شروط سعودية للتطبيع: تحفظ إسرائيلي وحيرة فلسطينية

القيادة الفلسطينية تبدو حائرة ولا تستطيع شيئا، إزاء التحولات الحاصلة في بيئة العلاقات العربية الاسرائيلية

Andrei Cojocaru
Andrei Cojocaru

شروط سعودية للتطبيع: تحفظ إسرائيلي وحيرة فلسطينية

منذ دعوة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب الدول العربية لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل، وتوقيع اتفاقات من هذا النوع، قبل ثلاثة أعوام، مع بعضها (الإمارات، والبحرين، والمغرب، ثم السودان)، التي أضيفت إلى دول أقامت علاقات معها سابقا (مصر، والأردن، إضافة إلى سلطنة عمان والقيادة الفلسطينية طبعا)، ظلت الأنظار تتجه نحو المملكة العربية السعودية، التي فضلت البقاء خارج هذا الإطار، رغم الجهود التي بذلت لدفعها نحوه، بخاصة من قبل الولايات المتحدة، في ظل الإدارتين الأميركيتين، السابقة والحالية.

ويمكن إحالة ممانعة القيادة السعودية الانخراط في ذلك المسار، حتى الآن، لعدة أسباب، أهمها:

أولا، صلف إسرائيل ورفضها تقديم أي استحقاقات، منها إزاء الأطراف العربية، لا سيما إزاء الفلسطينيين، وعلى ضوء تنصلها من اتفاق أوسلو للعام 1993، رغم إجحافاته بالنسبة لحقوقهم.

ثانيا، أخذ العبر من إخفاق التجربة السابقة، المتمثلة برفض إسرائيل “المبادرة السعودية” للسلام، التي تقوم على معادلة الانسحاب مقابل التطبيع، والتي باتت مبادرة عربية بعد تبنيها من قبل مؤتمر القمة العربي (بيروت 2002).

ثالثا، تبرّم وقلق القيادة السعودية من العراقيل التي تحول دون وصول المملكة إلى أسلحة أميركية متطورة.

رابعا، توجّس المملكة من لامبالاة الولايات المتحدة إزاء المخاطر التي تتهدد المنطقة من قبل إيران، والمتمثلة في ميليشياتها الطائفية المنتشرة في أكثر من بلد، من اليمن إلى بلدان المشرق العربي، وسعيها لحيازة قوة نووية، وقوة صاروخية، ما يشي بتخلي الولايات المتحدة عن أصدقائها.

صلف إسرائيل ورفضها تقديم أي استحقاقات، منها إزاء الأطراف العربية، لا سيما إزاء الفلسطينيين، وعلى ضوء تنصلها من اتفاق أوسلو للعام 1993، رغم إجحافاته بالنسبة لحقوقهم

بيد أن الجهود الأميركية مع القيادة السعودية لم تتوقف، منذ ذلك الحين، بل إن إدارة الرئيس جو بايدن عززت منها، بوضعها على رأس سلم سياساتها في الشرق الأوسط، وفي مركز المباحثات التي جرت، طوال الفترة الماضية، بين أركان تلك الإدارة والقيادة السعودية، بحيث بات ذلك الملف بمثابة حديث يومي في السياسة الإسرائيلية، وفي نقاشات ومقالات الصحف الإسرائيلية، لا سيما بالنظر للأزمة التي تمر بها إسرائيل حاليا، وبالنظر للتوتر الحاصل في علاقتها مع إدارة بايدن.

بين إسرائيل والسعودية

في الواقع، فإن الحكومة الإسرائيلية الحالية، التي تعرّف بأنها الأكثر تطرفا في إسرائيل منذ قيامها، تولي أهمية كبيرة، لجذب المملكة إلى دائرة التطبيع معها، باعتبار تلك الخطوة بمثابة ورقة بالغة الأهمية لصالحها، لإضافتها إلى رصيدها في خضم الأزمة التي تشهدها إسرائيل، منذ تشكيل الائتلاف الحكومي، من اليمين القومي والديني، في أواخر العام الماضي، ومع سعيها لإحداث نوع من الانقلاب في النظام السياسي الإسرائيلي، إضافة إلى أن مثل تلك الخطوة قد تذيب الجليد بينها وبين الإدارة الأميركية، بالنظر للتوتر الحاصل بين الطرفين.

