سرد الجيل والبلاد في "كتاب الغرفة" لعقل العويط

ذاكرة مشتركة تتجاوز السيرة الفردية

سرد الجيل والبلاد في "كتاب الغرفة" لعقل العويط

يعدّ الكاتب والشاعر اللبناني عقل العويط صوتا أدبيا يوازي مسيرة جيل سعى إلى صوغ حضوره عبر الكتابة ومراكمة الخبرة في ميادين الشعر والنقد والصحافة. تشكل تجربته مرجعا يتيح فهم تحولات الثقافة في بيروت خلال عقود، إذ جمع بين وعي لغوي دقيق ومسار مهني راسخ في حقل الثقافة والإبداع.

يستند مشروع العويط إلى مزيج من التأمل بالتجريب، مع اهتمام واضح بتكوين سرد يخرج من ضمير الفرد نحو أسئلة تتصل بذاكرة المجتمع وإيقاع المدن ومسار الحياة اليومية، إذ يحضر في نصوصه حس إنساني يقترب، بنبرة هادئة ومنفتحة، من مصادر المعرفة والفن والموسيقى، كما يرسخ حضورا لافتا في تطوير الذائقة السردية وتوسيع حدود التعبير ضمن فضاء أدبي شديد الحيوية.

يتجاوز جديد العويط، "كتاب الغرفة"، الصادر حديثا عن دار "نوفل/ هاشيت أنطوان" في بيروت (2025)، حدود البوح المعتاد، إلى كونه مساحة كتابية تتقاطع فيها الأزمنة والطبقات الشعورية، ويتشابك فيها حضور المكان مع حركة الوعي الداخلي، فيصبح الفضاء الضيق منبعا لكون ممتد، وتتحول الجدران شاشات يكشف الكاتب عبرها عن ذاته وتجارب جيله وندوب تاريخ طويل من التحولات.

استدراج الذاكرة

يكتب عقل العويط هذا الكتاب كمن يستدرج ذاكرة تستفيق دفعة واحدة، فيغدو النص كالوادي الذي تتدفق فيه مياه متراكمة من سنوات تحددت فيها ملامح شخصيته الشعرية والفكرية والسياسية. وتتحول الغرفة هنا إلى مختبر للروح، حيث يلتئم العالم في حيز محدود، وتنعقد صلات متينة بين السرير والمكتبة والطاولة، وتستقيم كل قطعة أثاث باعتبارها شهادة على مرحلة من مراحل العمر. هكذا تتبدى الغرفة جذرا يشد الذاكرة إلى التربة الأولى، كأنها بيت النمو الروحي، وعتبة تربط الداخل بالخارج، والفرد بالجماعة، والذات بالنص الذي ينفتح على ذاته باستمرار.

يتحول النص إلى مرآة تكشف عن شقوق الذات وإشراقاتها، وتستحضر الأزمنة كأنها كائنات عائدة من نوم طويل

يتخذ هذا الكتاب من الانجراف السلس أسلوبا. فالمؤلف يمضي في نصه كمن يترك لنفسه حرية التدفق، دون اكتراث بمفهوم البناء الخطي، فينشأ كتاب تشكله موجات متعاقبة من الاستذكارات والتداعيات والمحاورات الداخلية. ويقف القارئ أمام تجربة كتابية تنبني على شظايا تتشابك على نحو محسوب، وتلتئم في ما يشبه جانبا من الاعتراف، حيث يتحول النص إلى مرآة تكشف عن شقوق الذات وإشراقاتها، وتستحضر الأزمنة كأنها كائنات عائدة من نوم طويل.

AFP / Anwar Amro
الشاعر اللبناني عقل العويط يوقّع كتابه، "البلاد"، في مكتبة أنطوان بسوق بيروت خلال إعادة افتتاحها ليوم واحد إحياءً لذكرى ضحايا انفجار المرفأ، 28 يوليو 2022

يمضي عقل العويط في هذا الكتاب نحو نوع من المصالحة الحميمية مع ذاته. فالغرفة التي يودعها تبدو حاضنة وجود اكتملت فيها ملامح التجربة وليست مكانا عابرا، إذ يكتب عنها كمن يستدعي حياته نفسها، متأملا الطريق الذي قطعه منذ شبابه الأول وصولا إلى نضجه الراهن، لتبدو الكتابة هنا طقسا، جلسة صمت تنعقد على امتداد الصفحات، يعيد من خلالها الشاعر ترتيب ماضيه، ويحاور أناه بشفافية تسعى إلى تهدئة ارتجاج الروح. ويتكثف هذا الشعور حين يسرد لحظات الطفولة، أو انخطافاته أمام الحب، أو حواراته مع الكتب والموسيقى، أو مع بيروت التي تشبه الموجة التي ترفع وتغرق، تحتضن وتبعد، تمنح الكاتب شعورا بالانتماء وتكسر هذا الانتماء في الوقت نفسه.

