الأكراد يفوزون بـ"فيديرالية شـرعية"

بعد سنوات "الاستقلال الواقعي"

 Barbara Gibson
Barbara Gibson

الأكراد يفوزون بـ"فيديرالية شـرعية"

في مرويته الذاتية عن إعادة تشكيل العراق الجديد، بعد إسقاط نظام حكم حزب "البعث" والرئيس السابق صدام حسين في شهر أبريل/نيسان من 2003، يسرد وزير الخارجية العراقي السابق والقيادي في "الحزب الديموقراطي الكردستاني" هوشيار زيباري كيف أن قيادة حزبه تحركت بقرابة خمسين سيارة مصفحة، من مدينة أربيل نحو العاصمة بغداد، للمرة الأولى منذ 12 عاماً، وكيف أنهم صُدموا من هول ما وجدوه في بغداد من تحولات، بعد سنوات القطيعة تلك.

فالمناطق الكردية في العراق، في محافظات السليمانية وأربيل ودهوك، كانت خارج سيطرة النظام تماماً منذ العام 1991، وتشكل منطقة مستقلة عن باقي مناطق العراق ونظامها الحاكم، بكل تفاصيل ومسارات وأدوات "السيادة العامة"، السياسية والعسكرية والاقتصادية والرمزية على حد سواء. لكن هذه المناطق، ومع كل هذه الاستقلالية، لم يكن معترفاً بها رسمياً، لا من النظام العراقي ولا من دول الجوار ولا حتى من دول ومؤسسات المجتمع الدولي.

كان ذلك المشروع الكردي واضحاً قبل عامٍ كامل من إسقاط النظام العراقي السابق، عمل عليه القادة الكرد بحزمٍ وتوافق في ما بينهم، وعلى أكثر من جبهة

الوزير زيباري، وهو أحد قلائل من أعضاء النخبة السياسية الكردية، من الذين يملكون علاقات ووشائج وجدانية واجتماعية وسياسية حميمة وطويلة الأمد مع "العراق العربي"، يروي لجلسائه عادة أنه حين سار في شوارع مدينة بغداد وقتئذ، للمرة الأولى في حياته دون خوف، كيف أنه صُدم من نمط الحياة التي كانت في بغداد، فملامح وأوجه الناس كانت تؤشر إلى فقر مدقع وتدهور في الصحة العامة، فيما كانت شوارع العاصمة ملوثة تماما، وكان الناس معزولين عن العالم، ومختلفين تماماً عن نظرائهم الذين كانوا في المناطق الكردية وقتئذ. فهؤلاء الأخيرون، وعلى الرغم من فقدان عنصر الشرعية، كانوا طوال تلك السنوات يعيشون واقعاً اقتصادياً أفضل من باقي مناطق العراق، التي كانت تعاني من آثار الحصار الاقتصادي المديد، وكانت الحريات السياسية والإعلامية والمدنية معقولة في مناطقهم، ولا يمكن مقارنتها بمناطق كانت محكومة من نظام قمعي كالذي لصدام حسين، وكان ثمة تواصل رمزي وإعلامي واقتصادي لهم مع باقي مناطق العالم، وإن عبر دول الجوار.

Getty Images
وزير الخارجية العراقي السابق والقيادي في "الحزب الديموقراطي الكردستاني" هوشيار زيباري في 13 فبراير 2022.

السردية الذاتية للوزير زيباري، هي تجسيد عياني للمروية السياسية الكردية العمومية عن شكل العلاقة التي كانت بين المناطق الكردية و"باقي العراق" لحظة سقوط النظام في العام 2003 وما تلاها. تلك المروية تقول إن تشكيل العراق الجديد بعد ذلك الحدث، إنما كان نتيجة إعادة توحيدٍ بين كيانين جغرافيين وسياسيين منفصلين تماماً، حيث وافق الأكراد - بحسب التشكيلة الجديدة - على التنازل عن الكثير من الاستقلالية التي كانوا يتمتعون بها قبل ذلك الوقت، والاندماج مجدداً في العراق الجديد، مقابل الحصول على شيء من الشرعية السياسية والدستورية، عبر الفيديرالية.

كان ذلك المشروع الكردي واضحاً قبل عامٍ كامل من إسقاط النظام العراقي السابق، عمل عليه القادة الكرد بحزمٍ وتوافق في ما بينهم، وعلى أكثر من جبهة.

