قبل الحرب، كانت الأسواق الشعبية في قطاع غزة تتجاوز كونها أماكن للبيع والشراء، إذ شكلت فضاء الحياة وملامحها، فيها يختبر معنى اللقاء، وتدون ذاكرة المدينة من خلال نداءات الباعة وروائح البهارات والمخللات.
في أسواق الشيخ رضوان والزاوية وخانيونس ورفح والنصيرات والمغازي، وغيرها، كان المواطن الفلسطيني يمارس وجوده بأبسط تفاصيله، حيث العناق القصير بعد السلام، والنكات المتنوعة، وصفقات الباعة الذين يعرفون وجوه الزبائن قبل أن يعرفوا طلباتهم، ورائحة القهوة التي تلتصق بالملابس كما تلتصق الذاكرة بالجسد. كل هذا كان نظاما اجتماعيا منظما لا ترى نتائجه في الأرقام فحسب، بل في جسد الجماعة نفسه.
لكن ما حدث في الحرب كان أكثر من تدمير هياكل حجرية، حيث سحق هذا التنظيم الحياتي، وأجهض الإيقاع الذي كان يعطي حياة الناس إيقاعا ومعنى. هدمت أسواق غزة القديمة أو شوهت ملامحها تباعا، كأن المدينة جردت من شريانها الحيوي: سوق الشيخ رضوان اختفى تقريبا، وسوق الشجاعية سوّي بالأرض، فيما تضرر سوق الزاوية التاريخي وتقطع نسيجه القديم. امتد الأذى إلى أسواق اليرموك والدلالة وسوق السمك في مدينة غزة، كما انكسر إيقاع أسواق خانيونس ورفح ومخيمات الجنوب. لم يكن هذا الدمار فقدانا لمتاجر وبسطات فحسب، بقدر ما مس خريطة المدينة الوجدانية، حيث كانت الأسواق تنظم الأيام، وتجمع الناس، وتمنح المكان صوته ورائحته. ومع تحولها إلى ركام وخيام، فقدت غزة جزءا من ذاكرتها الحية ومن قدرتها على تخيل حياة أقل بؤسا بعد الحرب.
في التحليل الاقتصادي البارد، يعني هذا تراجع النشاط التجاري وانهيار المؤسسات الصغيرة، أما في التحليل الإنساني فيعني هذا عطبا كبيرا في ذاكرة المدينة. إذ ليس هناك مكان آخر يجمع الناس بهذه الكثافة يوميا ويعيد تشكيل رؤيتهم للعالم من خلال حوار حي وطقوس تبادل.
السوق وجود وملامسة للحياة
محمد السوسي، 62 عاما، كان يبيع البهارات والقهوة والمواد التموينية في سوق الشيخ رضوان. بالنسبة إليه، لم يكن السوق مجرد مكان للارتزاق، بل سياق حياة يدرك في تفاصيله، في أصواته ورائحته.
يقول لـ"المجلة": "السوق ليس مجرد مكان لتجمع الناس والبيع، لكنه تعبير عن غزة النشطة، نداءات الباعة وجلبة الزبائن، وكل زاوية في السوق، كانت تعبر عنا وعن نمط حياتنا".