Andrei Cojocaru

أيضا، ثمة سبب آخر، يتعلق بالمكانة المركزية التي تحظى بها المملكة على الصعيدين العربي والإسلامي، وبالنظر إلى أهميتها الدولية، وقوتها الاقتصادية، إذ إنها أصبحت بين "مجموعة العشرين"، الأقوى اقتصاديا في العالم، لجهة الناتج المحلي الإجمالي (1,1 تريليون دولار)، ولجهة قيمة الصادرات (410 مليارات دولار)، للعام 2022، ومع ثروتها النفطية الهائلة، إضافة إلى أنها خامس دولة من حيث الإنفاق العسكري (75 مليار دولار للعام الماضي).

لكن الأمر لم يتوقف على تلك الحقائق فقط؛ إذ وجدت إسرائيل نفسها، هذه المرة، أمام دولة تطرح شروطا للتطبيع، عليها، كما على الولايات المتحدة، التعهد بالقيام بها، وهو تطور لم تعتد عليه في تجارب التطبيع السابقة مع الأنظمة العربية، رغم أن معظم أطراف النظام العربي تبدو في حالة تطبيع صامت، أو واقعي، مع إسرائيل منذ إقامتها (1948)، وإن بأشكال متفاوتة، بخاصة منذ ما بعد حرب يونيو/حزيران 1967، مع الانتقال من الصراع ضد وجود إسرائيل (ولو لفظيا)، إلى الصراع ضد احتلالها أراضٍ عربية، مما يعني الاعتراف بوجودها.

شروط التطبيع

لعل أكثر شيء أثار اهتمام الإسرائيليين في نقاشاتهم أن متطلبات التطبيع مع السعودية، من إسرائيل ومن الولايات المتحدة، هي بمثابة رزمة واحدة، وهي سابقة تختلف عن التجارب التطبيعية المعروفة، بخاصة أن المملكة تمتلك أوراقا عديدة، فعّلتها أو يمكن أن تفعّلها، كما حدث بالنسبة لصدّها المطالب الأميركية بخصوص صادراتها النفطية، ويشمل ذلك تعزيز علاقاتها مع الصين، وموقفها من الحرب الأوكرانية، والصراع الأميركي- الروسي.

وفي رأي المحلل الإسرائيلي ميخائيل هراري، فإن مطالب، أو شروط السعودية تتحدد في الآتي: "من الولايات المتحدة: مظلة دفاع على نمط حلف الناتو، كردع تجاه إيران، ومفاعل نووي مدني، معقول أن يكون تحت رقابة ما من الولايات المتحدة والوكالة الدولية للطاقة الذرية، وقدرة وصول إلى سلاح أميركي متطور للغاية... وخطوات بناءة في السياق الفلسطيني- الإسرائيلي". ("معاريف"- 11/8/2023).

هذه الشروط، بطابعها الدولي والفلسطيني، تفيد أن إسرائيل، بحكومتها ومعارضتها، لن تستطيع السير في هذا الاتجاه، إذ إن تلبيتها تجعل السعودية بمثابة دولة ذات وضعية خاصة للولايات المتحدة، سياسيا واقتصاديا وعسكريا، ما يضر بمكانة إسرائيل وبمصلحتها، لا سيما ما يتعلق بكسر احتكارها للقوة النووية في المنطقة، وهو ما يشكل تهديدا لأمنها القومي الاستراتيجي.

لكن مشكلة حكومة نتنياهو، في تلك الشروط، عدا عن ارتداداتها الإسرائيلية، أنها تأتي في لحظة حرجة داخليا، وفي لحظة توتر بينها وبين الإدارة الأميركية، وأنها تتقاطع مع ما تريده الولايات المتحدة، في عدة مجالات لأنه يتناسب مع مصالحها وأولوياتها وسياساتها، دوليا وإقليميا، وإزاء روسيا والصين وإيران.

