تخبط فـلسطيني في القرار والخيارات

ترهّل جسم "فتح" وتخبط خياراتها بشأن إقامة دولة استخدمتهما "حماس" وحلفاؤها في فرض الدور

Nesma Moharam
Nesma Moharam

تخبط فـلسطيني في القرار والخيارات

مضى على انطلاقة الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة ستة عقود تقريبا، ومع ذلك فإن الطبقة السياسية التي تولت قيادة هذه الحركة وهندستها وتحكمت في مساراتها وخياراتها، ما زالت ذاتها تقريبا، بأشخاصها وأفكارها وطرق عملها، رغم كل التحولات والتنقلات التي شهدتها قضية فلسطين وحركتها الوطنية في صعودها وهبوطها، في وحدتها وتفككها، في قوتها وضعفها.

وإذا كان متوسط أعمار الأفراد المكونين لتلك الطبقة في الثلاثينات، في حينه (أواسط الستينات)، فهذا يعني أننا اليوم إزاء قيادات باتت في أواخر الثمانينات، ما يشير إلى شيخوخة الحركة الوطنية الفلسطينية، من جهتين، باستبعادها عدة أجيال من الفلسطينيين، وافتقادها القدرة على تجديد شبابها وحيويتها، وأيضا، من حقيقة أن تلك الحركة باتت متقادمة ومستهلكة، بكياناتها، ونمط علاقاتها، وخطاباتها، وأشكال عملها. طبعا، لتلك الطبقة القيادية القديمة ما لها وما عليها، فقد تحملت مسؤولية استنهاض الفلسطينيين بعد النكبة، وبناء كينونتهم السياسية، وبلورة هويتهم الوطنية الجمعية، لكنها أيضا مسؤولة، بالقدر ذاته، عن تعثر حركتهم الوطنية، وترهل أحوالها، وأفول مكانتها.

الحديث يدور هنا عن حركة وطنية غنية بخبراتها الكفاحية، ويعرف شعبها أنه يضم نسبة عالية من المتعلمين والأكاديميين والناشطين السياسيين، وهي حركة دفع شعبها أثمانا باهظة، في معاناته وتضحياته، إلا أن ذلك كله لم ينعكس في طبيعة بنائها لمؤسساتها وإطاراتها وعلاقاتها الداخلية، ولا في نمط إدارتها لمواردها، أو في طريقة صراعها مع عدوها، فهذه الحركة تأسست على القيادة الفردية، وعانت من الافتقاد لمراكز صنع القرارات وصوغ الخيارات الاستراتيجية، بحكم تغيب القيادة الجماعية والهيئات التشريعية ومراكز الدراسات.

وتعاني الكيانات السياسية، أي المنظمة والسلطة والفصائل والمنظمات الشعبية، من مشكلات التآكل والتقادم والأفول، يفاقم منها انحسار شعبيتها، وتصدع مكانتها التمثيلية، في الداخل والخارج، بحكم تراجع دورها في الصراع ضد إسرائيل، وعدم استطاعتها تحقيق إنجازات سياسية جديدة توازي التضحيات المبذولة، بعد التحول من حركة تحرر وطني إلى سلطة، تحت الاحتلال، ومع ضياع الإجماعات الوطنية نتيجة للخلافات السياسية، وغياب العلاقات الديمقراطية في مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية ونظامها السياسي.

