ولى زمن المنح الخليجية المجانية

ترسيخ سياسات الاستثمارات المستدامة... الأردن ومصر نموذجان للنجاح والتعثر

Shutterstock
Shutterstock

ولى زمن المنح الخليجية المجانية

انهت مرحلة ما بعد التوترات والصراعات التي سادت منطقة الشرق الاوسط وشمال أفريقيا عهد "سخاء" دول مجلس التعاون الخليجي. فقد انقضى عهد الدول التي تمثل المتنفس والمنفذ أمام دول المنطقة المتعثرة ماليا، وذهب زمن العطاء المجاني الى غير رجعة، وحلت محله سياسات جديدة رسمت أسسا أخرى للتعاون الإقليمي، قاعدته المصالح والمنفعة المتبادلة وفق نموذج يقوم على دور مركزي للصناديق الاستثمارية السيادية. هذه المقاربة تترسخ وقد يشكل الأردن، الذي يتحسس طريق النجاح، تجربة نموذجية يقابلها تعثر في مصر.

تلك وغيرها من المسائل ناقشها تقرير بعنوان "الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: حالة التعاون ما بعد التوترات في المنطقة"، أصدره مركز "ثينك" (Think) للأبحاث والاستشارات، التابع للمجموعة السعودية للأبحاث والإعلام (SRMG)، على هامش "منتدى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، الذي نظمه للسنة الثانية على التوالي بالتعاون مع معهد الشرق الأوسط (MEI) تزامنا مع الاجتماعات الرفيعة المستوى للجمعية العامة الـ 78 للأمم المتحدة، وسلّط الضوء على سُبل التعاون بين دول المنطقة على صعيد الجغرافيا والسياسة والاقتصاد والطاقة.

استعرض التقرير أوجه التغييرات في سياسات دعم دول مجلس التعاون الخليجي الموجهة إلى دول المنطقة التي تطورت، وفق التقرير، من تقديم مساعدات مالية غير مشروطة على أساس العلاقات الديبلوماسية أو الاستراتيجية، نحو منهج يعطي الأولوية للاستثمارات ذات الجدوى والمردود الاقتصادي والمالي المرتفع، بهدف "ضمان ثرواتها ونموها".

نحو آفاق واعدة أوسع

يبين التحول المنهجي في العلاقات الاقتصادية بين دول المنطقة انها صارت أكثر استدامة وخدمة للمصالح الوطنية للطرفين وخططهما التوسعية، كذلك يشير إلى توجه سائد للخروج من تحت مظلة الغرب، الولايات المتحدة تحديدا، وتعميق العلاقات الاقتصادية والتنموية والسياسية مع فرقاء غير غربيين مثل الصين والهند وروسيا، آخر مظاهرها، كان دعوة المملكة العربية السعودية والإمارات ومصر للانضمام إلى "بريكس" في أغسطس/آب الماضي. ليست تلك العلاقات بجديدة، فالإمارات مثلا، التي تهدف منذ زمن بعيد لأن تكون مركزا لوجستيا استراتيجيا، أصبحت ركنا أساسيا في مبادرة الحزام والطريق الصينية، مع استثمار الصين في الموانئ والمطارات وشبكات النقل الإماراتية، حيث يمر نحو 60 في المئة من تجارة الصين مع المنطقة عبر الإمارات.

Shutterstock
آفاق الطاقة الخضراء المستدامة

يتكامل التعاون بين دول المنطقة بحسب التقرير مع تشارك هموم تغير المناخ، وهناك العديد من هذه الدول التي انضمت إلى 130 دولة أخرى في العالم في التعهد بالوصول إلى "صفر كربون" في الفترة ما بين 2050-2060، وكذلك هموم أنظمة الطاقة التي تزداد تعقيدا، وتؤجج التحديات الاقتصادية، ليصبح تقاسم الموارد المالية والتكنولوجية ضروريا وحتميا للتكيف مع التغيرات ووضع حلول مبتكرة لتخزين الطاقة وإدارة أكثر كفاءة للطلب عليها.

