قراءة في المخاوف المصرية من إنشاء قاعدة عسكرية روسية في السودان

موقع متقدم في المياه الدافئة

أ.ف.ب
أ.ف.ب
سفينة تابعة للبحرية الروسية راسية في ميناء مدينة بورتسودان السودانية، في 27 أبريل 2021

قراءة في المخاوف المصرية من إنشاء قاعدة عسكرية روسية في السودان

تتابع القاهرة بقلق وغضب شديدين مساعي الخرطوم وموسكو لإحياء اتفاقية تعود إلى عام 2020، واستعدادهما لتحويل بورسودان إلى أحدث قاعدة بحرية روسية على البحر الأحمر، مباشرة عند التخوم الجنوبية لمصر.

بالنسبة إلى الجيش السوداني المُحاصَر، يبدو الإسراع في تفعيل الاتفاق أمرا مفهوما تماما؛ إذ يعاني من نفاد الذخيرة والأراضي، وضيق الوقت، في ظل حربٍ أهليةٍ تهدده بالإقصاء من المشهد وتدفع السودان نحو مزيد من التفكك والتشظي. وستكون القاعدة الروسية في بورسودان ثمنا للأسلحة والتدريب والحماية التي يحتاجها هذا الجيش للبقاء على قيد الحياة، والحفاظ على ما تبقّى من السودان كدولة متماسكة.

من جانبها، تواجه موسكو تحديات متصاعدة. فمع اهتزاز موطئ قدمها في طرطوس وإغلاق تركيا للمضائق، يجد الكرملين نفسه اليوم في حاجة ماسّة إلى منفذ جديد على المياه الدافئة.

لكن بالنسبة إلى مصر، لا يمكن أن يأتي هذا التطور في توقيت أسوأ؛ ففي الوقت الذي تجهد فيه قناة السويس لتخرج من أزمتها التي أحدثها الحوثيون في البحر الأحمر، وتبلغ التوترات مع إثيوبيا ذروتها في ملف مياه النيل، يتهدّد المشهد بظهور جيبٍ روسي على بُعد كيلومترات فحسب، الأمر الذي قد يهدد بتحوّل أهم ممر مائي لمصر، أي البحر الأحمر، إلى ساحة صراع بين القوى العظمى.

أداة البقاء

في جوهره، لا يرتبط إحياء اتفاقية عام 2020 لإنشاء قاعدة بحرية روسية في بورسودان بحسابات الاستراتيجيات الكبرى بقدر ما يتصل بمنطق البقاء. فالجيش السوداني يخوض معركة من أجل بقائه في حربٍ أهلية اندلعت في أبريل/نيسان 2023، وأسفرت بالفعل عن مقتل مئات الآلاف ونزوح الملايين من ديارهم. ويبدو أن العدو، "قوات الدعم السريع"، يملك ثروة من المال والمسيرات والأسلحة تأتيه من الداعمين الأجانب.

ومن ناحية أخرى، بدأ الجيش ينفد من الذخيرة والطائرات والخيارات معا؛ إذ إنّ العقوبات الغربية المفروضة على السودان، والسارية منذ عام 1994، أغلقت أبواب معظم أسواق الأسلحة الحديثة، وهو الأمر الذي وضع الجيش السوداني في حالة اختلال خطير في ميزان التسليح.

تواجه موسكو تحديات متصاعدة. فمع اهتزاز موطئ قدمها في طرطوس وإغلاق تركيا للمضائق، يجد الكرملين نفسه اليوم في حاجة ماسّة إلى منفذ جديد على المياه الدافئة

لقد كانت روسيا أقدم مورّد للأسلحة إلى السودان وأكثرها موثوقية؛ إذ إنّ معظم ترسانة الجيش السوداني الحالية روسية الصنع.

وحاليا، ستوفّر موسكو، مقابل عقد إيجار يمتدّ 25 عاما لقاعدة بحرية في بورسودان، ما يحتاجه الجيش السوداني: أنظمة دفاع جوي متقدمة، وطائرات مقاتلة حديثة، وكميات هائلة من الذخيرة، بالإضافة إلى التدريب المكثف.

وستؤدي القاعدة مهمة مزدوجة: تسديد ثمن الأسلحة، ونشر القوات الروسية مباشرة في بورسودان، والتي تُعدّ عاصمة الجيش في زمن الحرب وشريان حياته الاقتصادي الأخير.

ومن غير الواضح ما إذا كان هذا التطور سيُخفف من غلواء "قوات الدعم السريع"، التي تسيطر حاليا على معظم غرب السودان، ويمنعها من التقدم شرقا والاستيلاء على الميناء الرئيس الوحيد في البلاد. ولكن الأكيد أن حسابات الخرطوم الحالية لا تتعلق بتحالفات القوى العظمى بقدر ما تتعلق بحسابات ساحة المعركة مباشرة. ومن دون ضخّ كميات هائلة من القوة النارية، قد تنهار وحدات الجيش السوداني خلال أشهر، إن لم يكن خلال أسابيع.