تهميش منظمة التحرير الفلسطينية

وفيما يتعلق بمنظمة التحرير الفلسطينية، فقد همشت القيادة الفلسطينية، أو هشمت، منظمة التحرير، أكثر من أي طرف آخر، وذلك في تركيزها على السلطة، وإدارة الأراضي الفلسطينية المحتلة (1967)، التي لم تصبح دولة، بعد توقيعها اتفاق أوسلو (1993)، وهذا يشمل خطاباتها وأشكال عملها وأولوياتها السياسية، التي باتت تتركز على اعتراف إسرائيل بـ»استقلال الدولة الفلسطينية»، بحسب التعبيرات الرسمية التي اعتادت القيادة الفلسطينية تضمينها في خطاباتها، بعد أن اعترفت هي بإسرائيل، مما يعني بداهة استبعاد الفلسطينيين اللاجئين من المعادلات السياسية الفلسطينية، وحصر تمثيل القيادة الفلسطينية بفلسطينيي الضفة والقطاع، من الناحية العملية. وباختصار، فإن منظمة التحرير اليوم باتت بمثابة هيكل لا يتم تشغيله، أو استخدامه، إلا في المناسبات، أو لأغراض تغطية الفراغ السياسي أو لتعزيز الشرعية، رغم وجود لجنة تنفيذية، ومجلس مركزي، ومديري دوائر، ومديري مكاتب، وموازنات، ورواتب.

Nesma Moharam

الاستعصاء في كيان السلطة

أما كيان السلطة (وهو بمرتبة حكم ذاتي- أقل من الدولة)، فهو يعاني من استعصاء ناجم عن عدم قدرة الفلسطينيين على تحويله إلى دولة مستقلة ومترابطة وذات سيادة، بسبب ممانعة إسرائيل وتكريسها واقع الاحتلال والاستيطان، وبحكم غياب الضغط الخارجي (الدولي والعربي) عليها. لكن هذا الاستعصاء ناجم، أيضا، عن ضعف البني الوطنية الفلسطينية، والخلافات السائدة، سيما مع انقسام كيان السلطة إلى كيانين، متنافسين، ومتصارعين، واحد بقيادة حركة “فتح” في الضفة، والثاني بقيادة حركة “حماس” في غزة، يضاف إلى ذلك افتقاد السلطة لآليات الانتقال الديمقراطي، وضمن ذلك طريقة الرئيس الفلسطيني المزاجية والفردية في العمل، إذ قام بحل المجلس التشريعي المنتخب (أواخر 2018)، ثم حل مجلس القضاء الأعلى (صيف 2019)، وبعدها ألغى عملية الانتخابات الرئاسية والتشريعية (في أبريل/نيسان 2021) التي كانت مقررة بعد شهر (مايو/أيار 2021)، والتي كانت موضع آمال كثر لتجاوز مشكلتي الانقسام وفقدان الشرعية والفراغ القيادي.

هكذا عرف الفلسطينيون حوالي 18 تشكيلة حكومية (منذ إنشاء السلطة في 1994)، بواقع حكومة كل عام ونصف العام، ما يفيد بأنه بات للفلسطينيين، في تلك الفترة القصيرة، أكبر عدد من الوزراء بالقياس لأي دولة أخرى في العالم، مع 23 وزيرا على الأقل في كل حكومة. ولا يقتصر الأمر على ذلك، فثمة أيضا جيش من وكلاء وزراء ومديري عمــوم للوزارات وقـــادة أجهزة أمنية وسفراء ومستشارين، وكل ذلك يتطلب بداهة موازنات ورواتب باهظة ومصاريف مهمات تشكل عبئا ضاغطا على كاهل الفلسطينيين، الذين يعانون أصلا قلة الموارد الذاتية، ويرتهنون في مداخيلهم إلى المساعدات الخارجية.

الحديث يدور هنا عن حركة وطنية غنية بخبراتها الكفاحية، ويعرف شعبها أنه يضم نسبة عالية من المتعلمين والأكاديميين والناشطين السياسيين، وهي حركة دفع شعبها أثمانا باهظة، في معاناته وتضحياته، إلا أن ذلك كله لم ينعكس في طبيعة بنائها لمؤسساتها وإطاراتها وعلاقاتها الداخلية، ولا في نمط إدارتها لمواردها

