تدفع بصفاتها وشهاداتها ومشروعها وبكل ما يعلن عن انتسابها الى العالم الحديث والشراكة فيه في وجه الخطاب الإسرائيلي الإلغائي. من هنا نفهم درجة الشراسة المبالغ بها التي عوملت بها من قبل الشرطة الإسرائيلية والتي يمكن تأكيد أن الهدف منها كان نزع كل تلك الصفات عنها ومحو إنسانتيتها وإعادتها الى مكان بدائي يائس يعجز عن تكوين أي معنى، الا ما يفزره من غضب وحقد ورغبات في الانتقام.
ينتمي الكلام والغناء في نهاية المطاف إلى العقلنة، لذا تمارس إسرائيلا تنكيلا مستقلا عنيفا يهدف إلى إغراق التعبير الفلسطيني في الهذيان واليأس والخرافة، وسلب الفلسطينيين القدرة على الفعل ومحاصرتهم في دائرة ردود الأفعال التي تنطلق من اليأس وتقع فيه. لكنّ مشروع دلال أبو آمنة يتجاوز ردة الفعل والرغبة العارمة في الصراخ. إنه فعل واع يحارب المحو من ناحية ويفتح من ناحية أخرى حوارا مع العالم ويدعوه الى حماية نفسه وقيمه من آثار المجازر التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي ضد المدنيين في غزة، فدم الغزيين والفلسطينيين هو دم العالم وقيمه والذي في حال تركه يهدر فإن اللحظة التي تليه ستولّد عالما سيكون فيه كل شي مباحا.
الفلسطيني ليس رقما
قتل الكاتب والمدون الغزاوي يوسف دواس مع 27 من أفراد عائلته في غارة إسرائيلية. إطلالة على المعلومات الشحيحة المتوفرة عن سيرته تظهره ناشطا في مبادرة "نحن لسنا أرقاما" التي حرصت منذ إطلاقها في عام 2015 على تدوين يوميات الفلسطينيين ومحاولاتهم المستميتة للدفاع عن حضورهم الإنساني الطبيعي والعادي في مواجهة تراكم مشاريع محو متواصلة تسعى إلى تعليب وجودهم في صيغة الأرقام.
لا تحتمل الأرقام الوجوه والملامح، ولا تخترقها السير والحكايات، إنها نظام تجريد شامل لا يسقط عن الناس حقوقهم فحسب، بل تاريخهم أيضا، كأنهم لم يكونوا يوما.
فتاة فلسطينية تمسك بالكتب التي تم إنقاذها بينما يبحث الناس عن ناجين بين أنقاض مبنى مدمر أصيب في غارة إسرائيلية في خان يونس بجنوب قطاع غزة في 24 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
كان دواس في مقالاته الأخيرة المكتوبة بالإنكليزية يحاول مخاطبة عالم سبق أن عانى ذلك الفزع الرهيب من اختصار الكائن البشري إلى رقم في لحظات الرعب الفاشي والنازي. عالم الغرب الحديث بما فيه من قيم العدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان تبلور بعد هزيمة تلك المشاريع التي كان جوهرها قائما على صبّ الكائنات البشرية في قالب الأرقام.
ذلك العالم الذي تأسّس على تجاوز هذا الرعب يفترض أن يفهم معنى الإصرار الإسرائيلي على دفع الحياة الفلسطينية إلى الإقامة الجبرية في حالة الرقم. لكن الأمور لم تجر على هذا المنوال بل نمت صيغة إعادة تأويل تضع الإسرائيلي في وضعية الكائن الأعلى ولا تكتفي بوضع الفلسطيني في موقع الأدنى بل تتجاوز ذلك واضعة إياه في موقع يحوله إلى الكائن /الرقم بشكل نهائي.
في الموقع الذي اختاره دواس لنفسه تتحدّد الأمور بوصفها بنية أولية مبدئية وعمومية غير خاضعة للرأي والنقاش، من قبيل حق كل إنسان في أن يوجد وأن يكون وأن يمتلك معنى عمره.
في مقال حمل عنوان "من سيدفع ثمن العشرين عاما التي فقدناها"، منشور في 14 يناير/ كانون الثاني 2023، يعرض آثار الهجوم على غزة في العام 2022، واصفا خريطة المشاعر التي انتابته ووالده مع احتراق أرضهم بكل ما فيها من أشجار وتحولها إلى رماد:
"هجوم غزة الأخير نجح في تدمير جزء مهم من ماضينا. تاريخ عائلتنا. تراثنا. لكن من نحن دون ماض أو تاريخ؟ سألت نفسي.حاولت أن أطمئن والدي من خلال القول إن الأرض ستتعافى ونستطيع العمل بدعم الأمم المتحدة لإعادة زراعة الأشجار التي فقدناها.حتى لو ساعدنا شخص ما في إصلاح الضرر وزرع أشجار جديدة، من سيردّ لي تلك السنوات التي قضيتها في تربيتها ودعم نموها؟ ردّ عليّ بغضب. من سيدفع ثمن العشرين عاما التي فقدناها. ساد الصمت المحرج بيننا، وكلانا تأمل في الطبيعة الرمزية لخسارتنا".