ومعنى أن ثمة مصلحة أميركية في التطبيع بين إسرائيل والسعودية، يفترض أن تقوم إسرائيل فيها بدورها، وهو المساهمة فيما يتعلق بإضعاف مكانة الصين في المنطقة، وعزل إيران، والاستثمار في السعودية، سياسيا واقتصاديا في المنطقة وعلى الصعيد الدولي، وذلك بالاستعداد لتلبية اشتراطاته، وضمنها الموضوع الفلسطيني، بهذا القدر أو ذاك، لكن في كل الأحوال مع خطوات لتحسين أوضاع الفلسطينيين، وتجميد أعمال الاستيطان في الضفة، وفي القدس، والامتناع عن أي خطوة تفضي إلى ضم رسمي لمناطق فيها (مثلا المنطقة ج).

على أية حال، وتبعا للتجربة السابقة، فإن إسرائيل ستحاول التملص من أية التزامات صعبة، وهذا حدث سابقا، مثلا، في المفاوضات متعددة الأطراف التي انبثقت عن مؤتمر مدريد، وفي مؤتمرات القمة الشرق أوسطية (مطلع التسعينات)، التي ركزت على محاولة إيجاد طرق للتعاون العربي- الإسرائيلي، في نطاق مشروع "الشرق الأوسط الجديد". كما تكرر ذلك في رفض إسرائيل تقديم الاستحقاقات المطلوبة منها في التسوية مع الفلسطينيين، في العقود الثلاثة الماضية، وفي إطاحتها بخطة خريطة الطريق (2003)، التي طرحها الرئيس الأسبق جورج بوش (الابن)، وطبعا يأتي ضمن ذلك رفضها بصلافة للمبادرة العربية للسلام (2002).

على أية حال، وتبعا للتجربة السابقة، فإن إسرائيل ستحاول التملص من أية التزامات صعبة، وهذا حدث سابقا، مثلا، في المفاوضات متعددة الأطراف التي انبثقت عن مؤتمر مدريد

في الواقع، فإن إسرائيل التي لا تستطيع أن تطبع بين التيارات الإسرائيلية المشكلة لها، كما بدا في أزمتها الراهنة، في الانقسام والاستقطاب بين المتدينين/ الشرقيين، والعلمانيين/ الغربيين، ولا أن تطبع مع مواطنيها من الفلسطينيين، ولا مع السلطة الفلسطينية، التي رضيت بدولة في جزء من الأرض لجزء من الشعب الفلسطيني، ستظل تراهن، في رفضها أو التفافها على أي شروط، على محاباة الولايات المتحدة لها، وتغطيتها لسياساتها، مهما كانت، كما على ضعف وتشتت الموقف العربي، مع إقبال بعض الأنظمة على التطبيع المجاني معها، في ظل المخاطر الناجمة عن تغول نفوذ إيران في منطقة الخليج العربي، وفي العراق وسوريا ولبنان.

بين الحيرة والعجز

في هذا الإطار، فإن القيادة الفلسطينية تبدو حائرة ولا تستطيع شيئا، إزاء التحولات الحاصلة في بيئة العلاقات العربية الإسرائيلية، فقد حصرت برنامجها في إقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، أي في الأراضي المحتلة عام 1967، منذ عقود، وتضمن ذلك اعترافها بإسرائيل، ما جعلها تبدو كمن مهّد أو سهّل النقلة العربية في العلاقة مع إسرائيل، بدليل تبني فكرة التطبيع مقابل السلام في مؤتمر القمة العربية في بيروت (2002)،  إذ إن تلك القيادة باتت تطالب فقط باشتراط أي انفتاح عربي للعلاقة مع إسرائيل بالاستجابة لحقوق الفلسطينيين، كما تعرفها بحق تقرير المصير لهم (وهو في الحقيقة لجزء منهم)، بإقامة دولتهم في الضفة والقطاع.