ترهل حركة فتح

تعتبر «فتح»، بمثابة الضلع الثالث للقيادة الفلسطينية التاريخية، والسائدة، فتلك الحركة هي التي أطلقت الوطنية الفلسطينية المعاصرة، وقادت الشعب الفلسطيني طوال العقود الماضية، وتحكمت بكل الخيارات السياسية التي انتهجتها الساحة الفلسطينية، في إطلاق الكفاح المسلح، وفي الانخراط في الكفاح السياسي، في الثورة والتسوية، في الانتفاضة والمفاوضة، كحركة تحرر وكسلطة. لكن يمكن التمييز في هذه الحركة بين مرحلة وجودها في الخارج ومرحلة انتقالها للداخل، كسلطة، وفقا لاتفاق أوسلو (1993)، كما بين مرحلة زعامة ياسر عرفات، ومرحلة محمود عباس؛ ففي المرحلة الأولى كانت حركة «فتح» هي التي تتحكم بكل صغيرة وكبيرة في الساحة الفلسطينية، أما في المرحلة الثانية (سيما مرحلة محمود عباس) فقد بات ثمة انقسام فلسطيني، وظهرت حركة "حماس" كسلطة، وكمنافس لحركة «فتح» على قيادة الشعب الفلسطيني، وتحديد خياراتها السياسية والنضالية. ومعلوم أن حركة «فتح» لم تعقد سوى مؤتمرين لها منذ انتقالها إلى الداخل، وتحولها إلى سلطة، الأول (السادس) في بيت لحم (عام 2009)، والثاني (السابع) في رام الله (2016).

المشكلة مع «حماس» أنها تغلب وضعها، أو تتلاعب بوضعها، كحركة إسلامية بين كونها حركة وطنية، أو حركة دينية على كونها حركة سياسية، لكن الأهم من ذلك أنها تأخذ الخلاف الداخلي إلى أعلى توتراته

إضافة إلى كل ذلك فإن تلك الحركة باتت تحمل عبء السلطة، وباتت مكانتها تتحدد كحزب حاكم، وكجسم بيروقراطي، مهمته تشكيل قاعدة اجتماعية للسلطة، ناهيك أن «فتح»، في هذا الوضع، غيرت من المبادئ الأساسية التي انطلقت من أجلها، علما أنها انطلقت (1965) قبل احتلال الضفة وغزة، الأمر الذي أضعف من شعبيتها، وأفاد منافستها «حماس»، سيما بعد رحيل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات. وفوق ذلك فإن طريقة الرئيس الفلسطيني المزاجية في القيادة، واستفراده بالقرارات، وتقريبه الموالين، أدت إلى تضعضع وحدة «فتح»، ونشوء مراكز قوى داخلها، وإخراج كل المعارضين للرئيس من إطارها، حتى من القياديين من الدرجة الأولى، وهذا حصل، على سبيل المثال لا الحصر، مع ناصر القدوة، ونبيل عمرو، ومحمد دحلان، ويشمل ذلك الأسير مروان البرغوثي، وهذا ما تبدى في تعدد قوائم «فتح» في الانتخابات، فيما يمكن اعتباره السبب الأساس لإلغاء الانتخابات في العام 2021.

أما الفصائل الفلسطينية، وهي تتمة الضلع الثالث، في مثلث الكيانات السياسية، فتمثل 16 فصيلا، بحجم يزيد حتى على الأحزاب الموجودة في دول كبرى علما أن ثمة لكل فصيل قيادة ومكاتب وموازنات ومتفرغين، ونظاما من العلاقات البينية، والاعتمادية في الموارد، وارتهانات وتوظيفات سياسية، رغم أن معظم هذه الفصائل لم تعد لها أي مكانة تمثيلية في مجتمعات الفلسطينيين في الداخل والخارج، وليس لها أي دور في مواجهة العدو الإسرائيلي، كما ليست لها أي هوية فكرية أو سياسية. وتفسير هذا الوضع الشاذ أن النظام السياسي الفلسطيني السائد منذ أكثر من أربعة عقود، تأسس على نظام المحاصصة الفصائلية (الكوتة)، الذي يؤبد هذا الواقع ويعيد إنتاجه، رغم التطور المتمثل في وجود انتخابات تشريعية في الداخل، مع إنشاء السلطة (1994).