يتكامل التعاون بين دول المنطقة مع تشارك هموم تغير المناخ، وهناك العديد من هذه الدول التي انضمت إلى 130 دولة أخرى في العالم في التعهد بالوصول إلى "صفر كربون" في الفترة ما بين 2050-2060

لا تزال منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا متأخرة لجهة التمويل المناخي، إذ لم تحصل صناديق المناخ الـ 12 النشطة في المنطقة مجتمعة على أكثر من 3,6 إلى 4,9 مليارات دولار من تدفقات تمويل المناخ السنوية، وهو من بين أدنى المعدلات على مستوى العالم، مقارنة بـ 83 مليار دولار قدمت عام 2020 وحده إلى الدول النامية، ومن المتوقع أن تصل إلى 100 مليار دولار سنويا عام 2023.

عائدات ضخمة وتغييرات في السياسات

 تُعدّ دول الخليج من أكبر الدول المستفيدة من الغزو الروسي لأوكرانيا، الذي كان من تداعياته ارتفاع في أسعار الطاقة، حيث بلغ متوسط سعر برميل النفط العام المنصرم 100 دولار. وتجاوزت عائدات هذه الدول من النفط  570 مليار دولار عام 2022،  منها 311 مليار دولار حققتها السعودية و119 مليار دولار لدولة الإمارات و98 مليار دولار للكويت ونحو 43 مليار دولار لسلطنة عمان.

هذه العائدات الضخمة وغير المتوقعة، مكّنت دول التعاون الخليجي من تحقيق فائض قياسي في موازناتها بلغ على سبيل المثل 6,3 مليارات دولار للإمارات خلال الربع الأول من السنة الجارية، ويتوقع صندوق النقد الدولي أن يمتد تسجيل الامارات فائضا في موازنتها حتى عام 2028.

بالتوازي مع ذلك، واصلت دول الخليج العمل على تطوير استثماراتها  بهدف تقليص الاعتماد على عائدات النفط والغاز ضمن استراتيجيات وخطط لتنويع اقتصادها عبر صناديقها الاستثمارية، أنهت عهد المساعدات المجانية أو غير المشروطة التي استفادت منها دول عدة، أبرزها الأردن ومصر، اللتان اعتمدتا على التمويلات الخليجية المباشرة لمواجهة الأزمات والصدمات الاقتصادية والتقلبات السياسية.

Shutterstock

ويقوم جوهر التغير من معادلة دعم غير مشروط إلى الاستثمار المجدي استنادا إلى فلسفة واضحة ارتكزت فيها دول مجلس التعاون الخليجي، بحسب تقرير المنتدى، على ثلاث آليات هي: أولاها، الودائع في المصارف المركزية مع الحفاظ على القدرة على سحبها لأي سبب من الأسباب. الثانية، عبر الصناديق الاستثمارية وفق قوة العائدات المالية وليس الأهداف السياسية أو الاجتماعية، وتكون بالتالي موجهة إلى القطاعات الاستراتيجية،  والثالثة، دعم مالي مكمل لحزم اتفاقات قروض مع صندوق النقد الدولي، يفرض على الدول المستفيدة التزام تنفيذ برامج الاصلاح المتفق عليها.

هذه التغيرات هي من صميم ورحم تغيرات جوهرية عرفتها السياسات الخارجية لدول مجلس التعاون الخليجي التي ميزها التصعيد والتوتر والمواجهة طوال العقد السابق قبل أن تتجه نحو التكامل الاقليمي والتهدئة بين الفرقاء والخصوم، حتى على قاعدة تفاهمات وتسويات هشة، وهي فرصة لسد الفجوات بين دول المنطقة، بما يعزز قدرة منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على الصمود في مواجهة الصدمات الخارجية، ويدعم استقرارها على المدى الطويل. ذلك علاوة على إعادة التموضع على الخريطة الدولية والاضطلاع بدور أكبر والافادة من بداية تشكل أقطاب صاعدة، مدفوعة بالأولويات الوطنية وإدراكها للأخطار العالمية.

يقوم جوهر التغير من معادلة دعم غير مشروط إلى الاستثمار المجدي استنادا إلى فلسفة واضحة ارتكزت فيها دول مجلس التعاون الخليجي، على ثلاث آليات هي: الودائع في المصارف المركزية، عبر الصناديق الاستثمارية ودعم مالي مكمل لحزم اتفاقات القروض مع صندوق النقد الدولي 

يضاف إلى ذلك، أن سياسات الدعم غير المشروط جوبهت بانتقادات لاذعة داخل الأوساط الخليجية بسبب قصورها وفشلها في تحقيق استدامة اقتصادية،على الرغم من القيمة الضخمة لتمويلات حصلت عليها مصر مثلا خلال السنوات العشر الأخيرة، ناهزت الـ100 مليار دولار بحسب تقارير صادرة عن مراكز بحوث دولية ذات صدقية، وحتى تسريبات من المصرف المركزي المصري، الذي يعاب عليه عدم تقديم جردة مفصلة لهذه المساعدات المتأتية أساسا من السعودية والإمارات والكويت.