يتحول المكان إلى بنية رمزية، فالغرفة أشبه بصورة عن الكيان كله، وليست مجرد فضاء للكتابة، حيث يقدمها المؤلف ككائن شاركه عمرا طويلا، استمع إلى خفقاته، ورأى ما رآه، وتقاسم معه الخوف والبهجة والأرق والنصوص غير المكتملة، والدقائق الحاسمة التي تنتبه فيها الروح إلى حقائقها.

تسرد الغرفة وجودها عبر الأغراض التي تحتشد فيها: الكتب على رفوف ممتدة، الأوراق المتناثرة، السرير الذي شهد انكسارات وأحلاما، والموسيقى التي ظلت رفيقة ليال كثيرة. ومن خلال هذه البنية المكانية، يقدم العويط ذاته جزءا من مشهد أكبر، يضم جيلا لبنانيا ولد في خمسينات القرن الماضي، وواجه العنف والتهجير، وعاش تمزقات الهوية، وجرب خيبات السياسة وثقافة الصحافة، وحافظ على أحلام لم تنطفئ رغم العواصف.

ذاكرة مفتوحة على التخييل

تتقدم التجربة السردية في "كتاب الغرفة" نحو نوع من السيرة غير المكتملة. فالنص يقدم حياة الكاتب بوصفها شظايا وشظايا مضادة ودون ترتيب زمني محدد، تتجمع حول سؤال الهوية، ومعنى العيش والكتابة والارتباط بالأمكنة. ليتجاوز بذلك أسلوب اليوميات، ويتجه نحو كتابة تستند إلى ذاكرة مفتوحة على التخييل، وعلى الحكي المضيء والانخطاف الحسي. ومع كل مقطع، يكشف الكاتب جانبا جديدا من علاقته بالعالم: علاقته بجسده، بحضوره ضمن المشهد الثقافي اللبناني العريق، بطموحاته الشعرية التي رافقته منذ شبابه، وبصداقاته التي شكلت شبكة أمان في مسار حافل بالتقلبات.

تمنح اللغة هذا العمل طابعا خاصا، فنبرة العويط تتشكل من صمت يسمعه القارئ بين السطور، ومن توهجات تبرز حين يتعامل مع تفاصيل تبدو للوهلة الأولى عادية، ثم تتخذ دورا رمزيا داخل السياق العام. الجملة تتقدم بحدس شعري يستبد بالرؤية، حيث كل لفظة تندفع نحو أخرى كأنها تبحث عن اكتمال مؤقت، ليتضح أن الكاتب يدرك أن الغرفة موقع توليد للغة وليست مجرد موضوع، فمن يكتب عن غرفة يكتب عن حياته، ومن يكتب عن حياته يكتب عن جيل كامل عاش تحت وطأة سؤال الوجود.

تأخذ الحرب اللبنانية حضورا بارزا في الكتاب، فالغرفة التي يكتب عنها المؤلف تشكلت ضمن فضاء تاريخي مضطرب، وهي ليست معزولة عن الزمن السياسي

يمتد هذا الطابع الوجداني ليشمل أدوات السرد، فالكتاب يشبه نهرا متعدد الروافد، يختلط فيه الحكي بالتأمل، والفلسفة باليوميات، والسياسة بالحب، والتاريخ بالشخصي. ويمضي النص دون حدود فاصلة بين هذه العناصر، كأن الكاتب يرفض أي فصل مصطنع بين تجارب الإنسان، فيقدم ذاته ككائن متعدد الطبقات، يتغير ويتحول ويتأرجح بين اليأس ورغبة العيش، بين الخوف من الفناء والسعي نحو لحظة تعيد الى الروح قدرتها على الاستمرار.

تأخذ الحرب اللبنانية حضورا بارزا في الكتاب، فالغرفة التي يكتب عنها المؤلف تشكلت ضمن فضاء تاريخي مضطرب، وهي ليست معزولة عن الزمن السياسي. يتذكر الكاتب تلك السنوات عبر صور كثيفة: رائحة الركام، أصدقاء سقطوا، أحياء تغير وجهها، وأحياء اختفت. ليتحول السرد إلى مساحة لاستعادة لحظات صنعت الوعي السياسي لجيل بأكمله.

كما يتحدث عن الجامعة اللبنانية، عن حركة الوعي، عن الأيام التي كان فيها التفكير مغامرة، والكتابة فعل مقاومة، والصحافة مشروعا يطمح إلى مساءلة العالم. ومن خلال ذلك، يقدم الكاتب ذاته بوصفه واحدا من أبناء جيل عاش تحولات حاسمة، وواجه عنفا ثقافيا وسياسيا، وأعاد صوغ ذاته وسط مشاهد الانكسار والقوة.