إشكالية حركة «حماس»

في الواقع، فإن ترهل جسم «فتح»، وتخبط خياراتها السياسية، سيما في شأن إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وتحولها إلى مجرد حزب للسلطة، بكل ما لذلك من تبعات وسلبيات، عزز من مكانة حركة «حماس» التي بدت أكثر شبابا، وفي بداية أهليتها الكفاحية، وهو ما تجسد في فرضها ذاتها في عمليات مسلحة في الانتفاضة الثانية، والذي تمت ترجمته فيما بعد بانتزاعها أغلبية مقاعد المجلس التشريعي الثاني في الانتخابات التي جرت في العام 2006، بعد رحيل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، وهو زعيم «فتح» أيضا.

المشكلة مع «حماس» أنها تغلب وضعها، أو تتلاعب بوضعها، كحركة إسلامية بين كونها حركة وطنية، أو حركة دينية على كونها حركة سياسية، لكن الأهم من ذلك أنها تأخذ الخلاف الداخلي إلى أعلى توتراته، وهو ما جرى فيما سمته الحسم في غزة (2007)، والذي سيطرت فيه بشكل أحادي على غزة، وأدى إلى انقسام النظام السياسي، الأمر الذي أفاد إسرائيل، وأضعف مكانة السلطة، وكبد فلسطينيي غزة أثمانا باهظة. بيد أن الأخطر من كل ذلك أنه مع «حماس» بات لإيران موطئ قدم في السياسة الفلسطينية، أو في معادلات صوغ القرارات والخيارات الاستراتيجية في الساحة الفلسطينية، فهي إلى جانب «الجهاد الإسلامي»، باتتا من أوجه متعددة بمثابة امتداد لنفوذ إيران في الإقليم، إلى درجة أن أحد القياديين الإيرانيين تحدث عن هيمنة إيران على عواصم عربية، هي بغداد، بيروت، دمشق، صنعاء، ثم ذكر غزة.

أما الفصائل الفلسطينية، وهي تتمة الضلع الثالث، في مثلث الكيانات السياسية، فتمثل 16 فصيلا، بحجم يزيد حتى على الأحزاب الموجودة في دول كبرى علما أن ثمة لكل فصيل قيادة ومكاتب وموازنات ومتفرغين، ونظاما من العلاقات البينية، والاعتمادية في الموارد، وارتهانات وتوظيفات سياسية، رغم أن معظم هذه الفصائل لم تعد لها أي مكانة تمثيلية في مجتمعات الفلسطينيين في الداخل والخارج

الفكرة هنا أن التعامل مع حركة «حماس» (والجهاد) بات لا يتعلق بمجرد فصيل فلسطيني، وإنما بات يتعلق بما يجري في الإقليم، وبما يريده معسكر ما يسمى المقاومة والممانعة (النظامان الإيراني والسوري و»حزب الله» في لبنان)، ولعل ما يجري في مخيم عين الحلوة مؤشر على ذلك، في سعي ذلك المعسكر الإطاحة بمكانة حركة «فتح» في مخيمات لبنان، كامتداد للعملية الجارية في الضفة، أيضا، وهو أمر يضر بالحركة الوطنية الفلسطينية، بمعناها ومبناها. ولعل ما يجري في حرب غزة، دلالة على تخبط الخيارات السياسية والكفاحية الفلسطينية، سيما في عدم إدراك الظروف الدولية والعربية، وما تتيحه، وما لا تتيحه للفلسطينيين، رغم تضحياتهم وبطولاتهم، كما أن في ذلك دلالة على ربط القرار الفلسطيني بأجندة وظيفية خارجية.

تخبط في التحولات وفي الخيارات

في المحصلة نحن إزاء جسم قيادي انتقل من محطة إلى أخرى، ومن حال إلى غيرها، رغم أنه بقي هو ذاته، بأفكاره، ومستوى خبراته، ونمط عمله، الأمر الذي جعل التجربة الفلسطينية تدور في دائرة مغلقة، تفتقد حقا الحيوية والأهلية والتجديد والإبداع.

