أطلانتس: إعادة اكتشاف حضارة منسية

ذكرى أسطورية كان لها وجود حقيقي

Shutterstock
Shutterstock
تمثال للإلهة اليونانية.

أطلانتس: إعادة اكتشاف حضارة منسية

كثيرا ما تسمح الأساطير بفكّ شيفرة أحداث ضاربة في القدم. ذلك أنه في أصل كل أسطورة غالبا ما يكون هناك حدث أو شخصية حقيقية، اتخذا طابعا خرافيا بمرور الوقت في خيال الناس والشعراء. بناء على هذا اليقين، تمكن كثير من الباحثين -سواء أكانوا محترفين أم هواة -من اكتشاف حضارات عظيمة من الماضي، لمجرد أنهم صدّقوا بعض الأساطير أو آمنوا بها.

هكذا، في سبعينات القرن التاسع عشر، اكتشف الباحث المستقل هاينريش شليمان، من طريق الحلم والحدس، طروادة هوميروس وأول حضارة يونانية تسمّى "الحضارة الميسينية". وفي وقت لاحق، نحو عام 1901، اكتشف عالم الآثار السير آرثر إيفانز قصر الملك مينوس وما يسمّى بحضارة "مينوان" في جزيرة كريت. كل هذه الحضارات تعود إلى العصر البرونزي، وهو عصر ظلّ غامضا للغاية، لم يُكشف عنه كل شيء حتى الآن.

في هذا السياق، تعتقد الباحثة الفرنسية جيرالدين بيّول، في كتاب صدر حديثا، أن الأمر نفسه ينطبق على حضارة "أطلانتس". إن الاستمرار في اعتبار أطلانتس أسطورة لا يأخذ في الاعتبار أن مؤلفي الماضي في معظم الأوقات وصفوا وقائع حقيقية، بطريقتهم الخاصة، وليس مجرّد قصص من وحي خيالهم. وعليه، مَن منّا لم يحلم يوما بالعثور على قارة أطلانتس المفقودة؟ هل ولدت هذه الأسطورة حقا من خيال أفلاطون، الذي استخدمها كمثال رمزي لتسليط الضوء على قتال أثينا ضدّ قوّة إمبراطورية خيالية؟ إن هذا الرأي المتداول لا يزال الأكثر انتشارا إلى يومنا هذا، بينما أطروحة الأسطورة الفلسفية تجعل من الممكن التغاضي عن الوجود الحقيقي لأطلانتس، مع الحفاظ على كرامة أفلاطون ومكانته كفيلسوف عظيم. مع ذلك، لا تأخذ هذه الأطروحة في الاعتبار، مهما كانت مريحة، تأكيد أفلاطون نفسه، نقلا عن كريتياس، أن هذه القصة كانت حقيقية للغاية.

نشأت قصة أطلانتس من حوار أجراه سولون مع كاهن مصري من معبد سايس بمصر. كشف الأخير له التاريخ المنسي والبطولي لمدينته أثينا، وكيف تمكنت، في زمن قديم، من صدّ هجمات شعب من المحاربين، الذين زحفوا عبر البحر الأبيض المتوسط. وقدّم له تفاصيل هذه القصة، تكريما للرابطة القوية للغاية التي وحّدت مدينتهما. وعندما علم سولون بهذه القصة، خطّط لتأليف ملحمة عظيمة عن أثينا، مثل "الإلياذة"، لكن لم يكن لديه وقت بسبب "الفتن" و"الشرور الأخرى التي وجدها هناك عند عودته". ثم، خلال محاورة حول موضوع الدروس العظيمة للماضي بين الفيلسوف سقراط وتلاميذه، أفلاطون، تيماوس، هيرموقراطيس وكريتياس الأصغر، روى الأخير قصة أطلانتس. ومنذ ذلك الحين، ظلّت هذه الرواية الشفوية المصدر الذي اعتمده أفلاطون في سردها لاحقا. على هذا الأساس، شرع العديد من المغامرين والباحثين في محاولات العثور على قارة أطلانتس المفقودة، لكنهم واجهوا عقبة رئيسة: وفقا لأوصاف أفلاطون الخاصة، أين يمكن أن توجد هذه الجزيرة العملاقة التي يُفترض أنها مغمورة تحت المحيط؟ ذلك أن المؤشرات الجغرافية كانت تقريبية، تشير فقط إلى أنه يتعيّن النظر إلى "ما وراء أعمدة هرقل".

