الذكاء الاصطناعي... من الضجيج إلى الاقتصاد

جولة عبر محطات السباق الدولي وأداء شركات القطاع في 2025

رويترز
رويترز
روبوت يصافح مجسم إنساني، في 17 ديسمبر 2023

الذكاء الاصطناعي... من الضجيج إلى الاقتصاد

شكل عام 2025 نقطة انعطاف حاسمة في مسار الذكاء الاصطناعي، حيث انتقلت التكنولوجيا من كونها مجرد "ضجيج" تقني ونماذج لغوية تجريبية إلى محرك اقتصادي وجيوسياسي صلب، أعاد إنتاج التحالفات الدولية بمسار واحد مع تطور هياكل الشركات الكبرى. بالنسبة الى العالم العربي، وتحديدا دول مجلس التعاون الخليجي، لم يكن هذا العام مجرد فترة لتبني التكنولوجيا، بل كان العام الذي تبلورت فيه عقيدة "ما بعد النفط" لتصبح عقيدة تجمع "الذكاء الاصطناعي والطاقة"، مدفوعة بتحولات كبرى بدأت بزيارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب للمنطقة في مايو/أيار 2025، وتلتها زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لواشنطن في نوفمبر/تشرين الثاني.

وبينما ازداد "الصراع السيبراني البارد" بين الولايات المتحدة والصين، تميز هذا العام بثلاث ركائز اقتصادية أساسية، أولاها استبدال معادلة "النفط مقابل الأمن" التقليدية بمعادلة "الرقائق والبنية التحتية مقابل رأس المال والنفوذ" أو "البترو دولار" مقابل "التكنو دولار"، وهو ما تجلى في رفع الحظر عن تصدير رقائق "إنفيديا" الى السعودية والإمارات، كذلك بدء الشركات الكبرى في فك الارتباط بين نمو الإيرادات ونمو عدد الموظفين من خلال نشر "الوكلاء الأذكياء"، مما أدى الى موجات تسريح نوعية وليست كمية فقط، فيما تحولت الرقائق الإلكترونية إلى سلع إستراتيجية تخضع لضرائب "سيادية" وقيود تجارية غير مسبوقة، كما ظهر في عرض ترمب المشروط للصين ورفض بكين له.

محور "إنفيديا" الخليجي

شهد عام 2025 إعادة هيكلة جذرية للعلاقات الأميركية الخليجية، لم تعد مدفوعة بصادرات النفط بقدر ما هي مدفوعة بحاجة واشنطن لتحالفات مثبتة اقتصاديا تندفع نحو رأس المال لإعادة التصنيع، تقابلها حاجة الخليج لقوة الحوسبة المتقدمة لتأمين مستقبله الاقتصادي.

شهد عام 2025 إعادة هيكلة جذرية للعلاقات الأميركية الخليجية، لم تعد مدفوعة بصادرات النفط بقدر ما هي مدفوعة بحاجة واشنطن لتحالفات مثبتة اقتصادياً تندفع نحو رأس المال لإعادة التصنيع

زيارة دونالد ترمب الخليجية هذا العام اختلفت عن الزيارات الديبلوماسية الأميركية السابقة التي ركزت على مكافحة الإرهاب أو استقرار أسعار النفط، وهيمن على جدول أعمال هذه الجولة اقتصاد الذكاء الاصطناعي والقدرات السيادية، مسفرة عن تحول جذري في سياسة التصدير الأميركية. إدارة ترمب، فضلت من جهتها المكاسب الاقتصادية المباشرة والمواءمة الإستراتيجية على القيود الحذرة للإدارة السابقة، موافقة على تصدير رقائق "إنفيديا" المتقدمة إلى كيانات خليجية.

أ.ف.ب.
الرئيس التنفيذي لشركة "تيسلا" إيلون ماسك (يسار)، يتحدث مع الرئيس التنفيذي لشركة "إنفيديا" جنسن هوانغ، خلال منتدى الاستثمار السعودي – الأميركي في مركز كينيدي بواشنطن، 19 نوفمبر 2025

وركزت مذكرات التفاهم التي وقعت في السعودية على المعادن الحرجة اللازمة لأجهزة الذكاء الاصطناعي، وأعلن رئيس الامارات الشيخ محمد بن زايد استثمارا بقيمة 1.4 تريليون دولار في الولايات المتحدة على مدى العقد المقبل، يغطي قطاعات التكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي، والطاقة. أما في قطر فأعلنت استثمارات ضخمة في قطاعات التكنولوجيا الأميركية، مما يعزز دور الدوحة كمركز مالي للاقتصاد الرقمي الجديد.