هكذا، مثلا، لم تكن ثمة رؤية واضحة لطبيعة التجربة الوطنية الفلسطينية، كما لم تجر أية مراجعة نقدية لتلك التجربة بتداعياتها ودروسها، وهذا يشمل التجربة في الأردن (1965- 1970)، وفي لبنان، (1970- 1982)، وفي الأرض المحتلة في الضفة والقطاع، في الانتفاضة الأولى (1987- 1993)، وبعد الانتقال إلى الداخل في الانتفاضة الثانية (2000- 2004)، إذ تم التعامل مع كل تلك التجارب وفق عقلية السياسة اليومية، والمزاجية، والتجريبية، بمعزل عن أية استراتيجية سياسية أو كفاحية. وهذا ينطبق على الخيارات التي تبنتها الحركة الوطنية الفلسطينية، طوال العقود الماضية، فخيار المقاومة المسلحة، أو حرب التحرير الشعبية، لم تجر دراسته، أو تفحص إمكاناته الذاتية، ومدى مواءمته للظروف المحيطة، كما لم يجر تمثله بطريقة مناسبة من الناحية التطبيقية، فبدا وكأنه مجرد ظاهرة إعلامية، أو تظاهرة ميليشياوية أو تحريكية.

الأنكى أن تأثيرات هذا الخيار على إسرائيل، في ظروفه وفاعليته، كانت محدودة، إلا أنه جلب مشكلات كبيرة للحركة الوطنية الفلسطينية؛ إنْ باحتكاكاتها مع بعض الأنظمة العربية، أو بانعكاساته السلبية عليها، لجهة طغيان ظاهرة العسكرة، واعتماده في الهيمنة المجتمعية، وفي حل المنازعات البينية.

وبشكل أكثر تفصيلا، ففي التوجه نحو خيار التسوية، والذي تم إقراره على خلفية حرب 1973، والمتمثل في التحول نحو إقامة «سلطة وطنية» في الضفة والقطاع، وفق برنامج حل الدولتين، أو «الحل المرحلي»، فإن هذا التحول لم يتم التمهيد له قط في مجال التفكير السياسي، ولا في الحوارات الداخلية، ولا في المؤتمر. وللتذكير فإن أدبيات «فتح» في مطلع السبعينات (قبل الحرب المذكورة) كانت تركز على برنامج التحرير، وكانت تعارض أي مشروع كياني يستهدف تصفية القضية الفلسطينية. لكن قيادة "فتح" تحولت بعد تلك الحرب وادعت أن الظروف الدولية والعربية باتت مهيأة لإنهاء الاحتلال، وأن الفلسطينيين معنيون بتولي أمرهم بدلا من ترك الأمر للأردن ومصر (كما قبل 1967).

AFP
متطوعون وعاملون في منظمات غير حكومية يقفون بالقرب من الخيام التي نصبوها على طول الجانب المصري من معبر رفح الحدودي، مطالبين بالسماح لقافلة مساعدات بدخول قطاع غزة، في 19 أكتوبر 2023

أما بالنسبة لخيار الانتفاضة الشعبية في الداخل (1987- 1993) فقد حالت الفصائل، وخصوصا حركتا «فتح»، و»حماس»، دون انضاج البني اللازمة لبلورة وضع ذاتي في الأرض المحتلة. الأولى، عملت كل شيء من أجل الحؤول دون تبلور مركز فلسطيني قيادي في الداخل حرصا على مكانتها القيادية، (علما أنه كان يمكن أن يجنبها كثيرا من التداعيات السلبية التي حصلت فيما بعد). والثانية بسبب ميلها لطرح ذاتها كقيادة بديلة، مما أدخل الانتفاضة الأولى في تجاذبات مجانية. وهكذا تم إجهاض معاني الانتفاضة الأولى، باعتبارها تشكل حركة شعبية، من أرض فلسطينية، لأول مرة في تاريخ الحركة الوطنية المعاصرة.