كان وزير المالية السعودي، محمد الجدعان، أول من تحدث صراحة عن التعديلات التي ستعرفها سياسات المملكة في توجيه مساعداتها الخارجية. كان ذلك يوم 19 يناير/كانون الثاني 2023 في قمة "دافوس" عندما أكد الجدعان أن "المساعدات المستقبلية الموجهة ستكون مشروطة بتنفيذ إصلاحات". وقال "اعتدنا تقديم منح ومساعدات مباشرة من دون شروط ونحن نغير ذلك، كما نحث دول المنطقة على القيام بإصلاحات... نحن نفرض الضرائب على شعبنا ونتوقع من الآخرين أن يقوموا بدورهم".

احدى جلسات "منتدى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" الذي نظمته "ثينك"

بعد شهر، أعلن وزير الخارجية الكويتي، الشيخ سالم عبدالله الجابر الصباح، أن بلاده تجري تغييرات على كيفية مساعدة جيرانها العرب، كاشفا آنذاك أنها ستنظر في تعديل سياساتها في شأن تقديم المساعدات إلى الدول العربية والنامية من خلال الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية.

واكد بحسب ما نقلت عنه وسائل إعلام كويتية محلية، أن "هناك تطورات على المستوى الدولي تتطلب منها إعادة النظر في آليات عمل الصندوق وتسخيره للحفاظ على مصالحنا الوطنية". 

فعلا، باتت الصناديق الاستثمارية السيادية لدول مجلس التعاون الخليجي تلعب دورا مركزيا في إدارة واستثمار ثرواتها الضخمة وتنويع مصادر إيراداتها نحو ضمان عائدات طويلة الأمد، وفقا للتقرير، إذ ان أصول جهاز أبو ظبي للاستثمار يقدر بنحو 853 مليار دولار، وقد تبلغ أصول صندوق الاستثمارات العامة في السعودية 755 مليار دولار، فيما يشرف صندوق قطر للاستثمار على إدارة أصول بنحو 475 مليار دولار، وتقدر أصول صندوق الاستثمار السيادي الكويتي بأكثر من 750 مليار دولار.

الأردن ومصر: نموذجان للنجاح والتعثر

تبرز الأردن ومصر ضمن الدول التي استفادت بشكل مطرد من الدعم الخليجي السخي وغير المشروط. وإذا كان الأردن يعتبر منخرطا بشكل ثابت في الافادة أيضا بلا شروط منه في سياسات دول مجلس التعاون الخليجي الجديدة، ويتحسس طريق النجاح، فإن الأمر يختلف مع القاهرة. 

حصل الاردن عام 2011 على مساعدات من دول مجلس التعاون الخليجي بقيمة خمسة مليارات دولار، أضيفت إليها حزمة من المساعدات عام 2018 بقيمة 2,5 مليار دولار من السعودية والإمارات والكويت، جاءت على أثر اندلاع احتجاجات شهدتها البلاد جراء أزمة سياسية واقتصادية ومعيشية حادة.  

اعتدنا تقديم منح ومساعدات مباشرة من دون شروط ونحن نغير ذلك، كما نحث دول المنطقة على القيام بإصلاحات... نحن نفرض الضرائب على شعبنا ونتوقع من الآخرين أن يقوموا بدورهم

وزير المالية السعودي، محمد الجدعان

يشهد الاردن كحال مصر، ارتفاعا نشطا في نسبة المديونية التي تقارب بحسب بيانات وزارة المالية الـ90 في المئة (89,6 في المئة)  من الناتج المحلي الإجمالي، وكانت المديونية قد تجاوزت عام 2021 حاجز الـ100 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي. وينتظر أن يتوجه الاردن مجددا إلى الاقتراض من صندوق النقد بعد مرور 3 سنوات على حصوله على القرض الأضخم في تاريخه (1,2 مليار دولار).