حضور الحب

كما يتناول العويط موضوع الحب بطريقة تمنح النص بعدا إنسانيا عميقا، فالحب يتكرر بوصفه قيمة ضرورية لإعادة التوازن إلى الذات، وكأنه الملاذ الأخير حين تخفت الأشياء وتضعف الرغبة في الاستمرار. يظهر الحب هنا جزءا من سيرة الكائن، يتخلل فصول النص دون اسم محدد، حتى يصبح تجربة تتجاوز حدود الشخصي، وتتخذ شكلا ينعكس على علاقة الكاتب بالعالم. ويأتي الجنس ضمن هذا الإطار بوصفه حضورا يتخطى الرغبة الجسدية، فيتحول إلى مساحة تلتقي فيها الروح جسدها، وتتعرف إلى قلقها وانشداداتها ولذاتها.

تملك الموسيقى أيضا موقعا جوهريا في الكتاب، فالمؤلف يستعين بالأنغام كي يلطف وحشة المكان، ويجعل الغرفة تمتد خارج جدرانها نحو فضاء رحب، لكأن الموسيقى توازي فعل الكتابة، فهي تقود الذاكرة نحو مسارات لم تنتبه إليها سابقا، وتمنح السرد قدرة على التجدد. ومن خلال ذلك، يظهر الكاتب كمن يعتنق الفن باعتباره طريقة للبقاء، وبأنه جزء من تكوينه الداخلي، ووسيلة لتسكين ندوب العمر.

AFP
صورة من أوائل السبعينيات تُظهر قلب وسط بيروت مع سينما ريفولي قبل اندلاع الحرب الأهلية (1975–1990)

ويتطرق المؤلف إلى الصحافة باعتبارها مرآة رحلة طويلة، وقد شكلت جزءا من سيرة المدينة نفسها. فالعويط ابن بيروت الثقافية، ابن الصحافة التي كانت مساحة للحرية والتجريب، ومن خلالها يروي صورا عن جريدة "النهار" وعن ملحقها الثقافي، وعن أسماء شكلت ذاكرة الأدب اللبناني والعربي. ومع كل ذلك، يظل النص مفتوحا على هاجس داخلي: كيف يكتب الإنسان وسط مدينة تتغير كل يوم؟ وكيف يحافظ على صوته ضمن ضجيج يبتلع الأصوات؟

يكتب عن الموت بأسلوب يستعيذ بالحب وبالكتابة، ويرى فيه قربا غير مرعب، وامتدادا لتجربة الحياة بكل تعقيداتها

تكشف فصول الكتاب عن قلق كبير تجاه فكرة الموت الحاضرة باستمرار في حياة الكاتب، يظهر في لحظات الفقد، في رحيل الأصدقاء، في تغير الجسد، وفي صمت الغرفة الذي يكبر مع الزمن. ويكتب عن الموت بأسلوب يستعيذ بالحب وبالكتابة، ويرى فيه قربا غير مرعب، وامتدادا لتجربة الحياة بكل تعقيداتها، ويتحول ذلك إلى عنصر يمنح النص حكمة مضمرة، تجعل القارئ يواجه أسئلته الخاصة حول معنى البقاء.

أسئلة حول ماهية الوجود

يتخذ "كتاب الغرفة" شكل السيرة، لكنه يرفض أن ينغلق ضمن جنس واحد، فالسرد يتخذ شكلا متحررا، يميل إلى التجريب، ويمنح كل فصل قيمة مستقلة، وفي الوقت نفسه يشكل حلقة داخل سياق شامل. ومع امتداد الصفحات، يشعر القارئ أنه أمام نص يكتب من الداخل، نص يتقدم نحو ذاته كمن يدخل نفقا ويخرج منه مضيئا، دون قيد أو شرط سوى أن تظل الكتابة صادقة في كشف ما تريده الروح.

يتميز الكتاب بجرأة ناتجة من قدرة الكاتب على مواجهة ذاته، إذ يقف أمام حياته كمن يحاكمها ويعجب بها في آن، ليكشف عن فقرات من طفولته، عن تصدعات شبابه، عن تجاربه المهنية، وعن خيباته وأحلامه. ومن خلال هذه الجرأة، يولد نص متماسك رغم تشظيه، غني رغم التقشف الظاهري في البناء، ومؤثر بسبب صدقه العميق.

ويرسم الكتاب صورة للبنان بما هو حلم وجرح ومشروع غير مكتمل، فتظهر كمرآة لحياة الكاتب، وكأن الغرفة تختصر تاريخ مكان كامل يحمل في داخله تناقضات تشبه تناقضات الإنسان نفسه. يكتب المؤلف عن لبنان الذي عرفه طفلا، وعن لبنان الذي تفتت تحت وقع الحرب، وعن لبنان الذي يستعيد بعض جماله في لحظات نادرة. وكل ذلك من خلال عين حميمة يسكنها الحنين وحده، فيتشابك الصوت الشخصي مع صوت الجماعة.

