مونيك شميلييه-جاندرو لـ"المجلة": الأمم المتحدة ماتت والعالم سفينة تائهة

أستاذة القانون الدولي والمرافعة أمام الهيئات القضائية الدولية تفنّد الوضعية الراهنة للقانون الدولي وتدعو لقيام "المنظمة العالمية للشعوب"

محكمة العدل الدولية
محكمة العدل الدولية
مونيك شيميلييه- جاندرُو خلال إحدى مرافعاتها أمام محكمة العدل الدولية

مونيك شميلييه-جاندرو لـ"المجلة": الأمم المتحدة ماتت والعالم سفينة تائهة

باريس- مونيك شميلييه- جاندرو Monique Chemillier-Gendreau، قانونية وأستاذة فخرية في القانون العام والعلوم السياسية في جامعة باريس-ديدرو، تركّز أعمالها البحثية على القانون الدولي ونظرية الدولة، كما تمارس الاستشارة القانونية أمام الهيئات القضائية الدولية. ترافعت يوم 2 مايو/أيار 2025 أمام محكمة العدل الدولية (CIJ)، باسم "منظمة التعاون الإسلامي" (OCI)، وذلك في إطار جلسات الاستماع العلنية التي نُظِّمت استجابة لطلب الجمعية العامة للأمم المتحدة الرامي إلى الحصول على رأي استشاري بشأن التزامات إسرائيل، بوصفها قوة احتلال.

صدر لها في 14 مايو 2025 كتاب بعنوان: "جعل قيام دولة فلسطينية أمرا مستحيلا: هدف إسرائيل منذ تأسيسها"، عن دار نشر "تكستويل".

"المجلة" التقت شميلييه-جاندرو لسؤالها عن كتابها الأخير، وعن توافق القرار 181 (قرار تقسيم فلسطين عام 1947) مع مبادئ القانون الدولي، وعن الرأي الذي أصدرته محكمة العدل الدولية في 19 يوليو/تموز 2024، بشأن الاحتلال الإسرائيلي. فضلا عن أسئلة أخرى عمن يجب أن يموّل إعادة إعمار غزة، وعن الوضعية الراهنة للقانون الدولي... هي تعتبر أن الأمم المتحدة قد ماتت، وإن كان لا ينبغي تفكيكها فورا، "لأن غياب أي شيء سيكون أسوأ". وتدعو للتحضير لمنظمة جديدة. "يجب أن تُسمّى: المنظمة العالمية للشعوب، وليس الدول".

لماذا تعتبر مونيك شميلييه-جاندرُو العالم سفينة تائهة؟ الإجابة في الحوار التالي:

* انطلاقا من كتابكم الأخير حول الدولة الفلسطينية، ما الدافع الرئيس لإسرائيل للاستمرار في رفض إقامة دولة فلسطينية؟

- هذا سؤال محوري ومهم جدا. أعتقد أنه لا بد، في الإجابة عنه، من التمييز بين موقف الحكومة الإسرائيلية، أي أولئك الذين تولّوا زمام السلطة لفترة طويلة جدا، وبين موقف الشعب الإسرائيلي. فهذان أمران مختلفان. صحيح أنهما يؤديان إلى النتيجة نفسها، لكن الأسباب مختلفة.

موقف الحكومة الإسرائيلية هو رفض قيام دولة فلسطينية، وهو رفض بالكاد أصبح مخفيا، إذ إنهم باتوا يصرّحون به رسميا.

أعتقد أنه لم تكن هناك أي نية صادقة لدى الحكومة الإسرائيلية. والدليل على ذلك أن السلطة الفلسطينية لم تُمنح أي صلاحيات سيادية على الإطلاق. أي إن ما أُعطي لها لم يكن أساسا لدولة

لكن في البداية، عندما ظهرت الحركة الصهيونية أواخر القرن التاسع عشر، ثم في مرحلة إعلان بلفور وقيام دولة إسرائيل، لم يكن هناك، في ذهن القادة الصهاينة الذين تسلّموا مقاليد الحكم في إسرائيل منذ البداية، أي مكان لقيام دولة فلسطينية.

