وظائف الذكاء الاصطناعي... المهارات قبل الشهادات

78 مليون وظيفة جديدة ستحتاجها سوق العمل لعمليات الاستبدال المهني

Shutterstock
Shutterstock
نموذج موظف روبوت يعمل في مكتب

وظائف الذكاء الاصطناعي... المهارات قبل الشهادات

لم يعد السؤال ما إذا كان الذكاء الاصطناعي سيحل محل الإنسان، بل كيف يمكننا مزاولة العمل مع الذكاء الاصطناعي بذكاء في مختلف القطاعات؟ مع أفول السنة الثالثة على بدء استخدام تطبيقاته على نطاق واسع، من الواضح أننا في خضم تحول شامل يعيد رسم خريطة الاقتصاد العالمي وسوق العمل، ومن يدرك هذا مبكرا، يملك الفرصة لتشكيل المستقبل.

لا يشمل هذا التحول التكنولوجيا فقط، بل الثقافة الإدارية، طرق التعلم، وأسلوب التفكير الذي يحتاجه الجيل القادم من القوى العاملة. بحسب تقرير مستقبل الوظائف لعام 2023، الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، من المتوقع أن يوفر الذكاء الاصطناعي 170 مليون وظيفة جديدة عالميا في 2030، في المقابل سيخرج من السوق نحو 92 مليون وظيفة نتيجة استبدال بعض المهمات بالذكاء الاصطناعي، ليكون الناتج الصافي 78 مليون وظيفة إضافية.

تؤكد هذه الأرقام أن الذكاء الاصطناعي لا يلغي الوظائف، بل يعيد تشكيلها ويفتح آفاقا جديدة للعمل. وتشير بيانات مؤشر وظائف الذكاء الاصطناعي من "برايس ووترهاوس كوبرز" (PwC) إلى أن نسبة الإعلانات للوظائف في الولايات المتحدة التي تتطلب مهارات مرتبطة بالذكاء الاصطناعي قد ارتفعت من نحو 1.4 في المئة في 2012 إلى نحو 1.8 في المئة في 2024-2025، مما يعكس زيادة في الطلب على الكوادر القادرة على التعامل مع هذه التكنولوجيا، حتى مع انخفاض الإعلانات الإجمالية للوظائف.

لا يُعزى الاهتمام الحكومي والخاص بالذكاء الاصطناعي في دول مثل الإمارات والسعودية إلى التنافس التكنولوجي فحسب، بل إلى كونه ركيزة أساسية في استراتيجيات تنويع الاقتصاد ورفع الإنتاجية

وبلغت السوق التجارية للتقنيات التي تولّد إيرادات مرتبطة بالذكاء الاصطناعي، نحو 747 مليار دولار عالميا في 2025، بحسب "فورتشن بيزنس إنسايتس"، مع توقعات بأن يقفز الرقم إلى تريليونات الدولارات في 2030 وما بعدها. يستفاد من الأرقام أن الذكاء الاصطناعي هو جزء أساس من مستقبل الاقتصاد العالمي ومحرك رئيس لسوق العمل الجديدة.

نمو سوق الذكاء الاصطناعي في العالم العربي

تشير أحدث الدراسات إلى أن سوق الذكاء الاصطناعي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تشهد نموا سريعا، مما يضع المنطقة في قلب مسار التحول الرقمي العالمي. ووفقا لتقرير "غراند فيو ريسيرش" عن سوق الذكاء الاصطناعي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (2024–2030)، يُتوقع أن يصل حجم السوق الى نحو 166 مليار دولار في عام 2030، إذا استمر معدل النمو السنوي المركب (CAGR) عند نحو 44.8 في المئة بين 2024 و2030.

وفي 2024، بلغت قيمة سوق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نحو 12 مليار دولار، ثم بدأت تظهر مؤشرات تسارع ملموس في الطلب على حلول الذكاء الاصطناعي وخدماته عبر القطاعات الحكومية والخاصة.