يمتاز الكاتب بقدرته على مزج الفلسفة بالسرد، طارحا أسئلة حول معنى الوجود، ومغزى الذاكرة، وقيمة التجربة، كما يتطرق إلى الكينونة باعتبارها مشروعا مستمر النمو، مستخدما الغرفة استعارة كبرى للذات حين تواجه مصيرها، ومع كل سؤال يطرحه، يتيح النص للقارئ أن يعيد التفكير في عالمه الخاص، في غرفته، في الأشياء التي ترافقه وتشكل هويته.

شعر داخل السرد

يشكل "كتاب الغرفة" في مجمله سيرة جيل كامل، لكن هذا الكشف يجري عبر صوت فردي شديد الخصوصية، فالمؤلف يقدم ذاته بصفتها حاضنة لكل ما عاشته البلاد، ويصبح الجرح الفردي طريقة لقراءة الجرح الجماعي، ويتحول الألم إلى وسيلة للبحث عن جمال جديد، يتأسس من داخل التجربة نفسها.

AFP
صورة تعود إلى عام 1972 تُظهر طلاب جامعات لبنانيين يتظاهرون في بيروت مطالبين بدعم قرى الجنوب على الحدود اللبنانية–الإسرائيلية

ومع أن النص يودع الغرفة، إلا أن هذا الوداع يأخذ شكل احتفال خفي بما منحته، فالغرفة هنا بداية لكتابة جديدة وليست نهاية. ومن يقرأ هذا الكتاب يشعر أن المؤلف يحاول نقل جزء من حياته إلى القارئ كي يشركه في الحلم الذي شكله عبر السنين، ويتحول هذا الاشتراك إلى نوع من العشاء السري الذي تحدث عنه الناشر، عشاء يجلس فيه الكاتب والقارئ حول مائدة واحدة، يتقاسمان خلالها رغيف التجربة، ويتبادلان اعترافات لا تقال عادة.

يستعيد الكاتب علاقته بشعره ضمن سياق السرد، فالشاعر الذي نشر مجموعات عديدة، يقدم هنا نوعا آخر من الكتابة، كتابة مشغولة بروح الشعر من دون أن تكون قصيدة. وهذا ما يمنح الكتاب جمالا خاصا، فالشاعر يكتب السرد بعين الشعر، ويكتب الشعر داخل السرد دون انفصال أو توتر، فتولد لغة تشبه الموجة التي تنكسر وتعود، وتتشكل من تنويعات إيقاعية دقيقة.

يغدو "كتاب الغرفة" وثيقة أدبية تليق بذاكرة عاشتها البلاد وعاشها شاعر لم ينس أن الكتابة هي وسيلته لحماية حياته وذكرياته من الذبول

وفي موضع آخر من الكتاب، تظهر المكتبة جسدا موازيا للغرفة نفسها، فالكتب تحتشد على الرفوف ككائنات رافقت الكاتب عبر سنوات طويلة، حيث يستعيد المؤلف أثر الأدب على حياته، ويشير إلى الأعمال التي شكلت وعيه، وإلى القراءات التي فتحت له مسارات كتابة مختلفة. وتتداخل هذه الكتب مع النص كأنها أفراد من عائلة كبيرة، تشهد معه على لحظات النضج والضعف والارتباك.

يمتاز الكتاب بقدرته على تحويل التجربة الشخصية إلى نص يقرأ كعمل أدبي متكامل، حيث يبتعد عن نمط اليوميات الجامدة، ويعتمد على خيال رقيق وواقعية شفافة. يقدم المؤلف هنا ذاته كمن يجمع من ذاكرته قطعا متناثرة ثم يعيد تشكيلها بطريقة فنية، تجعل القارئ يشعر أنه أمام لوحة تمتزج فيها الألوان القديمة بأخرى حديثة، فيتشكل أثر جديد، يذكر بالتجارب الفنية التي تبنى من التكرار والاختلاف في الوقت نفسه.

ويختتم الكتاب مسيره نحو انسجام داخلي، فالغرفة التي كانت مسرحا لسنوات طويلة، تستعد هي أيضا للنهاية، وينبثق مع الوداع نوع من الطمأنينة، كأن الكاتب اكتشف أن النهاية ليست سوى شكل آخر من أشكال الاستمرار، فالغرفة تنتقل إلى النص، والنص يحفظها، والقارئ يصبح شاهدا ثالثا على هذا الانتقال، ويغدو "كتاب الغرفة" وثيقة أدبية تليق بذاكرة عاشتها البلاد وعاشها شاعر لم ينس أن الكتابة هي وسيلته لحماية حياته وذكرياته من الذبول.

font change