن المشاركة الفاعلة في إنهاء الأزمات إلى الشراكة السلبية في التغطية على الجرائم. ويقوض مصداقية بريطانيا كقوة دولية مسؤولة ويفتح الباب أمام تكرار مثل هذه الانتهاكات في سياقات أخرى، ويثير أسئلة حول ما إذا كانت الدبلوماسية البريطانية التي ترفع شعارات حقوق الإنسان والشرعية الدولية هي مجرد غطاء للحفاظ على مصالح اقتصادية على حساب الأرواح.

رويترز
أطفال لاجئون سودانيون من الفاشر يتناولون وجبة طعام من طبق واحد في مخيم طينة المؤقت للاجئين، وسط الصراع بين قوات الدعم السريع شبه العسكرية والجيش السوداني، شرق تشاد، 22 نوفمبر 2025

هذه التقارير عن السلوك البريطاني في السودان تعكس نمطا متكررا في ملف أزمة جمهورية الكونغو الديمقراطية، والذي شهد تكرارا مماثلا، بما يكشف عن وحدة منهجية نفعية في السياسة البريطانية باتجاه أفريقيا. تجاهلت لندن تقارير عن تورط رواندا في دعم متمردي "M23" في الكونغو، وذلك للحفاظ على صفقة ترحيل اللاجئين التي كانت تحاول عقدها مع كيغالي. هذا الرابط ليس مصادفة، بل يعكس نمطا ينتقل من الصمت عن الجريمة في السودان إلى التغطية على الجاني في رواندا، ويجعل الانتهاكات الإنسانية والحديث عنها مجرد ورقة مساومة سياسية وليس التزاما مبدئيا.

وإذا كان السودان يمثل فشلا من خلال التجاهل والتعمية السلبية، فإن رواندا تعكس سقوطا سياسيا من خلال الفعل المتعمد. فملف ترحيل طالبي اللجوء في بريطانيا إلى رواندا لم يكن مجرد سياسة تنظيم للهجرة، بل انقلاب فلسفي على مبادئ القانون الدولي، بشكل يقوم على تسليع الحقوق الإنسانية مقابل الحسابات السياسية والصفقات الاقتصادية. وقد شهد هذا الملف تطورات متسارعة في الفترة الأخيرة، فعندما حكمت المحكمة العليا البريطانية بأن رواندا غير آمنة لترحيل طالبي اللجوء إليها في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وأن سياسة الحكومة تنتهك مبدأ عدم الإعادة القسرية، لم تتراجع الحكومة البريطانية عن صفقتها ولم تقم بإعادة تقييم ومراجعة معايير حقوق الإنسان في الصفقة، بل عملت على إصدار قانون سلامة رواندا لعام 2024، الذي يجبر المحاكم على التعامل مع رواندا كدولة آمنة بقوة القانون، بغض النظر عن الوقائع، وهذه السابقة الخطيرة تضرب استقلالية القضاء. في عام 2025، أدت التغيرات الحكومية وخسارة المحافظين للانتخابات إلى إلغاء خطة الترحيل من خلال تشريعات جديدة مثل قانون أمن الحدود واللجوء لعام 2025، الذي يلغي أجزاء من الفعل السابق، مع الإعلان عن معالجة مطالبات آلاف اللاجئين داخل بريطانيا بدلا من الترحيل، ورفض دفع مبالغ إضافية إلى رواندا.

عند تجميع عناصر صورة دوريان غراي البريطانية بالنظر إلى تصرفاتها وسياساتها في السودان ورواندا، يبدو واضحا أن المملكة المتحدة استبدلت الدبلوماسية القيمية بدبلوماسية المصلحة

عكست هذه الأحداث كيف تنظر بريطانيا إلى ملف اللجوء الذي تحول من التزام إنساني بموجب اتفاقية1951  إلى عبء لوجستي يُدار عبر التعاقد الخارجي. أصبحت العلاقة مع رواندا علاقة تجارية. تدفع لندن ملايين الجنيهات، بينما تتولى كيغالي إدارة المشكلة البشرية. ويتحول اللاجئون من أفراد يتمتعون بحقوق إلى بضائع قابلة للنقل، مما يعكس فراغ منظومة حقوق الإنسان الغربية من أي جوهر أخلاقي. كما أن تكاليف الخطة، التي بلغت مئات الملايين، تكشف عن أولويات اقتصادية تفوق الاعتبارات الإنسانية، وتثير نقدا لاذعا حول كيفية استخدام المساعدات الخارجية كأداة للضغط السياسي. بينما كانت بريطانيا تدفع لرواندا لاستقبال اللاجئين، كانت تتجاهل تقارير تفيد بتورط رواندا في صناعة المزيد من اللاجئين من خلال دعم ميليشيا "M23" في الكونغو، حيث أفادت تقارير الأمم المتحدة بمشاركة آلاف الجنود الروانديين في التمرد الذي اجتاح الكونغو، ومسؤولية رواندا عن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في المنطقة. هذه الحلقة المفرغة تعكس تناقضا جوهريا: تمويل نظام يساهم في صناعة الأزمات التي تزعم بريطانيا الاهتمام بحلها، ويعزز من عدم الاستقرار الإقليمي ويزيد من تدفق اللاجئين، ويبرز فشلا في الرؤية الاستراتيجية يعكس ازدواجية أخلاقية عميقة، حيث تُستخدم القيم الإنسانية كغطاء لسياسات تؤدي إلى تفاقم النزاعات.

رويترز
لاجئون سودانيون وأطفالهم من دارفور يسافرون بشاحنة إلى إيريبا، وسط الصراع الدائر في بلادهم، بالقرب من مخيم إيريديمي للاجئين، شمال غرب بلدة إيريبا، في ولاية وادي فيرا، شرق تشاد، 28 نوفمبر 2025.

عند تجميع عناصر صورة دوريان غراي البريطانية بالنظر إلى تصرفاتها وسياساتها في السودان ورواندا، يبدو واضحا أن المملكة المتحدة استبدلت الدبلوماسية القيمية بدبلوماسية المصلحة، حيث تتجاهل الانتهاكات لصالح تحالفات مع جهات إقليمية وأنظمة مشكوك فيها. في السودان، حذفت الإبادة من قاموسها لحماية حلفاء أثرياء من ذوي النفوذ. وفي رواندا، تجاهلت الخطر وسنت قوانين تعسفية لتصدير أزماتها.

نزاهة الدبلوماسية البريطانية لم تتشوه فحسب، بل تآكلت تماما، مما يدعو صانعي القرار البريطانيين إلى إعادة تقييم جذري للسياسات الخارجية لضمان توافقها مع المبادئ الأخلاقية، قبل أن يصبح التشوه غير قابل للإصلاح ويؤدي إلى فقدان كامل للمصداقية العالمية.

font change