المرأة "كائن اقتصادي" ولو على حساب قتل "الجنين"

ماذا عن كلوديا غولدن الفائزة بنوبل الاقتصاد؟

AP
AP
كلوديا غولدن

المرأة "كائن اقتصادي" ولو على حساب قتل "الجنين"

كانت جائزة نوبل في الاقتصاد لهذه السنة من نصيب كلوديا غولدن، المتخصصة بتاريخ العمل والاقتصاد، عن أبحاثها التي تناولت مكانة المرأة في سوق العمل ودخلها وتطورهما.

وأعلنت لجنة التحكيم التي قررت منح غولدن الجائزة أن عملها عزز فهم اللجنة لوضع المرأة في سوق العمل، حيث بحثت غولدن في الأرشيف وجمعت بيانات يمتد تاريخها على أكثر من 200 عام، مما مكنها من إجراء أول وأهم بحث في تطور الدور التاريخي للمرأة في سوق العمل، وكذلك الاختلافات في معدلات التوظيف والدخل بين الرجال والنساء مع مرور الوقت.

واعتبر قرار لجنة التحكيم رسالة قوية لضرورة تعزيز موقع المرأة في العمل وأثر ذلك على الاقتصاد.

تبلغ غولدن من العمر 77 عاما وتحمل شهادة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة شيكاغو، وهي المرأة الثالثة التي تفوز بجائزة نوبل في الاقتصاد مقارنة بـ86 رجلا فازوا بها حتى اليوم.

كما أنها أول امرأة تفوز بهذه الجائزة منفردة، فالفائزتان بها قبلها، الأميركية إيلينور أوستروم، حصلت على الجائزة عام 2009 بالشراكة مع أوليفر ويليامسون، والأميركية الفرنسية إستير دوفلو، حصلت عليها بالشراكة مع أبيجيت بانرجي ومايكل كريمر.

وأكد جاكوب سفينسون، أحد أعضاء لجنة التحكيم، أن كون الفائز امرأة لم يكن له علاقة بقرار منحها الجائزة.

كلوديا غولدن هي المرأة الثالثة التي تفوز بجائزة نوبل في الاقتصاد مقارنة بـ 86 رجلا فازوا بها حتى اليوم.

من جهة أخرى، غولدن هي أول امرأة تحصل على منصب أستاذ دائم في قسم الاقتصاد في جامعة "هارفرد"، وأول خبيرة تركز أبحاثها على دراسة المرأة كـ "كائن اقتصادي" بحسب قولفيليب أسكينازي، مدير الأبحاث في كلية باريس للاقتصاد.

المرأة "كائن اقتصادي"

ترأست غولدن الجمعية الاقتصادية الأميركية والمكتب الوطني للأبحاث الاقتصادية الذي يعمل على نمط المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية الفرنسي الشهير(INSEE). وذكرت إحدى نشرات صندوق النقد الدولي أنه غالبا ما يتم الاستشهاد بغولدن من بين الاقتصاديين العشرة الأكثر تأثيرا في العالم.

تظهر أبحاث غولدن عن مشاركة المرأة في العمل، أن هذه المشاركة لم تأخذ منحى تصاعدياً على مدى الـمئتي عام الماضية، بل اتخذت منحنى على شكل حرف U اللاتيني.

REUTERS
المؤتمر الصحافي الذي أعلن فيه عن أن جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية لعام 2023 ذهبت إلى كلوديا غولدين، في ستوكهولم، السويد، 9 أكتوبر.

فمع التحول من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي في أوائل القرن التاسع عشر، انخفضت في الغرب، وخصوصا في الولايات المتحدة، مشاركة المرأة المتزوجة، كما أن أمهات جيل "طفرة المواليد" اخترن بلا منازع الأسرة على حياتهن المهنية. مع بداية القرن العشرين، زاد وجود النساء في العمل مع انتشار التعليم وقطاع الخدمات، وكان هدف النساء الحصول على الوظائف، ولاحقا تكوين الأسرة.

في منتصف العشرينات انقلبت الأمور، إذ بات تكوين الأسرة هو الهدف الأول، ثم الوظيفة بعد ذلك، لتعود الأمور إلى سيرتها الأولى مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وبسبب ارتفاع الأجور، لتغليب الحصول على الوظيفة بداية ثم تكوين الأسرة أو العودة سريعا إلى الحياة المهنية فور تأمين تربية الأطفال.

منذ بداية الستينات، تشجعت الشابات على تأخير الزواج وإنجاب الأطفال والالتحاق بالجامعات بكثافة وحصول بعضهن على مستويات تعليم أعلى من الرجال مع توجه نسبة مهمة منهن إلى دراسة القانون أو الطب، بحيث بات في الامكان تصور أن يكون الجميع متساوين، كل بحسب مؤهلاته، في اغتنام فرص العمل والتقدم في التسلسل الهرمي.