منذ سقوط النظام في 2003، حتى إقرار الدستور الجديد في شهر أكتوبر/تشرين الأول من العام 2005، خاض الساسة الأكراد واحدة من "أشرس" معاركهم السياسية، لكنها كانت تستحق ذلك العناء، لأنها كانت معركة في سبيل الحصول على شرعية دولية وإقليمية، تقر بالأكراد كجماعة سياسية، للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الأولى

سياسي كردي رفيع

ففي أوائل العام 2002، علم القادة الكرد بعزم إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش على إسقاط النظام العراقي. فقد أخبرهم الأميركيون بذلك أثناء الاجتماع السري "الشهير" في ولاية فرجينيا في شهر أبريل/نيسان من ذلك العام، وطالبوهم بمساعدة الولايات المتحدة في الحصول على المشروعية والنجاح في مشروع إسقاط النظام. وفي ضوء ذلك تحرك القادة الكرد على مستويين متراكبين:

أولا، على المستوى الإقليمي، أطلع القادة الكرد نظراءهم في كل من سوريا وإيران على مجريات ما حصلوا عليه من تأكيدات في واشنطن، محاولين التوصل إلى توافق وتطمينات من أعضاء هذا المحور الإقليمي. وهذا أمر تحقق على المستوى الإيراني على الأقل، كما يشير زعيم "الحزب الديموقراطي" الكردستاني مسعود البرزاني على الدوام. فالعضو البارز في النظام الإيراني والرئيس السابق هاشمي رفسنجاني، وقبل إسقاط النظام العراقي، كان وعد القادة الكرد بعدم الاعتراض على الفيديرالية الكردية في مرحلة ما بعد اسقاط النظام، وبتشجيع القوى العراقية المقربة من إيران على تفهم ذلك.

كان التحرك الكردي على المحور الإيراني-السوري يسعى إلى تشكيل توازن ما مع تركيا، التي كانت قد وضعت ثلاثة شروط «قاسية» على الولايات المتحدة للمساهمة في عملية الغزو وتغيير النظام: الانتشار العسكري التركي في محافظتي كركوك والموصل، وسحب الأسلحة من قوات البيشمركة الكردية، ومنع انبلاج أية نواة لأي كيان كردي، ولو مستقبلي. وهي شروط عانى الطرف الكردي كثيراً قبل أن يدفع الولايات المتحدة إلى رفضها، والبدء بعملية الغزو دون موافقة ومشاركة تركية.

 REUTERS
أكراد العراق يرفعون العلم الكردي في مدينة أربيل شمال العراق في 9 أبريل / نيسان 2003 احتفالاً بوصول قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة إلى بغداد.

على المستوى الآخر، أسست القوى السياسية الكردية الأرضية كي تفهم الجهات السياسية العراقية مطالبهم. تلك التي ستقود العراق في مرحلة ما بعد اسقاط النظام. وفي سبيل ذلك، ساهمت القوى الكردية في تنظيم مؤتمري لندن للمعارضة العراقية (14 ديسمبر/كانون الأول 2002) وصلاح الدين (26 فبراير/شباط 2003).

فأعضاء كلا المؤتمرين أجمعوا على إدانة كل الممارسات السياسية القمعية التي ارتكبتها مختلف الأنظمة العراقية في حق الأكراد في العراق، وتعهدوا بتصحيحها ومنع تكرارها. كما أقروا بأن الفيديرالية هي الحل للمسألة الكردية في البلاد.

لكن الأمور لم تكن وردية أبداً بعدئذ. فطوال ثلاثين شهراً، منذ سقوط النظام في 2003، حتى إقرار الدستور الجديد في شهر أكتوبر/تشرين الأول من العام 2005، خاض الساسة الأكراد واحدة من "أشرس" معاركهم السياسية، لكنها كانت تستحق ذلك العناء، لأنها كانت معركة في سبيل الحصول على شرعية دولية وإقليمية، تقر بالأكراد كجماعة سياسية، للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الأولى، كما يشرح سياسي كردي رفيع في حديثه مع "المجلة".

خلال تلك الشهور، توزعت الصعوبات على ثلاثة مستويات:

إذ كان ثمة معاندة للفيديرالية القومية، من القوى السياسية العراقية، التي كانت مدفوعة بأنواع من الوعي والخطابات القومية والوطنية، تعتبر "الفيديرالية القومية" خطراً على مستقبل العراق ووحدته الجغرافية، ولو مستقبلا. كانت تلك القوى تتلقى دعماً إقليمياً واضحاً، من تركيا وسوريا، وتنشط لعرض بدائل تُفرغ الطموح الكردي والتعهدات التي حصل عليها القادة الأكراد من كل مضمون، مثل "فيديرالية المحافظات".