إن الاستمرار في اعتبار أطلانتس أسطورة لا يأخذ في الاعتبار أن مؤلفي الماضي في معظم الأوقات وصفوا وقائع حقيقية، بطريقتهم الخاصة، وليس مجرّد قصص من وحي خيالهم

على الرغم من ذلك، اختار كل واحد تفسيره الخاص لتحديد موقع أطلانتس: مينوان كريت، شرق بلاد الفرس، بقايا جزر الأزور، ماديرا، جزر الكناري، الرأس الأخضر، أو في مكان ما تحت مثلث برمودا، بل حتى في القارة القطبية الجنوبية. لكن أطلانتس اجتذبت أيضا عددا من المهووسين بالأساطير والمحتالين الذين انجرفوا، خلال القرن العشرين، مع الموجة الرومنطيقية للحضارات الغامضة والمتقدّمة جدا تقنيا، تلك التي غمرتها المياه إلى الأبد في قاع المحيط، فدفنت معها أسرار حكمة بدائية منسيّة. مع ذلك، من خلال فكّ رموز الإشارات التي قدّمها الكهنة المصريون إلى سولون، من الممكن ليس فقط إعادة توطين أطلانتس جغرافيا، ولكن أيضا إعادة تحديد وجودها في التاريخ المناسب، مما يسمح باستكشاف جزء من ماضي البشرية كان منسيا بالكامل، دون الخوض في نظريات معقدة. وكما هي الحال مع طروادة وكريت، هل من الممكن العثور على أطلانتس الحقيقية؟ هل يمكن تأكيد أو دحض البحوث التي تمّت بالفعل في الموضوع؟ هل يمكن أن تتيح معرفة حقيقة وجود أطلانتس فهما أفضل لتاريخ القارة الأوروبية القديم، يساعد في بناء جزء كامل من الماضي الذي ظل متواريا في الظل لقرون عدة؟ هذا ما تحاول الباحثة الفرنسية جيرالدين بيّول الإجابة عنه من خلال كتابها الجديد "أطلانتس: إعادة اكتشاف حضارة منسية" (منشورات تريدانييل، 2023).

Getty Images
السير آرثر إيفانز (1851-1941) ، عالم آثار إنكليزي.

اجتهدت المؤلفة كثيرا لإثبات أن أطلانتس أفلاطون تتوافق مع وجود حضارة حقيقية، نشأت في شمال أوروبا، وأن جزيرة أطلانتس المقدّسة كانت موجودة بالفعل، بين ساكسونيا وشبه جزيرة يوتلاند، ولم تكن خيالا أو تلفيقا، بل ذكرى أسطورية لها ارتباط بشعوب يُنظر إليها على أنها بعيدة وغامضة: شعوب الغرب الأقصى. هذه الأخيرة أجرت، في حلول العصر البرونزي، اتصالات تجارية وثقافية مع جميع المناطق البحرية لأوروبا الغربية، من الدول الإسكندينافية إلى الطرف الجنوبي لإسبانيا، مرورا بالجزر البريطانية وحتى شمال أفريقيا. ذكرى هذا التاريخ كله، غير المتجانس إلى حدّ ما، هي ما سمّاه لاحقا كهنة سايس بـ"أطلانتس".

Getty Images
المدخل الشمالي لقصر كنوسوس، حيث توجد نسخة من لوحة جدارية لثور مرمم. اليونان.