جاءت زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لواشنطن في نوفمبر/تشرين الثاني 2025 لتضفي طابعا مؤسسيا سياسيا اقتصاديا على هذه الاتفاقات، كان الموضوع الشامل للزيارة قضايا سلاسل التوريد وعدم الاستقرار الإقليمي.

تجاوزت القمة بين ترمب وولي العهد السعودي الجوانب البروتوكولية لتقدم أطرا اقتصادية ملموسة تبدأ باتفاقية التكنولوجيا النووية حيث حصل اختراق في المفاوضات لاتفاقية تعاون نووي مدني، وهو أمر بالغ الأهمية لتشغيل مراكز البيانات الكثيفة الاستهلاك للطاقة. كذلك الشراكة لتأمين سلاسل توريد اليورانيوم والعناصر الأرضية النادرة، الضرورية لصناعة أشباه الموصلات، بهدف تقليل الاعتماد على المعالجة الصينية، وترسيخ الصفقات التي تسمح للكيانات السعودية، مثل "هيوماين"، بالاستحواذ على ما يصل إلى 35 ألف شريحة Nvidia Blackwell مما يمكن المملكة من بناء نماذج لغوية سيادية LLMs. وأدت الاتفاقات إلى موجة من المشتريات، وأعطت "هيومان" السعودية، الفرصة أن تكون ضمن الصف الأول من مشغلي الحوسبة عالميا، مما يدعم طموحات "رؤية 2030" في التحول الرقمي.

بينما كانت العلاقات الأميركية الخليجية تشهد دفئا إستراتيجيا، دخلت الحرب التكنولوجية الباردة بين الولايات المتحدة والصين مرحلة جديدة ومتقلبة في أواخر عام 2025 

 

أما الإمارات، وبصفتها شريكا إستراتيجيا لـ"مايكروسوفت"، فقد حصلت شركة G42 على تراخيص لاستيراد كميات هائلة من رقائق "إنفيديا". تطلبت الصفقة من G42 إزالة الأجهزة الصينية من بنيتها التحتية، وهو تنازل كانت مستعدة لتقديمه لتأمين موقعها كعقدة عالمية للذكاء الاصطناعي.

حرب السيليكون

بينما كانت العلاقات الأميركية الخليجية تشهد دفئا إستراتيجيا، دخلت الحرب التكنولوجية الباردة بين الولايات المتحدة والصين مرحلة جديدة ومتقلبة في أواخر عام 2025، تميزت بسياسات تجارية أميركية غير تقليدية ومناورات دفاعية صينية.

رويترز
جين-سون هوانغ، الرئيس التنفيذي لشركة "إنفيديا"، يصافح الرئيس الأميركي دونالد ترمب في فعالية "الاستثمار في أميركا" التي أقيمت في واشنطن العاصمة

في ديسمبر/كانون الأول، أعلن دونالد ترمب تحولا في السياسة المتعلقة بصادرات أشباه الموصلات إلى الصين، عاكسا الحظر الشامل السابق على الرقائق المتطورة. فقد اقترحت الإدارة السماح لشركة "إنفيديا" ببيع رقائقها من طراز H200 وهي رقائق قوية لكنها أقدم بجيل واحد من سلسلة Blackwell الأحدث، إلى "عملاء معتمدين" في الصين. الشرط الأميركي كان غير مسبوق: دفع "رسم" أو حصة من الإيرادات بنسبة 25 في المئة تذهب مباشرة الى الحكومة الأميركية.

صعود "الذكاء الاصطناعي الوكيلي"

التطور "المخيف" في عالم الشركات في عام 2025 كان الانتقال من "الذكاء الاصطناعي التوليدي" (الذي ينشئ المحتوى) إلى "الذكاء الاصطناعي الوكيلي" (الذي ينفذ الإجراءات) - Agency AI. هذا التحول له تداعيات عميقة على الهياكل التنظيمية، والربحية، وسوق العمل.