على الرغم من التطورات السابقة المهمة، بقيت هناك تفاوتات كبيرة. فعلى مستوى العالم، تشارك نحو 50 في المئة من النساء في سوق العمل، مقارنة بـ 80 في المئة من الرجال، وتكسب أقل مع فرص محدودة للحصول على عمل والوصول إلى قمة السلم المهني.

تفاوت الرواتب بين الجنسين

بالنسبة إلى الولايات المتحدة، تذكر غولدن أن النساء يحصلن فيها على 57 في المئة من راتب نظرائهن من الرجال بعد عشر سنوات من نيلهم معا درجة الماجستير. هذا التفاوت في الأجر يضيق في المهن الأقل تأهيلا، حيث ينظر إلى الموظفين عموما على أنهم قابلون للتبديل بشكل أكبر ولديهم مجال أقل للارتقاء في سلم الرواتب.

يشير رسم بياني نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" تحت عنوان "?What's Your Pay Gap" إلى أن متوسط دخل المرأة أقل من دخل الرجل في 439 مهنة ووظيفة أميركية من أصل 446. وتختلف الفجوة مبدئيا تبعا لتأهيل المرأة، فكلما كانت المرأة مؤهلة أكثر، كان الوضع أسوأ. وهذا ما يظهر في فئة المداخيل السنوية التي تتراوح ما بين المئة والمئة وخمسين ألف دولار، ويندرج فيها المحامون وأطباء الأسنان والاقتصاديون والمستشارون الماليون وغيرهم، بمن فيهم القضاة، حيث يبلغ متوسط ما تتقاضاه النساء 67 في المئة من مخصصات القضاة الذكور.

أما في فئة أصحاب المداخيل العليا التي تتراوح ما بين المئة وخمسين ألفا والمئتي ألف دولار، فلا يوجد فيها مبدئيا إلا الذكور، في مقدمهم الجراحون.

في المقابل، يختفي التمايز في الأجر عندما يتعلق الانتاج والبدل على أساس القطعة.

بمناصرتها حماية المرأة كـ"كائن اقتصادي"، لا تجد غضاضة في أن يكون ذلك على حساب "حق الجنين" في الحياة.

الأسرة أم الوظيفة؟

بالنسبة الى الأزواج، تشير غولدن الى أن الوقت الأكثر مساواة في الحياة المهنية هو بعد التخرج من الجامعة مباشرة. ويبدأ الاختلاف في الراتب بعد ولادة الطفل الأول. فأحدهما سيكون مجبرا على تكييف وضعه مع احتياجات الأطفال. وعادة ما تقوم المرأة بهذا الأمر، وتتحمل أعباء هذه "المرونة"، بحسب تعبير غولدن، مما يقلص قدرتها على اغتنام الفرص للتقدم في التسلسل الهرمي وكسب راتب أعلى، وهو أمر متوقع لدى أصحاب العمل ويراعونه عند وضع شروط التوظيف.

كلوديا غولدن

لكن التكنولوجيا الحديثة وظهور أجهزة الكومبيوتر والإنترنت، أحدثت تغييرا مهما في التوازن بين الرجال والنساء، إذ بات في الإمكان العمل من بعد والنتيجة عدم تفضيل الرجال على الدوام بشكل منهجي. وكان سبق أن أحدثت دور الحضانة وانتشار حبوب منع الحمل نهاية الستينات وتشريعات الإجازات العائلية وتلك التي تسمح بالإجهاض، وقبلها تشريعات مكافحة التمييز على أساس الجنس، تغييرا مماثلا في التوازن بين عمل الرجل والمرأة، تمثل في خفض أعباء "المرونة" التي تتحملها المرأة بشكل مهم لكن غير كاف.  

حماية المرأة واستباحة الجنين

اللافت أن غولدن، بمناصرتها حماية المرأة كـ"كائن اقتصادي"، لا تجد غضاضة في أن يكون ذلك على حساب "حق الجنين" في الحياة. إذ لم تخف استياءها من تراجع "الحق في الاجهاض" في بلادها، مما يعيق في نظرها موقع المرأة في سوق العمل. 

المعيب أن لجنة التحكيم لم تتوقف عند هذا الأمر لتمنح جائزتها لامرأة تمنح الأولوية لحق القتل من أجل العمل والاقتصاد بدلا من تكريم الجهود المنصبة على وضع آليات تحمي الجنين والاقتصاد معا.