بعد تلك الانتفاضة سرعان ما جرى التحول نحو المفاوضة، وكما هو معلوم فإن معظم قيادة الحركة الفلسطينية، وضمنها قيادة «فتح»، باستثناء بضعة أشخاص، الذي جرى فرضه، بحيثياته المجحفة،على المؤسسات الفلسطينية بعد أن تم التوافق عليه مع الطرف الإسرائيلي، وليس قبل ذلك. وفي الواقع فقد أتى ذلك الاتفاق على خلاف منطوق الميثاق الوطني الفلسطيني، ولم يقر في أعلى هيئة تشريعية فلسطينية وهي المجلس الوطني الفلسطيني، إلا بعد ثلاثة أعوام على إقامة السلطة الفلسطينية.

أيضا لنلاحظ أن القيادة الفلسطينية تأخذ خياراتها من دون صلة بالمجلس الوطني الفلسطيني، الذي لم تعقده سوى مرتين، في دورتين عاديتين منذ إقامة السلطة (قبل 30 عاما)، الأولى عام 1996 (الدورة 21)، وذلك لتعديل الميثاق الوطني، وفقا للإملاءات الأميركية- الإسرائيلية، والثانية عام 2018 (الدورة 23)، أي بعد 22 عاما، في حين تم عقد الدورة 22 (2009) لترميم عضوية اللجنة التنفيذية فقط، مع ملاحظة أن معظم أعضاء هذا المجلس في السبعينات والثمانينات، وأغلبهم جاء بالتعيين، وفقا لنظام المحاصصة الفصائلية (الكوتة)، وقد انتفخت عضويته من حوالي مئة في البدايات (في السبعينات)، إلى ثلاثمئة في الثمانينات، ثم إلى 747 عضوا في آخر اجتماع له في رام الله (الدورة 23، عام 2018).

المشكلة مع «حماس» أنها تغلب وضعها، أو تتلاعب بوضعها، كحركة إسلامية بين كونها حركة وطنية، أو حركة دينية على كونها حركة سياسية، لكن الأهم من ذلك أنها تأخذ الخلاف الداخلي إلى أعلى توتراته

في تجربة الانتفاضة الثانية تفاقم الأمر؛ حيث أزاحت الفصائل المسلحة الكتلة الشعبية، وحلت محلها، واستبدلت الأساليب المدنية/ الشعبية بأسلوب المقاومة المسلحة، ولا سيما بالعمليات التفجيرية، ما أدى لتداعيات خطيرة على الشعب الفلسطيني وكيانه الناشئ وحركته الوطنية، حيث أتاح ذلك لإسرائيل الاستفراد بالفلسطينيين، الذين خرجوا عن قواعد اللعبة، بتدمير بناهم التحتية وفرض الحصار عليهم، ومعاودة احتلال مناطق السلطة الفلسطينية، وبناء الجدار الفاصل، وتعزيز الأنشطة الاستيطانية، والتوجه نحو فرض الحل الأحادي. وإذا كانت «حماس» تتحمل المسؤولية عن أخذ الفلسطينيين نحو هذا الخيار، الذي عاد بنتائج سلبية على الشعب الفلسطيني وعدالة قضيته، فإن قيادة "فتح" تتحمل المسؤولية عن انسياقها في المزايدة على «حماس» في هذا الخيار، بدلا من أن تفرض توجهها بشأن حصر المقاومة المسلحة في الأراضي المحتلة، وبشأن تنظيم وتائر الانتفاضة، وإعادة الاعتبار لها باعتبارها انتفاضة شعبية.

المشكلة أن قيادة هذه الحركة لم تقف مرة واحدة في مواجهة ذاتها، لمراجعة شعاراتها وفحص خياراتها ونقد تجربتها. فاقم من ذلك انتقالها من حال إلى أخرى، بصورة مفاجئة، لا علاقة لها بسابقتها، من حيث الخطابات وأشكال العمل والإطارات المعتمدة. يأتي ضمن ذلك، مثلا، انتقالها من حركة تحرر وطني إلى سلطة، ومن هدف التحرير إلى إقامة دولة في الضفة والقطاع، ومن العمل المسلح إلى المفاوضة، ومن الحرب الوجودية ضد إسرائيل إلى التعايش معها كدولة في حدود ما قبل 1967. والمعنى أن الحركة الفلسطينية، في نقلاتها الكبيرة والخطيرة تلك، لم تصف الحساب مع تراثها السياسي، ولم تفسر، أو توضح، مبررات ذلك لشعبها، أو للمنخرطين فيها.