هذا هو السبب الذي يرجح معه أن يُنظر إلى المساعدة الروسية- من وجهة نظر جنرالات الجيش السوداني- باعتبارها شريان حياةٍ أكثر سرعة وفعالية من حيث التكلفة، حتى وإن كان ثمن ذلك يتمثل في وجود عسكري روسي على ساحل السودان لمدة ربع قرن أو يزيد.

رويترز
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس السوداني السابق عمر البشير خلال اجتماعهما في منتجع سوتشي على البحر الأسود، روسيا، في 23 نوفمبر 2017

بعد التصديق على الاتفاق، من المتوقع أن ترسل روسيا قرابة 300 فرد عسكري لتولي قيادة أربع سفن حربية، بينها سفن تعمل بالطاقة النووية، وسيتمركز هؤلاء في ميناء بورسودان طوال مدة عقد الإيجار.

بالنسبة إلى موسكو، فإن التوقيت الحالي لإنشاء قاعدةٍ كهذه مُلِحٌ إلى أقصى الحدود. كما أن موقع بورسودان يحمل قيمة استراتيجية أكبر مقارنة بالبدائل المحتملة.

قبل عامٍ من الوقت الحالي تماما، أدى السقوط المفاجئ لبشار الأسد في سوريا إلى إلقاء القاعدة العسكرية الروسية في ميناء طرطوس على البحر المتوسط في دوامة من الشك والترقب.

قبل عامين تقريبا، أغلقت تركيا المنفذين الاستراتيجيين (مضيقَي البوسفور والدردنيل) أمام السفن الحربية، وهو الأمر الذي أدى إلى خنق الخطّ الحيوي الذي يربط أسطول البحر الأسود الروسي بمحيطات العالم.

بل إن الهجمات الأوكرانية التي تفاقم الأزمة بالنسبة للكرملين قد أصابت البحرية الروسية بشلل جزئي وأغلقت ممراتها البحرية المعتادة، ما أجبر سفنها على سلوك طرقٍ جانبية طويلة ومحفوفة بالمخاطر حول أوروبا وأفريقيا، وذلك لمجرد الوصول إلى البحار البعيدة.

ستوفّر موسكو، مقابل عقد إيجار يمتدّ 25 عاما لقاعدة بحرية في بور سودان، ما يحتاجه الجيش السوداني: أنظمة دفاع جوي متقدمة، وطائرات مقاتلة حديثة، وكميات هائلة من الذخيرة، بالإضافة إلى التدريب المكثف

ومع ذلك، يمكن لميناء بورسودان أن يُحدث نقلة استراتيجية كبرى دفعة واحدة. فلن يقتصر دوره على كونه مرسى للسفن الروسية فحسب، بل يمكن أن يكون حوضا للإصلاحات، ومستودعا للوقود، ومحطة لاعتراض الاتصالات الإلكترونية، جميعها في موقع واحد.

وسيكون الموقع الجديد في البحر الأحمر محصّنا بطبقتين من الحماية الاستراتيجية: فهو بعيد عن المضائق البحرية الضيقة في المتوسط التي يسهل حظرها، وخارج نطاق الدوريات الرئيسة لقوات حلف شمال الأطلسي.

وسيشكّل هذا الموقع أول قاعدة بحرية دائمة حقيقية لموسكو في القارة الأفريقية، محوّلا الزيارات البحرية العابرة إلى وجود استراتيجي مستدام على مدار العام.

ومع ذلك، تبرز وسط هذا الحديث عن المكاسب المحتملة حقائق واقعية صلبة لا يمكن تجاهلها. لقد أدت الحرب في أوكرانيا إلى استنزاف روسيا عسكريا واقتصاديا، إذ أتت على كميات هائلة من الذخيرة والصواريخ، وأفرغت خزائن الدولة، تاركة مصانعها وأحواض بناء السفن تعاني لمواكبة الطلب المتصاعد.

أ.ف.ب
تصاعد الدخان عقب غارة جوية بطائرة مسيرة على ميناء بورتسودان في 6 مايو 2025

ومن هذا المنطلق، يفرض الواقع نفسه بسؤالٍ لا مفر منه: بعد ثلاث سنوات وحشية من الحرب في أوكرانيا، هل لا تزال روسيا تملك من الموارد المالية، والمعدات العسكرية، والطاقة التشغيلية الاحتياطية ما يكفي لبناء قاعدة جديدة تماما، وتجهيزها، وحمايتها، على بُعد آلاف الكيلومترات من حدود الوطن؟

القلق المصري

بالنسبة إلى مصر، يُعدّ السودان جارا استراتيجيا، ودرعا جنوبيا، وحارسا على منابع النيل، والمنطقة العازلة الأخيرة التي تصد أي اضطرابات قادمة من القرن الأفريقي.

وعليه، فإن أي وجود عسكري أجنبي على الأراضي السودانية- لاسيما على امتداد ساحل البحر الأحمر- تتعامل معه القاهرة باعتباره اختراقا للمجال الحيوي لأمنها القومي، وليس مجرد قضية ثنائية يمكن حصرها.