ذلك أن المشروع الصهيوني، استند إلى خريطة أعدّها الصهاينة أنفسهم وجرى تداولها منذ اللحظة التي تصوّروا فيها قيام دولة إسرائيل. هذه الخريطة لا تشمل فقط إسرائيل وفلسطين كما نعرفهما اليوم، بل تتجاوز ذلك لتضم جزءا من سوريا، وتشمل الأردن، وتمتد جنوبا إلى مصر. وهذا ما يُسمّى إسرائيل الكبرى. أي إنها نزعة توراتية، مسيحانية. إنهم يسعون إلى إعادة تشكيل مملكة داود، التي لم يكن أحد يعرف على وجه الدقة حدودها. وهذا هو مشروع القيادات الإسرائيلية. ولم يكونوا صادقين في أي مرحلة من المراحل، عندما طُرحت مسألة الدولة الفلسطينية. هم قبلوا بالقرار 181، لأن ذلك كان، بالنسبة لهم، فرصة نادرة للاعتراف بـ"الوطن القومي اليهودي" الوارد في إعلان بلفور، عام 1917، والذي كان غامضا للغاية من الناحية القانونية.

لكن فجأة، ومع القرار 181، أصبح هذا الوطن القومي اليهودي– الذي كان قد توسّع ونما خلال فترة الانتداب البريطاني، بتواطؤ من البريطانيين الذين يتحمّلون مسؤولية جسيمة– دولة قائمة.

أ.ف.ب
أثناء التصويت على قرارٍ يدعو مجلس الأمن الدولي إلى إعادة النظر في عضوية فلسطين الكاملة في الأمم المتحدة ودعمها، وذلك خلال جلسة استثنائية للجمعية العامة للأمم المتحدة، في مقر الأمم المتحدة بمدينة نيويورك، بتاريخ 10 مايو 2024

لذلك قبلوا بالقرار 181 لمصلحتهم هم، وكانوا في الواقع مسرورين برفض الفلسطينيين للقرار 181. وهنا ارتكبت الدول العربية أخطاء تكتيكية، لأن مسألة الدولة الفلسطينية بقيت نتيجة لذلك معلّقة ومهملة. ثم جاءت مرحلة "أوسلو"، لأن بعض الساسة الإسرائيليين من "حزب العمل" كانوا أقل تطرفا من غيرهم من الحكّام. لكنني أعتقد أنه لم تكن هناك أي نية صادقة لدى الحكومة الإسرائيلية. والدليل على ذلك أن السلطة الفلسطينية لم تُمنح أي صلاحيات سيادية على الإطلاق. أي إن ما أُعطي لها لم يكن أساسا لدولة.

هذا من جهة حكّام إسرائيل، حيث أعتقد أنه لم يكن لديهم في أي وقت مشروع حقيقي لبناء دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل. أما بالنسبة للشعب الإسرائيلي فالأمر مختلف؛ أعتقد أن جزءا من الشعب الإسرائيلي، في مرحلة "أوسلو" مثلا، صدّق ذلك بحسن نية إلى حدّ ما. والدليل أنه كانت هناك شخصية مثل إسحق رابين وغيره. فجزء من المجتمع الإسرائيلي– من الناس الحداثيين والمثقفين– كان يعتقد بوجود صدقية، وبأن الوصول إلى السلام سيكون ممكنا في النهاية.

كان ميثاق الأمم المتحدة ملتبسا فيما يخص مسألة إنهاء الاستعمار، وذلك لسبب وجيه، وهو أن هذا الميثاق كُتب أساسا من قِبل الدول الغربية الكبرى، ومن بينها القوى الاستعمارية

لكن هذا الشعب تأثّر بأيديولوجيا قياداته، القائمة على هاجس الأمن، من دون أن يدرك أن أمن الإسرائيليين لن يكون مضمونا إلا عند قيام دولة فلسطينية. لأنه لا شيء سوى قيام دولة فلسطينية يمكن أن يهدّئ الفلسطينيين ويطفئ بؤر العنف القائمة، ففي كل حركة تحرر وطني، يوجد قادة مسؤولون يطالبون بأمور معقولة، كما يوجد دائما من يعتقدون أن العنف وحده كفيل بإيصال صوتهم. ومن الصحيح أن أمن إسرائيل مهدَّد نتيجة ذلك، وقد أثبتت الأحداث ذلك. لكن ما لا يريد الإسرائيليون فهمه هو أن أمنهم لا يعتمد على قوتهم العسكرية، ولا على الدعم الأميركي، بل يعتمد على السلام الحقيقي الذي سيبرمونه مع فلسطين.