المشكلة في هذا المجال أن الخطابات الفلسطينية عاشت سابقا، أي قبل إقامة السلطة، على فكرة مفادها أن السلام يبدأ من فلسطين، باعتبارها القضية المركزية للأمة العربية، لكن تلك الفكرة، لم تثبت عمليا، وباتت حتى نظريا متقادمة، إذ تبين إمكان قيام علاقات تطبيع مع إسرائيل بمعزل عن الفلسطينيين وقضيتهم، وهذا ما فعلته اتفاقات التطبيع (مع الإمارات والبحرين والمغرب والسودان) عام 2018، في حين لم تستطع القيادة الفلسطينية وقتها شيئا، رغم عدم رضاها عنها.

Andrei Cojocaru

عموما، فقد تلقت القيادة الفلسطينية كثيرا من الإشارات أو التطمينات من قيادة المملكة، للتخفيف من مخاوفها، تفيد بأنها لن تقدم على أي خطوة تطبيعية مع إسرائيل من دون ثمن، ويأتي ضمن ذلك، مثلا، تعيينها ممثلا لها لدى السلطة الفلسطينية، وقنصلا في القدس، كما أنها استضافت لقاء بين الفصيلين الأكبر (فتح وحماس)، في أراضيها، إضافة إلى تصريحاتها المتكررة بتمسكها بأن التسوية مع الفلسطينيين، ووقف اعتداءات إسرائيل عليهم، هي شرط لإقامة علاقات معها، وهو ما تم تكراره للرئيس الفلسطيني محمود عباس في زياراته المتعددة  إلى الرياض ولقاءاته بالقيادة السعودية.

بيد أن التطمين الأهم للفلسطينيين، من قبل المملكة، حصل في مخرجات مؤتمر القمة العربية، الذي عقد في جدة (مايو/أيار الماضي)، إذ جدد التأكيد على مركزية القضية الفلسطينية، والتسوية الشاملة والعادلة للقضية الفلسطينية، على أساس مبادرة السلام العربية والقرارات الدولية، بما يضمن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة على الأراضي الفلسطينية بحدود عام 1967م وعاصمتها القدس الشرقية.

فقط على الصعيد الشعبي ظهر موقف فلسطيني متميز، في هذا الشأن، من مثقفين وأكاديميين وسياسيين فلسطينيين مستقلين، غطى على حيرة القيادة الفلسطينية، وعلى الفراغ الرسمي الحاصل، في رسالة وجهت إلى القيادة السعودية (يونيو/حزيران الماضي)، متضمنا "ثقة وأمل الشعب الفلسطيني بموقف المملكة الرافض للتطبيع مع الكيان الإسرائيلي من دون حل القضية الفلسطينية". وإدانة "الضغط الأميركي والإسرائيلي الذي يريد مواصلة التطبيع المجاني على حساب الحقوق الفلسطينية المشروعة والتسليم به"، مع التأكيد على أن "المملكة، وبما توفر لها من موقع ومكانة إقليمية وعالمية ودينية وثروات وجغرافيا سياسية وعلاقات دولية متنوعة، ليست في حاجة إلى إسرائيل، والتطبيع معها".

واضح أن الفلسطينيين باتوا تقريبا خارج المعادلات السياسية، إسرائيليا وعربيا ودوليا، فهم غاية في الضعف والتشتت والإحباط والاختلاف. أيضا ثمة أزمة عميقة في الجسم السياسي الفلسطيني ناجمة عن تآكل شرعية كياناتهم السياسية وتقادمها، وهذا يشمل المنظمة والسلطة والفصائل، وعن افتقادهم لرؤية وطنية جامعة؛ فاقم من ذلك تحول الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحرر إلى سلطة تحت الاحتلال، وهي سلطة مقيدة، إسرائيليا، ومرتهنة للدعم الخارجي السياسي والمادي، المتأتي من دول عربية وأجنبية.

لذا ففي وضع من هذا النوع سيصعب على القيادة الفلسطينية فرض أجندتها عربيا، وضمنه في العلاقات العربية الإسرائيلية، بخاصة مع احتدام التمحور في الصراعات الدولية والإقليمية الراهنة، كما سيصعب عليها حتى الاستثمار فيها لصالحها.

font change

مقالات ذات صلة