هكذا، فإن الحركة الوطنية الفلسطينية، طوال 58 عاما، لم تستطع إنجاز الأهداف التي أخذتها على عاتقها، ولم توفق في الخيارات التي انتهجتها، في الكفاح المسلح وفي التسوية، في الانتفاضة وفي المفاوضة، فضلا عن أنها لم تحافظ على وضعها كثورة أو حركة تحرر ولم تفلح في التحول إلى سلطة، لوقوعها تحت سلطة الاحتلال.

ثمة عدة استنتاجات هنا، أولها أن الكيانات الفلسطينية التي انطلقت في الستينات وصلت إلى نهاياتها، بخطاباتها وبناها وأشكال عملها ووسائل كفاحها، هذا تأكد أكثر منذ التحول من حركة تحرر إلى سلطة في الضفة والقطاع، فنحن إزاء جسم آخر مختلف كليا. وثانيها أن القيادة الفلسطينية متحررة إزاء شعبها، بسبب موازين القوى المختلة لصالح إسرائيل، ولعدم وجود المجتمع في إطار إقليمي موحد، ولأن الطبقة السياسية الفلسطينية لا تعتمد في مكانتها ونفوذها على شعبها. وثالثها أن مشكلة الفلسطينيين لا تتعلق بالذهاب نحو هذا الخيار أو ذاك، فقط، وإنما بحال الترهل والتآكل الذي تعاني منها بناهم، والتي تفتقد لتقاليد المساءلة والمحاسبة، إذ إن وجود بني حية، وعلاقات ديمقراطية، وكوادر تمتلك الحد الأدنى من المسؤولية، من شأنه تقليل الخروج عن المسار الوطني، أو تدارك مخاطر ذلك، أو أقله المحافظة على البيت. ورابعها أن الحركة الفلسطينية أخفقت في الخيارات التي أخذتها على عاتقها، ليس بسبب ضعف قواها في مواجهة عدوها فقط، أو لعدم توفر الظروف الدولية والإقليمية المواتية لها فحسب، وإنما، أيضا، بسبب عدم توفر الشرط الذاتي لذلك، بحكم تخلف إدارتها، أو بمعنى آخر بسبب تخلف عملية صنع القرار فيها، وهذا بدوره ناجم عن غياب الروح المؤسسة والقيادة الجماعية والعلاقات الديمقراطية في بني هذه الحركة، وميلها للشعاراتية والإنشائية وتقديس التضحيات، على حساب تنمية الفكر النقدي وحسابات الجدوى والحفاظ على الإنجازات، كما بسبب سيادة العقلية المزاجية والتجريبية والميدانية التي طبعت هذه التجربة بطابعها. وخامسها يفيد بأن قيام كيان فلسطيني، في الأراضي المحتلة (1967)، لم يحسن أحوال شعب فلسطين، ولم يقربهم حتى من تحقيق هدفهم المتعلق بدحر الاحتلال.

وفي المحصلة، نحن إزاء مسار تتآكل فيه جغرافيا وديموغرافيا الفلسطينيين، وتستهلك فيه حركتهم الوطنية، أو تفرغ من مضمونها، بتحويلها إلى مجرد سلطة تخضع للاحتلال أو تتعايش معه. وسادسها، أن مصير هذا الكيان الفلسطيني المفصل بطريقة خاصة، يعتمد في استمراره على الموقف الإسرائيلي، والمساعدات الخارجية، وعلى القرار الدولي والإقليمي، أكثر بكثير من اعتماده على قوة الفلسطينيين ومواردهم الذاتية.

على ذلك لم يعد مستغربا أن القضية المطروحة اليوم، في المحافل الدولية والإقليمية والإسرائيلية، هي مجرد منع انهيار السلطة، وليس إقامة الدولة، أو إنجاح عملية التسوية، وهذا هو جوهر الخلاف الأميركي- الإسرائيلي.

font change

مقالات ذات صلة