* بالعودة إلى القرار 181، هل ترون أنه كان متوافقا مع المبادئ الأساسية للقانون الدولي؟

- هذا سؤال جيد، والإجابة معقّدة. لقد تم التصويت على القرار 181 عام 1947. وقتذاك لم يكن قد مضى على وجود ميثاق الأمم المتحدة سوى عامين فقط. لكن مجمل البناء القانوني الذي أنشأته الأمم المتحدة لاحقا فيما يتعلق بحق الشعوب في تقرير مصيرها لم يكن قد تبلور بعد. كان ميثاق الأمم المتحدة ملتبسا فيما يخص مسألة إنهاء الاستعمار، وذلك لسبب وجيه، وهو أن هذا الميثاق كُتب أساسا من قِبل الدول الغربية الكبرى، ومن بينها القوى الاستعمارية الكبرى آنذاك مثل فرنسا، وبريطانيا العظمى، والبرتغال، وغيرها.

إذن يتضمن ميثاق الأمم المتحدة مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها ضمن المبادئ العامة وفي المادة الأولى، لكن فيما يتعلق بالشعوب الخاضعة للاستعمار، هناك الفصل الحادي عشر، المعنون بـ"إعلان بشأن الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي"، والذي لا يقرّ مبدأ الاستقلال بوصفه مبدأ أساسيا، بل ينصّ فقط على أن القوى القائمة بالإدارة في الأقاليم المستعمَرة يجب أن تدير هذه الأقاليم لمصلحة السكان، من دون أن ينص على تحريرهم، مع فرض التزام يتمثل في تقديم تقرير مرة واحدة سنويا إلى الأمين العام للأمم المتحدة.

وعندما طُرحت مسألة فلسطين على الأمم المتحدة، لم تكن نصوص القانون الدولي المتعلقة بحق إنهاء الاستعمار، قد أقرت، فهذا حصل في مرحلة لاحقة، بفعل نضال الشعوب المكافحة، الشعب الفيتنامي في حرب الهند الصينية، والشعب الجزائري، وشعوب المستعمرات البرتغالية، جميع هذه الشعوب، التي أطلقت كبرى حركات التحرر الوطني، هي التي أدّت إلى تغيير القانون الدولي.

وعليه، عندما تسألني إن كان القرار 181 متوافقا أو لا مع القانون الدولي، لا أملك إجابة قاطعة. لقد كان الشعب الفلسطيني شعبا خاضعا للاستعمار في إطار الإمبراطورية العثمانية، باعتبار أن فلسطين كانت جزءا من تلك الإمبراطورية. وقد تقرر- في معاهدة فرساي بعد حرب 1914–1918، ومع هزيمة ألمانيا والإمبراطورية العثمانية- أن تتولى القوى المنتصرة إدارة أراضي الإمبراطورية العثمانية في إطار نظام الانتداب.

لكن النقطة التي يمكن عندها ربما الإجابة عن السؤال بشكل إيجابي هي أن نظام الانتداب نصّ بوضوح تام على أن انتدابات الفئة (أ)، وهي التي فُرضت على أراضي الإمبراطورية العثمانية- علما بأن نظام عصبة الأمم كان يتضمن عدة أنواع من الانتدابات- كانت تنص صراحة، سواء في ميثاق عصبة الأمم أو في نصوص الانتداب نفسها، على أن الشعوب الخاضعة للانتداب ستصل، عند انتهاء الانتداب، إلى الاستقلال.

محكمة العدل الدولية قالت إن الاحتلال العسكري، الذي بدأ كواقع عسكري منذ 1967، هو اليوم، في عام 2024، احتلال غير قانوني. وهو غير قانوني لأن استمراره على مدى الزمن يجعله بمثابة ضمّ مقنّع