يضمن القرض وإصلاحاته المؤلمة والمثيرة للجدال في الأردن، تواصل تلقي الدعم من دول الخليج التي تنظر إليه، عكس مصر، على أنه حقق نجاحا ملحوظا في تنفيذ برنامج الإصلاحات المدعوم من الصندوق. ويقول تقرير المنتدى إن هذا النجاح ساهم في ارتفاع طفيف في اهتمام دول مجلس التعاون الخليجي التي تتجه نحو تعزيز استثماراتها الإستراتيجية في الأردن التي تبلغ 40 مليار دولار.

وتتمركز الاستثمارات في قطاعي الخدمات والصناعة عبر صندوق الاستثمار السعودي الأردني الذي يخطط هذه السنة للاستثمار في البنية التحتية والرعاية الصحية والسياحة والتكنولوجيا، بالإضافة إلى استثمارات رأس المال التوسيعي في الشركات الاردنية الواعدة، وفق بيان صادر عن الصندوق في شهر مايو/أيار الماضي.

يبرز الأردن في "وضع قوي للاستفادة من النهج الجديد الذي يتبعه مجلس التعاون الخليجي في إدارة الاستثمارات الاقليمية"، يعزى ذلك أساسا إلى انخراط عمان في تنفيذ الاصلاحات عكس مصر، التي لم تحقق الكثير من برنامج الاصلاحات المدعوم من صندوق النقد، ولم تشهد وفق منتقدي سياساتها الاقتصادية والمالية الا مزيدا من نفوذ الجيش المتحكم الرئيسي في الحياة الاقتصادية. وهي تواجه فرضيات التفويت في أصولها بسعر بخس.

عكس الأردن، لا تبدو مصر مستعدة للاستجابة الى كل شروط المانحين الخليجيين التي عرفت علاقتها معهم توترا بسبب تباينات واختلافات وخلافات انطلقت بشكل جلي منذ بدء تنفيذ "سياسة ملكية الدولة الجديدة"، التي وضعت بمقتضاها القاهرة أصولا حكومية للتفويت بهدف تجميع 40 مليار دولار. تمت المصادقة على الوثيقة في  ديسمبر/كانون الأول من العام المنصرم دون أن تحقق حتى اليوم أهدافها المنشودة.

كانت هذه الوثيقة من بين شروط حصول مصر على قرض من صندوق النقد قيمته 3 مليارات دولار، التزمت الدولة المصرية في اتفاقها مع المؤسسة المالية المانحة على تحقيق تكافؤ بين القطاعين العام والخاص وتقليص دور الجيش في القطاعات غير الاستراتيجية.

تُتهم مصر بالتراجع عن هذا الالتزام وبرفض المس بنفوذ الجيش بما تسبب في تعثر مفاوضاتها مع صناديق استثمارية خليجية، وإن كانت تعيش عصرها الذهبي بسبب التدفقات المالية الهائلة، تحبذ الاستثمار في الأوقات الصعبة وفي الأسواق التي توفر فرصا استثمارية مثيرة للاهتمام، وفي الدول التي تعيش صعوبات في توفير تمويل خارجي بسبب تعرضها لصدمات جيوسياسية واقتصادية وشح في العملات الأجنبية، تماما كحال مصر، وفق تقرير صدر أخيرا عن وكالة "ستنادر أند بورز".

وعلى الرغم من التباينات بين القاهرة والمانحين الخليجيين، والتوتر أحيانا والبرود، فإن فرضيات التوصل إلى تسويات بين الطرفين تبقى قائمة. تراهن مصر على الضغط عبر التنويع من هامش المناورة لتجنب تقديم تنازلات استراتيجية تمس بتوازناتها الداخلية، بما يشبه القناعة بأنه مهما تغيرت السياسات، فإن حلفاءها الخليجيين لن يسمحوا بانهيارها مهما بلغ حجم تحفظاتهم على الفشل الكبير في إدارة الشأنين المالي والاقتصادي.

قد لا تستقيم المقارنة بين التجربتين المصرية والأردنية في علاقتهما بدعم دول مجلس التعاون الخليجي. يُحسب للأردن سلاسة التحول ويُقدم كنموذج جيد بالنسبة إلى المانحين الخليجيين الذين يواجهون انتقادات بسبب التحولات المفاجئة في إدارتهم ملف المساعدات لهاتين الدولتين، اللتين فقدتا تدريجيا، ثقلهما الأمني والسياسي السابق منذ بداية مسار "الاتفاق الابراهيمي".

font change

مقالات ذات صلة