أ.ف.ب.
جناح شركة "هوماين" المتخصصة في بناء نماذج الذكاء الاصطناعي خلال مشاركتها في النسخة الثالثة من مبادرة مستقبل الاستثمار، الرياض، 29 أكتوبر 2025

ولا يُعزى الاهتمام الحكومي والخاص بالذكاء الاصطناعي في دول مثل الإمارات والسعودية إلى التنافس التكنولوجي فحسب، بل إلى كونه ركيزة أساسية في استراتيجيات تنويع الاقتصاد ورفع الإنتاجية. ووفقا لدراسة مرجعية لشركة "بي دبليو سي" (PwC)، يمكن الذكاء الاصطناعي أن يضيف ما يصل إلى 320 مليار دولار إلى اقتصاد منطقة الشرق الأوسط في عام 2030. وعلى الرغم من أن هذا التقرير نُشر للمرة الأولى قبل ثلاث سنوات، فإن تقارير "بي دبليو سي" الأحدث تؤكد أن وتيرة التبني الحالية تجعل هذا الرقم واقعيا وربما متحفظا، خصوصا مع تسارع الاستثمار الحكومي وتوسّع التطبيقات التجارية للذكاء الاصطناعي في المنطقة.

وفي ما يتعلق بالبنية التحتية التكنولوجية، صار التحول نحو خدمات الحوسبة السحابية (Cloud Services) في دول الخليج يشكل قاعدة أساسية لتبني تطبيقات الذكاء الاصطناعي. في دول مجلس التعاون الخليجي، من المتوقع أن تعتمد غالبية الشركات في 2025-2026 على حلول سحابية مدمجة مع الذكاء الاصطناعي لتشغيل البيانات والتطبيقات الذكية.

مع توسع السوق، ظهرت وظائف جديدة تماما، إلى جانب نمو وظائف موجودة. هذه الوظائف تمثل الجيل القادم من فرص العمل، وتحتاج إلى دمج المعرفة التقنية مع التفكير الإبداعي

وفي مصر أطلقت الحكومة أخيرا استراتيجيتها الوطنية للذكاء الاصطناعي 2025-2030، مع التزام تحديث البنية التحتية، تشجيع البحث والتطوير، وتحفيز الابتكار، مما يفتح بابا واسعا للمهتمين بالمشاركة في مشاريع وطنية كبيرة تعتمد الذكاء الاصطناعي في التعليم، الصحة، الخدمات العامة، وغيرها.

في ضوء هذه المعطيات، تترجم عوامل السوق المتنامي، الاستثمارات الضخمة، السياسات الحكومية والتطور طلبا متزايدا على وظائف ذات علاقة بالذكاء الاصطناعي، مثل تطوير النماذج، تحليل البيانات، أمن المعلومات، المحتوى الذكي، إدارة مشاريع رقمية، وخدمات استشارية. والفرصة ليست فقط للمبرمجين أو الخبراء التقنيين، بل لأي شخص يملك مهارات تحليلية، إبداعية، أو إدراكية بالإضافة إلى استعداد للتعلم.

أ.ف.ب.
روبوت بالزي الخليجي يتفاعل مع المشاركين في معرض "جيتكس"، دبي 12 أكتوبر 2022

وتاليا، ليس الهدف من نمو سوق الذكاء الاصطناعي في المنطقة فقط تحقيق أرباح أو تحسين خدمات، بل توفير منظومة مهنية جديدة تعتمد على الإنسان والآلة معًا. وهذا يعني أن فرصة جديدة تنتظر الجيل القادم من الباحثين عن عمل، الشباب والمتخرجين، ليشغلوا وظائف لم تكن موجودة قبل بضع سنوات.

وظائف جديدة في عالم الذكاء الاصطناعي

مع توسع السوق، تظهر وظائف جديدة، وتحتاج إلى دمج المعرفة التقنية مع التفكير الإبداعي، منها:

- مهندسو الذكاء الاصطناعي: تصميم النماذج وتحسين كفاءتها ودمجها في الصناعات والخدمات.

- مصممو الحلول: الجمع بين المعرفة التقنية وفهم احتياجات الأعمال لتقديم حلول عملية ومبتكرة.

- مهندسو التوجيه ومدربو النماذج (Prompt Engineers / AI Trainers): تدريب النماذج وصوغ مدخلات عالية الجودة لضمان الأداء الأمثل.

- علماء البيانات المتخصصون في الذكاء الاصطناعي: تحليل البيانات الضخمة واستخلاص رؤى دقيقة لدعم اتخاذ القرار.

- كتّاب ومحررو المحتوى المدعوم بالذكاء الاصطناعي: إنتاج محتوى تفاعلي متوافق مع الأدوات الجديدة.