شهدت قطاعات التكنولوجيا والخدمات عمليات تسريح كبيرة نسبت صراحة إلى مكاسب كفاءة الذكاء الاصطناعي، ولم يكن خروج الموظفين بسبب انكماش السوق، بل بسبب تغير طبيعة العمل

في عام 2024، استخدمت الشركات الذكاء الاصطناعي لصوغ رسائل البريد الإلكتروني وكتابة التعليقات المرتبطة بالعمل والكثير من الأعمال الصعبة، لكن في عام 2025، استخدم "الذكاء الاصطناعي الوكيلي" أو "الوكلاء" لإدارة تدفقات عمل كاملة حيث يمتلك "الوكلاء" القدرة على التفكير، والتخطيط، وتنفيذ مهام متعددة الخطوات بشكل مستقل، مثل التعامل مع مطالبة خدمة العملاء من البداية وصولا إلى استرداد الأموال دون تدخل بشري، وفي حلول منتصف العام، كانت 62 في المئة من المؤسسات التي شملها استطلاع "ماكينزي" تجرب "الوكلاء".

تجريف وظائف الطبقة الوسطى

هذا الحصاد الاقتصادي لم يأت دون تكلفة بشرية واضحة و"مخيفة". بدأت تتلاشى السردية القائلة بأن "الذكاء الاصطناعي لن يستبدلك، بل سيستبدلك شخص يستخدم الذكاء الاصطناعي"، حيث أثبت "الذكاء الاصطناعي الوكيلي" قدرته على استبدال الشخص بالكامل في وظائف محددة.

أ.ف.ب.
ساتيا ناديلا المدير التنفيذي لشركة مايكروسوفت، يلقي كلمة في حدث خاص بالمجموعة، في مدينة سياتل، واشنطن 19 مايو 2025

شهدت قطاعات التكنولوجيا والخدمات عمليات تسريح كبيرة نسبت صراحة إلى مكاسب كفاءة الذكاء الاصطناعي، ولم يكن خروج الموظفين بسبب انكماش السوق، بل بسبب تغير طبيعة العمل. شركة التكنولوجيا المالية "كلارنا"Klarna   أوقفت التوظيف وقلصت قوتها العاملة، معلنة أن مساعديها من الذكاء الاصطناعي يقومون بعمل 700 موظف بدوام كامل بمستويات رضا العملاء. أدى ذلك إلى زيادة أرباح الشركة بشكل كبير وتحسينها بقيمة 40 مليون دولار.

أما شركة "دوولينغو" Duolingo فانخرطت في عملية "إنهاء خدمات" للمتعاقدين وإعادة هيكلة الأدوار بدوام كامل تحت شعار "الاعتماد على الذكاء الاصطناعي أولا"، مستخدمة التكنولوجيا لتوليد المحتوى الذي كان يتطلب سابقا لغويين بشريين.

الفئة الأكثر عرضة للخطر في عام 2025 لم تكن العمالة الزرقاء أو البسيطة، بل المديرون المتوسطون

كما واصلت IBM خطتها لوقف التوظيف للأدوار الخلفية (الموارد البشرية، المحاسبة) التي يمكن الذكاء الاصطناعي أداءها، بهدف استبدال نحو 30 في المئة من هذه الأدوار على مدى خمس سنوات.

الفئة الأكثر عرضة للخطر في عام 2025 لم تكن العمالة الزرقاء أو البسيطة، بل المديرون المتوسطون، فأصبحت أنظمة "الذكاء الاصطناعي الوكيلي" قادرة بشكل متزايد على "تنسيق العمل"، بتعيين المهام، ومراقبة التقدم، وتجميع التقارير، وهي وظائف كانت تحدد تقليديا دور الإدارة الوسطى، مما أدى إلى ما يسمى بـ"تجريف الوسط"، فتوسعت نسبة المساهمين الأفراد مقابل المديرين، حيث تسمح أدوات الذكاء الاصطناعي لمدير واحد بالإشراف على مخرجات أكبر بكثير.