وهذا ما حدث في لبنان، وسوريا، وغيرهما من البلدان التي خرجت من الانتداب على أنقاض الإمبراطورية العثمانية. وعليه، يمكن القول إن القرار 181 لم يحترم ما كان منصوصا عليه في نظام الانتداب، يمكن قول ذلك بهذه الصيغة. لكن ما يجعل المسألة معقّدة هو أن اليهود والصهاينة عندما شرعوا في حركة الهجرة نحو أرض فلسطين، وبتواطؤ من البريطانيين من خلال إعلان بلفور، ادّعوا هم أيضا امتلاك حق تقرير المصير. وهو ادعاء ينطوي على مفارقة، لأن حق تقرير المصير، في القانون الدولي الحديث، هو حق شعب يقيم على أرضه، لكنه خاضع لسلطة استعمارية أخرى، ويطالب بالتحرر على أرضه. بينما الشعب اليهودي لم يكن يملك أرضا، لقد ابتكر لنفسه أرضا عبر فرض وجوده على أرض فلسطين. هكذا وجدنا أنفسنا أمام حقَّين متنافسين في تقرير المصير، أحدهما حق الفلسطينيين، وكان يندرج ضمن شرعية قانونية واضحة: نظام الانتداب على فلسطين، وكان الانتداب البريطاني واضحا في هذا الشأن، ثم لاحقا مبدأ حق تقرير المصير كما أقرّته الأمم المتحدة. في مقابل ما سُمّي بحق تقرير المصير لليهود، وهو حق لم تكن له قاعدة قانونية واضحة. وبالتالي، فإن الإجابة تبقى إجابة دقيقة لكنها معقّدة، لأن القانون الدولي في تلك المرحلة لم يكن قد استقر بعد على معايير واضحة.

* هل يمكن أن تحدثينا عن الرأي الذي أصدرته محكمة العدل الدولية في 19 يوليو 2024، بشأن الاحتلال الإسرائيلي؟ ما أهمية هذا الرأي، وهل يمكن أن يشكّل أساسا لاتخاذ إجراءات ذات أثر ملموس في المستقبل؟

- هذا الرأي بالغ الأهمية. لكن، للأسف، هو مجرد رأي، وليس قرارا ملزما. إنه رأي استشاري. فمحكمة العدل الدولية تُبدي رأيا، غير أنها تمثّل أعلى سلطة قضائية على مستوى العالم. وهذا الرأي أساسي، لأن المحكمة سُئلت عن مجمل السياسات والممارسات التي تنتهجها إسرائيل في الأراضي المحتلة. وقد استعرضت المحكمة كل ذلك بالتفصيل. ومن ثم، فإن خلاصة هذا الرأي- ونحن، أساتذة القانون الدولي، والباحثين القانونيين، نعلم ذلك منذ زمن طويل- أن المحكمة تقول ذلك الآن وتكتبه بوضوح تام، حرفيا: الاستيطان غير قانوني. وعلى إسرائيل أن تفكك المستوطنات، وأن تعيد المستوطنين إلى داخل إسرائيل، وأن تعوّض الفلسطينيين عن جميع الأضرار التي لحقت بأراضيهم وممتلكاتهم وغيرها. كما أكدت أن على جميع دول العالم أن تحرص على عدم المساهمة، بأي شكل من الأشكال، في سياسات إسرائيل.

رويترز
منظر عام للواجهة الخارجية لقصر السلام، مقر محكمة العدل الدولية في لاهاي، هولندا، 12 أبريل 2006

بل إن المحكمة تذهب أبعد من ذلك، لأننا، من قبل، لم نكن قد قمنا بتوصيف قانوني للاحتلال نفسه. كنا نصف الاستيطان بأنه مخالف لاتفاقيات جنيف، تحديدا المادة 49، التي تحظر على القوة المحتلة نقل سكانها إلى الإقليم المحتل. إذن، زمن طويل، كنا نقول إن الاستيطان غير قانوني. لكننا لم نكن نتحدث عن الاحتلال ذاته. ففي القانون الدولي، وعند وضع اتفاقيات جنيف عام 1949، لم يُطرح السؤال التالي: هل يجب أولا تحديد ما إذا كان الاحتلال العسكري قانونيا أم غير قانوني؟ لأن الاحتلال العسكري، في سياق الحرب، يُعدّ واقعا من وقائع الحرب. وكان القانون الإنساني يقتصر على القول: بمجرد أن تصبح في هذا الوضع الحربي، ما هو القانوني أو غير القانوني في تصرّفاتك؟ أما الاحتلال نفسه، فلم يكن قد جرى التساؤل عن مدى قانونيته أو عدم قانونيته.