لذلك لم يكن الباحثون الذين ربطوا أطلانتس بالحضارات الصخرية القديمة بعيدين عن الواقع. ذلك أن وصف جزيرة أطلانتس في "كريتياس" يشير إلى مخطط هيكل صخري دائري قديم. كما أن شعوب هذه المناطق، التي افادت من مجموعة متنوعة من الموارد الطبيعية كانت تصدّرها بالفعل إلى بلدان بعيدة (العنبر والبرونز والقصدير والنحاس والذهب)، شهدت ازدهارا كبيرا، بينما كانت حياتها مهدّدة بكارثة هائلة ذات طبيعة كونية أثّرت على العالم في نحو العام 1200 قبل الميلاد. وكانت هذه الكارثة سببا لهجرة سكانية لم يسبق لها مثيل في التاريخ، فكان يُطلَق على السكان الذين يأتون من طريق البحر في أغلب الأحيان اسم "شعوب البحر". هكذا، هاجرت شعوب شمال أوروبا بشكل جماعي منذ نهاية القرن الثالث عشر قبل الميلاد، مطاردين الأهالي في طريقهم، لكنهم فشلوا في غزو اليونان ومصر، واضطروا إلى الانتظار أجيالا عدة حتى تمكنوا من الاستقرار في شبه جزيرة بيلوبونيز (اليونان).

اجتذبت أطلانتس عددا من المهووسين بالأساطير والمحتالين الذين انجرفوا، خلال القرن العشرين، مع الموجة الرومنطيقية للحضارات الغامضة والمتقدمة جدا تقنيا، تلك التي غمرتها المياه إلى الأبد في قاع المحيط

تعتقد المؤلفة أيضا أن الباحث الأركيولوجي النمسوي يورغن سبانوث ("أسرار أطلانتس"، 1977) كان على حقّ، حتى لو ظلّ تحليله مقتصرا أكثر من اللازم على الشعوب الجرمانية. إذ يبدو من المهم إعادة تحديد معالم ما سماه أفلاطون "أمبراطورية أطلانتس"، والتحدّث عن المجموعات السكانية المختلفة التي كانت جزءا منها. لقد نُسي كل هذا التاريخ بسبب القرون المظلمة التي وقعت اليونان ضحية لها. مع ذلك، فإن الأساطير اليونانية والسلتية والإسكندينافية كانت في العمق مفعمة بالحيوية من خلال تقاليد العصر البرونزي الأوروبي القديمة. لذلك لم تكن أطلانتس قارّة غامضة، أو مستقرّ حضارة متقدمة، قدِّر لها أن تهوي في قاع المحيط الأطلسي، وإنما كانت مجموعة ثقافية حقيقية من العصر البرونزي الأوروبي، ظلّت ذكراها تتردّد عبر الأساطير الأوروبية القديمة.

Getty Images
لوحة جدارية للسيدات باللون الأزرق (1600-1450 قبل الميلاد) من قصر كنوسوس، المتحف الأثري في هيراكليون، إيراكليون ، جزيرة كريت، اليونان.

إن عالم ما قبل الطوفان يميل إلى التموضع في الماضي السحيق قبل ولادة السيد المسيح، وقد ساهم الإفراط في قراءة أفلاطون الحرفية لقصة أطلانتس إلى حد كبير في هذا الرأي. مع ذلك، فإن آخر كارثة كبيرة تعرضت لها البشرية لم تكن قديمة جدا، حيث وقعت قبل ثلاثة آلاف ومائتين وثلاثين عاما. لذلك، هذا الماضي البعيد "ما قبل الطوفان" أقرب إلينا في النهاية مما كنا نتخيّله، وليس من الضروري أن نتخيّل أن آلاف السنين تفصلنا عن ماض مجهول، حتى لو كانت لدينا اليوم معرفة أفضل بمصر القديمة وحضارات الشرق القديم (منذ نهاية الألفية الرابعة قبل الميلاد، في أفضل الأحوال). بالتالي، فإن التاريخ الذي يتوافق مع ذاكرتنا الجماعية يبدأ حقا فقط بعد العصور المظلمة، أي بدءا من الألفية الأولى قبل الميلاد.

font change

مقالات ذات صلة