جدير بالذكر أن مناهضة استخدام حبوب منع الحمل والإجهاض، كانت في صلب اهتمامات وعظات قداسة البابا مار يوحنا بولس الثاني (John Paul II)، وأدرجهما في مقدم انتقاداته للمجتمع الرأسمالي، ومن جملة ما قاله في الموضوع، الموعظة التالية "إن الجنين هو إنسان بدأ الحياة، هو الكائن الأكثر براءة، فلا يمكن البتة اعتباره معتديا، إنه ضعيف أعزل محروم حتى من أبسط وسائل الدفاع وهي قوة التوسل لأنين المولود الجديد وصرخاته".

تعتقد غولدن أن البلدان الغنية أصبحت على أعتاب ما تسميه "الفصل الأخير" من "التقارب الكبير بين الجنسين"، أي المساواة الكاملة بين الجنسين، لكن الحقيقة ليست كذلك. فعدم المساواة التي تناولتها غولدن في البحث، هي فقط في اقتناص فرص العمل والترقي فيه إلى المستويات القيادية العليا وفي الأجر، وليس عدم المساواة الاقتصادية الأشمل.

فجوة الثروة بين الجنسين تترسخ في الأسرة، حيث تتم تنشئة النساء اجتماعيا على قبول عدم التكافؤ في الميراث امتثالا للدين أو حفاظا على السلام العائلي.

العمل ليس مدخلا للثروة

فالتفاوت الاقتصادي مرتبط على نحو متزايد كما تقول الباحثتان الاجتماعيتان، سيلين بيسيار وسيبيل غولاك، ليس فقط بالأجور بل أيضا بالثروة، أي برأس المال والأصول وكل ما هو مخزن للقيمة. ويشكل التفاوت في الثروة سمة مركزية للرأسمالية المعاصرة. وقد أظهر الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي وفريقه في تقريرهم عن عدم المساواة في العالم لعام 2022، أن أغنى 10 في المئة من الأسر تمتلك أكثر من ثلاثة أرباع (76 في المئة) الثروة العالمية، في حين تمتلك شريحة الـ 50 في المئة الأدنى 2 في المئة فقط من الثروة. 

في المقابل، أظهر الاقتصاديان نيكولا فريمو وماريون ليتورك، أن فجوة الثروة بين الجنسين في فرنسا اتسعت بشكل مطرد لصالح الرجال، حيث ارتفعت من 9 في المئة في عام 1998 إلى 16 في المئة في عام 2015. وقد وجدا أيضا أن الرجال يمتلكون بشكل منهجي رأس مال أكبر من النساء، سواء كان ذلك مسكناً أو أرضاً أو أصولاً مالية ومهنية، علما أن الفجوة كانت متواضعة بين الرجال والنساء من الطبقة العاملة وكانت أوسع بكثير في مجموعات الدخل الأعلى. 

بالنسبة الى غولدن، فإن جزءاً من فجوة الثروة بين الجنسين يرتبط بما يحدث في سوق العمل، حيث من الأسهل على الرجال أن يدخروا المال. لكن الحقيقة أن ثروة الفرد في الوقت الحالي، أصبحت أقل مما جمعه هو شخصياً، وأكثر مما حصل عليه من خلال الميراث. هنا يلاحظ أن فجوة الثروة بين الجنسين تترسخ في الأسرة، حيث تتم تنشئة النساء اجتماعيا على قبول عدم التكافؤ في الميراث امتثالا للدين أو حفاظا على السلام العائلي أو لضمان الحفاظ على الوضع الاجتماعي للأسرة والمؤسسات التي تمتلكها. حتى عند الطلاق والانفصال، يميل الرجال إلى الاحتفاظ بملكية "الأصول الهيكلية" مثل الأراضي أو العقارات أو الشركات او المؤسسات، في حين تتلقى النساء المبالغ النقدية. وعندما يحتفظن بأصول إنتاجية، عادة ما تكون من الأقل ربحية.

مع ارتفاع عدد الأزواج الذين يختارون فصل أصولهم من طريق الوصية أو التخصيص على قيد الحياة، أو من طريق العيش في علاقات شبيهة بالزواج أو من طريق توقيع اتفاقات ما قبل الزواج، أصبحت النساء والمطلقات والأرامل أقل حماية خصوصا أن رواتبهن التقاعدية أقل قيمة من رواتب الرجال.

بلوغ المساواة بين الجنسين لا يتطلب فقط التركيز على ما يجري في سوق العمل، كما فعلت غولدن، بل وأيضاً التحقيق في ما يجري داخل الأسر للكشف عن الحصة التي تسيطر عليها المرأة فعليا فيها. وهو أمر يتطلب "جيشا" من المحققين والمحققات المتعمقين في علوم الاجتماع والدين والتاريخ، لتوثيق المعطيات وتحليلها واستخلاص الاستنتاجات التي تعكس حقيقة الواقع.

font change

مقالات ذات صلة