لكن محكمة العدل الدولية حسمت هذه المسألة، وهذا تطور بالغ الأهمية. إذ قالت إن هذا الاحتلال العسكري، الذي بدأ كواقع عسكري منذ 1967، هو اليوم، في عام 2024، احتلال غير قانوني. وهو غير قانوني لأن استمراره على مدى الزمن يجعله بمثابة ضمّ مقنّع. وهذا يُعدّ إسهاما بالغ الأهمية من جانب المحكمة.

ما زلت أسمع كثيرا أن إسرائيل ديمقراطية. لكن كيف يمكن قول ذلك، خصوصا مع القانون الأساسي الإسرائيلي لعام 2018، الذي ينص على أن إسرائيل دولة اليهود

إنما المشكلة الخطيرة في ما يخص آراء المحكمة والقانون الدولي عموما اليوم، هي أن القوى الكبرى لا تصغي إليه. كما نقول: لا يترك أثرا. لا يترتب عليه تنفيذ فعلي. فنرى أنصار إسرائيل يواصلون ترديد الخطاب نفسه أن إسرائيل على حق، وأن إسرائيل تملك أكثر الجيوش أخلاقية في العالم، وأن إسرائيل لا تفعل سوى الدفاع عن أمنها. ويستمر هذا الخطاب، في حين أن لدينا رأيا صادرا عن المحكمة يقول إن إسرائيل، تخرق القانون الدولي منذ عام 1948 أصلا، وعلى أي حال، منذ عام 1967، بما أن المحكمة كانت مقيّدة بطلب الجمعية العامة، فقد اقتصرت على الفترة منذ عام 1967. هذا الاحتلال غير قانوني، ويجب أن ينتهي. يجب على إسرائيل أن تنسحب. أما السؤال الآن، فهو: كيف يمكن جعل هذا الرأي، بما تحمله المحكمة من سلطة معنوية وقانونية، حيا وفاعلا؟

* كيف وصلنا إلى هذا المستوى من انعدام فاعلية القانون الدولي؟

- سيكون من الصعب الرد بدقة كاملة، لكنني سأحاول أن أقدم بعض العناصر. لقد وصلنا إلى هذا المستوى من انعدام الفاعلية بسبب- وسأقولها وأزن كلماتي- سوء النية، بل يمكنني أن أقول النفاق والانتهازية من جانب القوى الكبرى، التي بنت القانون الدولي من جهة، ومن الجهة الأخرى لم تكفّ عن انتهاكه. هذه هي المشكلة. وهذا بالضبط ما جعل ما نسمّيه اليوم "الجنوب العالمي" يفقد احترامه للدول الأوروبية وللغرب، أي الولايات المتحدة وأوروبا، إضافة إلى أستراليا واليابان. نحن اليوم مُجرَّدون تماما من المصداقية. لأننا نحن من اخترع القانون الدولي. نحن من أنشأ ميثاق الأمم المتحدة. نحن من أعدّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ونحن من صاغ المعاهدات الكبرى والمواثيق الدولية... إلخ. وفي الوقت نفسه، لم نتوقف يوما عن انتهاكها. وأفضل مثال على ذلك هو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، حيث ورد أن جميع البشر- والشعوب طبعا- يولدون أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق. لكن بينما كنا نصوغ هذا الإعلان ونصوّت عليه في الأمم المتحدة، كنا نخوض حرب الهند الصينية، وكانت البحرية الفرنسية تقصف مدينة هايفونغ. ثم خضنا بعد ذلك حرب الجزائر... إلخ. والآن، نعامل السكان المهاجرين بانتهاك واضح لحقوق الإنسان. إذن، كنا في الوقت نفسه فخورين بأننا صانعو القانون الدولي، صانعو المبادئ الكبرى: الديمقراطية، دولة القانون... إلخ. لكن ماذا عن الممارسة؟ نحن ننتهكها. وهذا ينطبق تماما على إسرائيل. في الخطاب السياسي، ما زلت أسمع كثيرا أن إسرائيل ديمقراطية. لكن كيف يمكن قول ذلك، حتى قبل قانون عام 2018، لكن خصوصا مع القانون الأساسي الإسرائيلي لعام 2018، الذي ينص على أن إسرائيل هي دولة اليهود. بالتالي، فإن إسرائيل تمارس التمييز. ولا تعتبر السكان العرب، والدروز، والبدو، وغيرهم ممن يعيشون على أراضيها، مواطنين متساوين، رغم أنهم جزء من الأمة الإسرائيلية. إذن، هو نظام معادٍ للديمقراطية، وينتهك القانون الدولي في قانونه الأساسي نفسه.