أ.ف.ب.
الاتحاد الأوروبي يعزز بنيته التحتية الرقمية، بروكسل 29 سبتمبر 2025

هذا النوع من التوسع فتح مشكلة جديدة يمكن تسميتها بـ"أزمة المبتدئين"، فـ"وكلاء الذكاء الاصطناعي" يقومون بالعمل الروتيني مثل إدخال البيانات، البرمجة الأساسية، الدعم الأولي، بينما تتقلص مسارات الدخول للموظفين البشر، مما يخلق فجوة مهارات للمستقبل.

الأسواق والاستثمار

على مستوى أداء الشركات، تفاعلت الأسواق المالية العالمية مع تطورات عام 2025، حيث أصبح "التعرض للذكاء الاصطناعي" المعيار الرئيس لتقييم الأصول، وأظهرت البيانات المالية لعام 2025 "انفجارا" في إيرادات الشركات المطورة للنماذج، على سبيل المثل، شركة OpenAI قفزت إيراداتها السنوية إلى 13 مليار دولار في حلول أغسطس/آب 2025، ارتفاعا من 200 مليون دولار فقط في بداية 2023 مما يؤكد أن الطلب على الذكاء الاصطناعي ليس فقاعة، بل تحول هيكلي في الإنفاق المؤسسي.

المؤسسات المالية الكبرى مثل "غولدمان ساكس" و"جي بي مورغان" تبنت "الإنتاجية المدعومة بالذكاء الاصطناعي"، وبدأت تشهد فوارق تنافسية واضحة، مع توقعات بأن يكون عام 2026 عاما قويا لعمليات الدمج والاستحواذ المدفوعة بحاجة الشركات التقليدية للاستحواذ على المواهب التقنية.

2026... عام الطاقة والسيادة

بينما نتوجه نحو عام 2026، يتحول التركيز من برمجيات الذكاء الاصطناعي إلى فيزياء الذكاء الاصطناعي. القيد الأساس للنمو لم يعد توفر الرقائق، بل الكهرباء اللازمة لتشغيلها، فحصاد 2025 كشف عن نقص حاد في الطاقة، ومن المتوقع أن تستهلك مراكز البيانات أجزاء هائلة من سعة الشبكات المتاحة.

ومن ناحية أخرى، يأتي رفض بكين لـ"ضريبة السيليكون" ليعطي فكرة عن ماهية عام 2026، الذي سيشهد تصلب "مكدسين عالميين" Global Stack تكنولوجيين متميزين ومنفصلين:

- المكدس الغربي/العالمي: مبني على  Nvidia/AMD/Intel ومركزه الولايات المتحدة وأوروبا ودول حليفة.

- المكدس الصيني: مبني على Huawei/SMIC، ويعمل على سحابات محلية، ويخدم الصين وربما أجزاء من الجنوب العالمي.

هذا الانقسام سيجبر الشركات المتعددة الجنسيات على تشغيل أنظمة تكنولوجيا معلومات مزدوجة، مما يزيد التعقيد والتكلفة.

كان حصاد الذكاء الاصطناعي في عام 2025 وفيرا لأولئك الذين سيطروا على البنية التحتية (الرقائق والطاقة) ولأولئك الذين امتلكوا الجرأة لإعادة هيكلة نماذج عملهم بصرامة. وأثبت العام صحة إستراتيجيات التنويع الجريئة، واقتحام سلسلة التوريد العالمية للذكاء الاصطناعي، ليس فقط كاستهلاك، بل كعقد حيوية للتمويل والطاقة.

ومع ذلك، تشير آفاق عام 2026 إلى أن المكاسب السهلة انتهت، وسيفرض الاحتكاك السياسي مع الصين خيارات صعبة مرتبطة بالحياد التكنولوجي في "حرب السيليكون". وسيتم اختبار العقد الاجتماعي مع بدء مكاسب كفاءة "الذكاء الاصطناعي الوكيلي" في تآكل هياكل التوظيف التقليدية للطبقة الوسطى. وسيكون السؤال لعام 2026 ليس "ماذا يمكن الذكاء الاصطناعي أن يفعل؟"، بل "كيف نوفر الطاقة له، ومن سيحصل على امتياز العمل بجانبه؟".

font change