- خبراء أخلاقيات الذكاء الاصطناعي: وضع السياسات والمعايير لضمان استخدام التقنية بعدالة ومن دون تحيز.

- متخصصو الأمن السيبراني المرتبط بالذكاء الاصطناعي: حماية البيانات والنماذج من الاختراقات والأخطار المحتملة.

لا يقتصر مطلب التطور على الأفراد فحسب، بل تواجه الشركات تحديات مماثلة. ويشمل ذلك الاستثمار في تدريب الموظفين على استخدام التكنولوجيات الحديثة، واعتماد مبدأ "المهارات قبل الشهادات"

كما ظهرت وظائف مثل مطوري روبوتات المحادثة، محللي أخطار الذكاء الاصطناعي، وخبراء دمج التكنولوجيا في التعليم والصحة، لتصبح هذه المجالات ساحة واسعة للابتكار والتوظيف، خصوصا للشباب والمبدعين.

الإبداع والتفكير النقدي ضمانة الوظيفة

في ظل التحولات السريعة الراهنة، يحتاج القادمون الجدد الى سوق العمل لتبني استراتيجيا متكاملة تجمع بين المعرفة التكنولوجية والمهارات الإنسانية. يبدأ الأمر بفهم أساسيات الذكاء الاصطناعي وأدواته الأساسية، من دون الحاجة لأن يصبح الفرد مبرمجا متقنا، ولكن يجب أن يعرف كيفية التعامل مع هذه التكنولوجيا واستثمارها.

إلى جانب المعرفة التقنية، تبرز أهمية المهارات الإنسانية التي لا يمكن الآلة استبدالها، مثل الإبداع، التفكير النقدي، حل المشكلات المعقدة، والذكاء العاطفي. هذه المهارات تمثل ميزة تنافسية حقيقية في سوق يشترك فيها الذكاء الاصطناعي مع الإنسان في أداء المهمات.

Shutterstock
روبوت في معرض "جيتكس" في دبي، الإمارات، 16 أكتوبر 2023

كما أصبح التعلم المستمر جزءا أساسيا من النجاح المهني، فالمعارف والمهارات تتغير بسرعة كبيرة، ومن لا يواكب التطور سيجد نفسه خارج المنافسة. يجب على الأفراد تعلم التعاون مع الذكاء الاصطناعي بدل مقاومته، والاستفادة من مفهوم "الذكاء المعزّز" الذي يمزج بين قدرات الإنسان والإمكانات الحسابية الهائلة للآلة. ويكتمل الاستعداد ببناء حضور مهني رقمي قوي، عبر منصات التواصل المهني والمشاريع التي تبرز القدرة على استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي بكفاءة وفعالية.

ماذا عن نماذج الاقتصاد الأكثر ذكاء؟

لا يقتصر مطلب التطور على الأفراد فحسب، بل تواجه الشركات تحديات مماثلة. ويشمل ذلك الاستثمار في تدريب الموظفين على استخدام التكنولوجيات الحديثة، اعتماد مبدأ "المهارات قبل الشهادات"، وتوفير مسارات تعلم مستمرة للموظفين على المستويات الوظيفية. كما تحتاج الشركات إلى تطوير بيئات عمل تشجع الابتكار والتجريب، ومعالجة فجوة المهارات بين الأجيال، ووضع سياسات واضحة تضمن الشفافية، حماية البيانات، واستخدام الذكاء الاصطناعي بعدالة. فالتحول في سوق العمل لن يكون عادلا ما لم تُبنَ نُظم تعليمية ومهنية تدعم التعلم المستمر للجميع، وتمكنهم من التكيف مع متطلبات الاقتصاد الجديد.

تبين كل المؤشرات إلى أن عصر الذكاء الاصطناعي يعيد تعريف العمل والإنتاجية. وفي هذا العصر، لا ينجو من التغيير سوى من يستعد له، ولا ينجح سوى من يعرف كيف يجعل الذكاء الاصطناعي جزءا من أدواته اليومية.

الفرص مفتوحة، والوظائف في ازدياد، والاقتصاد العالمي يتجه نحو نماذج أكثر ذكاء واعتمادا على البيانات. لكن العنصر الحاسم في هذا التحول سيظل الإنسان القادر على التعلم، التطور، وتوجيه التكنولوجيا بدل أن يكون ضحية لها.

font change

مقالات ذات صلة