وليس هذا الموقف بجديد، ولا سيما في ضوء امتلاك مصر لحساسية تاريخية عميقة- تكاد تكون مبدأ راسخا- تجاه انتشار القواعد العسكرية الأجنبية بالقرب من حدودها. وفي حين ترحب مصر بحرارة بالتعاون العسكري مع روسيا، سواء عبر صفقات السلاح أو التدريبات المشتركة، فإنها تضع باستمرار خطّا أحمر واضحا أمام إنشاء منشآت عسكرية أجنبية دائمة على أراضي جيرانها، حتى وإن كانت تابعة لنفس الحليف.

في حين ترحب مصر بالتعاون العسكري مع روسيا، سواء عبر صفقات السلاح أو التدريبات المشتركة، فإنها تضع باستمرار خطّا أحمر واضحا أمام إنشاء منشآت عسكرية أجنبية دائمة على أراضي جيرانها

يُظهر التاريخ بوضوح مدى تشدّد القاهرة في رفضها لأي وجود عسكري أجنبي على الإطلاق. ففي عام 2017، عندما وقّع الرئيس السوداني آنذاك عمر البشير اتفاقا منح تركيا موطئ قدمٍ بحريا في جزيرة سواكن على البحر الأحمر، كان الردّ المصري فوريا وغاضبا إلى أقصى الحدود.

ربما بدا ذلك للمراقبين الخارجيين جولة جديدة في الصراع الإقليمي المزمن بين أنقرة والقاهرة، وهو الأمر الذي فسّره البعض آنذاك بالخلافات الأيديولوجية العميقة بين النظامين.

إلا أن رد الفعل المصري على الوجود العسكري التركي في البحر الأحمر كان ينبع من دوافع أعمق بكثير من مجرد خلافات أيديولوجية. لقد كان ردة فعلٍ غريزية من دولة ترفض مبدأ جوهريا يتمثل في السماح لقوة أجنبية- سواء أكانت معادية أم منافسة- بتثبيت وجودها العسكري في عمق محيطها الاستراتيجي الحيوي.

أ.ف.ب
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونظيره السوداني علي يوسف الشريف خلال اجتماع في موسكو، في 12 فبراير 2025

في عام 2020، عندما تداولت الأوساط أخبارا جادة بشأن إنشاء قاعدة لوجستية روسية في بورسودان، سافر رؤساء الأجهزة الاستخباراتية المصرية على الفور إلى الخرطوم للمطالبة بتوضيحات عاجلة، حيث تعاملوا مع هذا الاقتراح باعتباره خرقا صريحا للقواعد الإقليمية غير المعلنة.

وتواجه هذه المبادئ الحاكمة الآن اختبارا أكثر صعوبة وحسما من أي وقت مضى.

لقد أدت الحرب الأهلية المستعرة في السودان إلى تدفق مئات الآلاف من اللاجئين نحو مصر، وهو الأمر الذي زاد من أعبائها الاقتصادية وزعزع استقرار حدودها الجنوبية.

وقد يمكّن الوجود العسكري الروسي المُحتَمَل على ساحل البحر الأحمر السوداني روسيا من تقديم حماية عسكرية وضمانات أمنية مباشرة للنظام الحاكم في الخرطوم. ومن شأن هذه الضمانات الأمنية أن تتداخل على نحو مباشر مع الدور التاريخي لمصر كراعٍ وحامٍ رئيس للسودان، بل وقد تُشكّل تحديا صريحا لهذا النفوذ التقليدي.

من شأن الضمانات الأمنية الروسية أن تتداخل على نحو مباشر مع الدور التاريخي لمصر كراعٍ وحامٍ رئيس للسودان، بل وقد تُشكّل تحديا صريحا لهذا النفوذ التقليدي

من الناحية الاستراتيجية البحتة، لا يمكن تصور توقيت أكثر حرجا لوصول الوجود الروسي إلى السودان. فالبحر الأحمر، الذي يمر عبره ما يقارب 12 في المئة من التجارة العالمية، يظل الشريان الحيوي الأهم لاقتصاد مصر عبر عائدات قناة السويس.

بعد عامين من الهجمات المستمرة التي شنها الحوثيون في خليج عدن والبحر الأحمر- المرتبطة استراتيجيا بحرب غزة- لم تبدأ حركة الملاحة التجارية في التعافي إلا حاليا وعلى نحو تدريجي.

إن إضافة منشأة بحرية روسية دائمة إلى هذه المعادلة الهشّة قد يمنح موسكو الأدوات التي تتيح لها مراقبة- بل وتعطيل إذا ما ارتأت ذلك- الممرات الملاحية التي تراها مصر شريان حياة لسيادتها واقتصادها.

جيبوتي المجاورة للسودان تضمّ بالفعل كثافة عالية من القواعد العسكرية الأجنبية، من ضمنها منشآت أميركية وفرنسية وصينية. ولن تؤدي إضافة قاعدة روسية دائمة إلى المنطقة إلا إلى تحويل البحر الأحمر من فضاء متوترٍ لكنه مُدار إلى ساحة صراعٍ مفتوح بين القوى العظمى، وهذه هي الفوضى بعينها التي تسعى مصر جاهدة للابتعاد عن معمعتها.

font change