في الدستور الجديد، وتالياً في الدولة العراقية المؤسسة على أنقاض النظام السابق، تمكن الأكراد من تثبيت وشرعنة ما لا يمكن تجاوزه في أي مستقبل مقبل: منطقة جغرافية/ فيديرالية ذات هوية سياسية كردية تماماً، لا يستطيع نكرانها أيُّ نظام سياسي

في سياق موازٍ لذلك، لم تكن الرؤية الأميركية للشكل المستقبلي للعراق واضحة تماماً، وقد اصطدمت أكثر من مرة بالتطلع الكردي، خصوصاً في الفترات الأولى لحكم بول بريمر، غير المدرك لطبيعة العلاقات الملتبسة بين الكرد والدولة العراقية، والمحمل برؤية رومانسية، أميركية الأدوات والمخيلة، تعتقد أن الفيديرالية لا يمكنها أن تقوم على أسس قومية، وأن "البيشمركة" يجب أن تُفكك مثل الجيش العراقي، وأن المطالب الكردية الخاصة يجب أن تؤجل إلى حين استقرار العراق، وأن تُناقش ضمن البرلمان المستقبلي.

أخيراً، كان ثمة مسألة حدود الفيديرالية الكردية: فهل ستكون المحافظات الثلاث المُسيطر عليها فحسب (السليمانية، أربيل، ودهوك)، أم ستُضم إليها المناطق التي سُميت في ما بعد "المناطق المتنازع عليها"، المتمثلة بكامل محافظة كركوك والمناطق الشمالية لمحافظة ديالى والمناطق الشمالية والغربية لمحافظة نينوى "الموصل"، التي تساوي في مساحتها وتعداد سكانها ما في المحافظات الثلاث تلك.  

تمكن الأكراد من تجاوز العقدتين الأولى والثانية بعناء شديد، وصل في مرات غير قليلة إلى إمكان الصِدام المباشر مع الطرف الأميركي، أو التهديد بمقاطعة العملية السياسية تماماً، أسوة بالعديد من القوى السياسية العراقية "السنّية". لكنهم اضطروا لتقديم تنازل واضح في الموضوعة الثالثة، عبر القبول بعدم ضم المناطق المتنازع عليها راهناً، على الرغم من غالبيتها السكانية الكردية الواضحة، لكن بشرط تضمين الدستور مادة واضحة تشرح آلية حل مشكلتها مستقبلاً (المادة 140 من الدستور العراقي).

Getty Images
مقاتلو حزب العمال الكردستاني يشاركون في انتشار أمني مكثف ضد مسلحي تنظيم "داعش" على خط الجبهة في مخمور في 9 أغسطس 2014.

في الطريق إلى تحقق ذلك، خلال العامين الأولين من تشكيل العراق الجديد، كان الساسة الكرد محملين إرثا سياسيا وفكريا يُدرك تماماً أهمية "الشرعية".

فحركات التمرد الكردية على الاحتلال البريطاني للعراق خلال العشرينات والثلاثينات من القرن المنصرم، أخرجت الكرد تماماً من أي اعتراف أو شرعية في المعاهدات البريطانية العراقية (1922، 1930، 1948)، وتالياً تمت صياغة العراق وكأن الأكراد غير موجودين فيه.

ذلك الحرمان لم يتبدل إلا عبر الدستور الموقت الذي أقره النظام الجمهوري في زمن حُكم الرئيس عبد الكريم قاسم، بعد 13 يوماً من الانقلاب على النظام الملكي في 14 يوليو/تموز 1958، واعتبر أن "العرب والأكراد شركاء في هذا الوطن، ويقر هذا الدستور حقوقهم القومية، ضمن وحدة العراق".

ذلك التفصيل الدستوري-الشرعي لم يستطع أي نظام عراقي لاحق تجاوزه، مهما بلغت درجة عدائه للأكراد. فكل ما حصّله الأكراد في ما بعد، في زمن الرئيسين عبد السلام وعبد الرحمن عارف، ومن بعدهما في زمن الرئيسين البعثيين أحمد حسن البكر وصدام حسين، كان مبنياً على شرعية ذلك الإقرار.

في الدستور الجديد، وتالياً في الدولة العراقية المؤسسة على أنقاض النظام السابق، تمكن الأكراد من تثبيت وشرعنة ما لا يمكن تجاوزه في أي مستقبل مقبل: منطقة جغرافية/ فيديرالية ذات هوية سياسية كردية تماماً، لا يستطيع نكرانها أيُّ  نظام سياسي، أو حتى دول الجوار والمجتمع الدولي. ومعها إقرار دستوري بتكون العراق أساساً من أبناء القوميتين العربية والكردية، وتحول الكردية إلى لغة رسمية في عموم العراق وفي كل المؤسسات والوثائق الرسمية، وتاليا انبلاج حضور سياسي واقتصادي ورمزي كردي شرعي، إقليمي ودولي، للمرة الأولى في التاريخ الحديث.

font change

مقالات ذات صلة