حرب غزة، حرب أوكرانيا، حرب السودان، الوضع في جمهورية الكونغو الديمقراطية، الصراع بين الكونغو ورواندا… كل ذلك يثبت أن مجلس الأمن لا يفعل شيئا، وأن آلية حفظ السلام قد ماتت

 كيف يمكن بعد ذلك أن نطلب من الصين تطبيق القانون الدولي؟ سأعطي مثالا مختلفا تماما. الصين تنتهك القانون الدولي في بحر الصين الجنوبي، إذ استولت على جزر لم تكن لها أصلا، بل كانت بالأحرى تابعة للفلبين أو فيتنام. هي جزر غير مأهولة، لكن بسبب وجود الغاز والنفط، يتهافت الجميع عليها. الصين تنتهك القانون الدولي. الولايات المتحدة تعطي الصين دروسا وتقول لها: أنتم تنتهكون قانون البحار. لكن الولايات المتحدة لم تصادق أصلا على اتفاقية قانون البحار. فكيف يمكنها الاحتجاج بها؟ وهكذا، إن شئتم، نفهم مصدر انعدام فاعلية القانون الدولي.

وإذا سمحتم لي بجملة إضافية، سأذهب أبعد قليلا. أنا المرأة المسنّة التي قضت عقودا تدرّس القانون الدولي، وقد شهدت هذه الوضعية وهي تؤتي ثمارها السامة أقول: لن نخرج من هذا الوضع بسهولة. نحن نعيش لحظة شديدة الخطورة، لم يعد هناك قانون دولي. الغرب الذي أنشأه ينتهكه، ودول الجنوب، إذ ترى أن الغرب ينتهكه، تقول لماذا نلتزم نحن به؟ وهكذا أصبح العالم سفينة تائهة. لكن العالم اليوم مترابط، ولو لم يكن مترابطا، لقلنا: لا قانون دوليا، لا مشكلة، كلٌّ في زاويته.

أ.ف.ب
مدخل مجمع مباني وكالة (الأونروا) في مدينة غزة في 6 سبتمبر 2025.

لكن العالم الآن متداخل جدا: الهجرة، التكنولوجيا، التجارة العالمية، تشابك سلاسل الإنتاج. إذن نحن في عالم مترابط. وعالم مترابط بلا قانون هو عالم بالغ الخطورة، لأنه بلا قواعد. ولا بدّ إذن من الخروج من هذا الوضع. لكن نحن، الغرب، لم نعد قادرين على أن نكون القوة الدافعة، لأننا فقدنا مصداقيتنا. يجب أن تأتي القواعد الجديدة من دول الجنوب، بمشاركتنا، لأن الأمر يجب أن يشمل الجميع. لكن يجب ترك الكلمة لدول الجنوب، وخاصة للشباب. أنا أرى بعض الأمل في حركات "جيل زد" التي ظهرت في نيبال، ومدغشقر، والمغرب، وغيرها. هؤلاء الشباب، حتى الآن، غير منظمين جيدا، ولا يملكون مشروعا واضحا، لكنّ لديهم حدسا صحيحا بوجود ظلم يجب إصلاحه. سيحتاج هؤلاء الشباب إلى النضج، وسيستغرق ذلك وقتا لكن يجب أن يكونوا هم حاملي المشروع الجديد. أنا أعتقد أن الأمم المتحدة قد ماتت. لا ينبغي تفكيكها فورا، لأن غياب أي شيء سيكون أسوأ. لكن جوهر آلية حفظ السلام قد مات. حرب غزة، حرب أوكرانيا، حرب السودان، الوضع في جمهورية الكونغو الديمقراطية، الصراع بين الكونغو ورواندا… كل ذلك يثبت أن مجلس الأمن لا يفعل شيئا، وأن آلية حفظ السلام قد ماتت وهي القلب من شرعة الأمم المتحدة.

بالطبع، هناك برامج جيدة جدا، مثل برنامج الغذاء العالمي، وغيرها من أشكال التضامن التي يجب الحفاظ عليها. لكن القلب مات. لقد أعددنا مسودة أولى مع عصبة الأمم، وفشلت مع الحرب العالمية الثانية. ثم أعددنا مسودة ثانية مع ميثاق الأمم المتحدة، وهي الآن في طور الفشل. لذلك لا يجب أن ننتظر حربا عالمية ثالثة، علينا أن نُعدّ للمستقبل. أنا أدعو، وبكل تواضع، ودون منطق الهيمنة، شركاءنا في الجنوب، في كل مكان، كل الزملاء في العالم أجمع: هيا، لنعمل معا، لنُحضّر لمنظمة جديدة. يجب أن تُسمّى: المنظمة العالمية للشعوب، وليس للدول.

الصراع الإسرائيلي–الفلسطيني يمثل الحالة النموذجية لأزمة القانون الدولي

* نسمع اليوم كثيرا عن إعادة إعمار قطاع غزة. ألا ينبغي أن تكون إسرائيل، التي دمّرت قطاع غزة، هي من تتحمّل مسؤولية إعادة إعماره؟ كيف يمكن تفسير ذلك من زاوية القانون الدولي؟

- الجواب هنا سريع جدا وواضح جدا. وقد حُسم منذ رأي محكمة العدل عام 2024: إسرائيل تتحمّل كامل المسؤولية عمّا فعلته في غزة، وهي التي يجب أن تعيد الإعمار. نقطة على السطر. هذا كل شيء. على إسرائيل أن تعيد الإعمار. هذه الحرب كانت غير قانونية بالكامل. وكانت غير متناسبة بالكامل، وقد قالت محكمة العدل الدولية ذلك بوضوح. نعم، يحق لأي دولة أن تدافع عن نفسها، لكن هناك مبدأ التناسب. لقد ارتكبت "حماس" جرائم دولية غير مقبولة، وأكرر ذلك بوضوح. قُتل نحو 1200 شخص في عدد من الكيبوتسات التي تعرّضت لهجوم. لكن في المقابل، تم تدمير إقليم كامل على مدى عامين، لم يبقَ فيه مبنى واحد قائم. قُصفت المستشفيات، والمدارس، وجميع المرافق العامة، وكذلك جميع المنظمات الحكومية الدولية وغير الحكومية. لكن من يجب أن يدفع؟ إسرائيل هي من يجب أن يدفع. الأمر واضح جدا في القانون الدولي. إسرائيل هي التي تتحمّل الكلفة.

* إذا كان لا بد من كلمة أخيرة...

- عندما كنت أدرّس القانون الدولي في الجامعة قبل سنوات، كنت أقول لطلابي إن الصراع الإسرائيلي–الفلسطيني يمثل الحالة النموذجية لأزمة القانون الدولي. وكنت أقول لهم: إذا أمكن حلّ هذه الأزمة على أسس قانونية سليمة، فسيُكتب للقانون الدولي النجاة. أما إذا لم يكن بالإمكان حلّها، فإن القانون الدولي سيكون قد مات. اليوم، ومن خلال الأزمة الإسرائيلية–الفلسطينية، يمكن القول إن القانون الدولي قد مات بالفعل. ونرى ذلك بوضوح في النزاعات الأخرى، إذ إن هناك نوعا من انتشار إنكار القانون الدولي. وهذا أمر بالغ الخطورة، خصوصا أن الأمم المتحدة لم تعد على الإطلاق بمستوى التحديات. وحتى لو نظرنا إلى مؤسسة مثل اليونسكو. لقد كانت لفترة طويلة مؤسسة بالغة الأهمية بالنسبة لفلسطين، لأن القرارات المتعلقة بحماية الممتلكات الثقافية كانت تصدر من خلالها. أما اليوم، فلم يعد لليونسكو أي صوت، ولا نكاد نسمع عنها شيئا.

أنا شخصيا أعتقد- ولديّ نية لكتابة ذلك قريبا- أن على الجمعية العامة للأمم المتحدة أن تستعيد زمام المبادرة في هذه القضية. ففي الجمعية العامة يمكن أن تكون هناك موضوعية. فهي تضم 192 دولة ذات حساسيات ورؤى مختلفة للغاية. والواقع أن الجمعية العامة سبق أن طلبت رأي محكمة العدل الدولية عدة مرات. وهي تسعى إلى تعزيز وترسيخ القانون الدولي. لذلك أعتقد أنه إذا كان هناك أمل، ولو ضئيل، ومسار صغير نحو وضع أفضل، فلا بد أن يمر ذلك عبر الجمعية العامة للأمم المتحدة.

font change

مقالات ذات صلة