الصوت اليهودي ضد الحرب على غزة

الأصوات اليهودية تحتاج لبعد فلسطيني

AFP
AFP
محتجون يهود يرفعون في لندن لافتة تطالب بوقف اطلاق النار في 17 نوفمبر

الصوت اليهودي ضد الحرب على غزة

كان لافتا هذه المرة بروز الصوت اليهودي المعارض للحرب التي تشنّها إسرائيل على الفلسطينيين، أكثر من أية فترة مضت منذ إقامتها. بل إن الأمر وصل حد المشاركة في مظاهرات واعتصامات بعواصم ومدن رئيسة في الدول الغربية، مثل واشنطن ونيويورك ولندن وبرلين وباريس وأمستردام وفيينا ومدريد، وقيام جماعات يهودية، مثل "الصوت اليهودي من أجل السلام" (JVP)، و"إذا لم يكن الآن" (ifNotNow)، و"ناطوري كارتا"، مع مشاهير يهود، فنانين وكتابا وأكاديميين، بكتابة بيانات، وتوجيه عرائض إلى حكوماتهم، في الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، يطالبون فيها بوقف تلك الحرب، والكف عن التضييق على الأصوات المناهضة للسياسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، بذريعة "اللاسامية"، وعدم التضييق على الحق في المعارضة.

لقد تمت إثارة الضمير الأخلاقي لهؤلاء اليهود بتحفيز من:

أولا، الفضيحة الأخلاقية المتمثلة في قيام إسرائيل بحرب اعتبرها كثر حرب إبادة معلنة ضد الفلسطينيين، أمام مرأى العالم، مع كل الأهوال المتضمنة فيها، حتى إن الصحافي الإسرائيلي جدعون ليفي اعتبر في موقف جريء له أن "إسرائيل كأكثر الأنظمة الاحتلالية طغيانا ووحشية، وهي تعتبر نفسها ضحية، بل وضحية وحيدة، والتي تجرد الفلسطينيين من إنسانيتهم، كي تبرر مصادرتها حقوقهم".

Oen Source
الفيلسوفة الاميركية جوديث بتلر

وتابع: "منذ 1948 وإسرائيل تعاقب غزة... نعتقل، نقتل، نسلب، نرحّل، نصادر أراضيهم، ونقوم بتطهير عرقي، أيضا نواصل الحصار... علينا الآن أن نبكي بمرارة على الضحايا الإسرائيليين؛ ولكن علينا أيضا أن نبكي على غزة، التي معظم سكانها لاجئون خنقتهم أيدي إسرائيل؛ غزة التي لم تعرف يوما واحدا من الحرية". ("هآرتس"- 8/10/2023).

ثانيا، استغلال إسرائيل لمكانة "الهولوكوست"، لتقديم نفسها كضحية، تدافع عن نفسها، بممارسة سياسة التطهير العرقي، والأرض المحروقة ضد الفلسطينيين، الذين باتوا ضحية لها، ما أثار رفض قطاعات من اليهود هذه المقارنة، رافعين شعار: "ليس باسمنا"، وأن إسرائيل لا تمثل كل اليهود في العالم بحسب تعبير نورمان فنكلشتاين.

ثالثا، منحت بعض الحكومات الغربية دعما مطلقا لتلك الحرب، مع محاولتها منع نقد إسرائيل بحجة مكافحة "اللاسامية"، رغم أن الغرب ذاته هو المسؤول عن صناعة "اللاسامية" و"الهولوكوست"، كأنه في ذلك يحاول تبييض صفحته إزاء ضحاياه اليهود، بتغطية توحش إسرائيل ضد الفلسطينيين.

أبراهام بورغ يشبه النازية في ألمانيا باليمين المتطرف في إسرائيل "بأسسه القومية اليهودية المتطرّفة والعنصرية، والمناوئة للعرب، والمناهضة لليبرالية والديمقراطية والمساواة الاقتصادية والاجتماعية

وكانت جوديث بتلر، الفيلسوفة الأميركية- اليهودية من أبرز من استنكر ذلك، فهي ترى أن "من غير الصحيح والعبثي والمؤلم لأي كان أن يجادل بأن من لديهم نقد على دولة إسرائيل معادون للسامية، أو يهود كارهون لأنفسهم، إن كانوا يهودا... من الأهمية القصوى بالنسبة لي، كيهودية، أن أجاهر بالقول ضد الظلم، وأن أكافح ضد كافة أشكال العنصرية".

وفي مقال لها بمناسبة الحرب، كتبت بتلر: "لنكن واضحين، العنف الإسرائيلي ضد الفلسطينيين طاغٍ وساحق: قصفٌ بلا هوادة، وقتلٌ للناس من مختلف الأعمار داخل منازلهم وفي الشوارع، وتعذيب في السجون... وأساليب تجويع مختلفة في غزَّة، وسلبٌ للمنازل. كلُّ هذا العنف، بأشكاله المختلفة، مُمارسٌ ضدَّ شعبٍ يرزح تحت قوانين الفصل العنصريّ، والحكم الاستعماريّ، وانعدام الجنسيَّة". ("لوس أنجليس ريفيو أوف بوكس"- 13/10/2023).

رابعا، يـنكر كثير من الدول الغربية لقيم الحرية والعدالة والمساواة، التي تدعي أنها رسالتها إلى العالم، أو استخدامها بشكل وظيفي، إذ وقفت بشكل حازم ضد الاحتلال الروسي لأوكرانيا، وأدانت جرائم الحرب ضد شعبها، مع تقديمها الدعم اللامحدود لمقاومته، في حين أنكرت ذلك على الفلسطينيين، كأن عليهم أن يرضخوا للاحتلال، أو كأنهم ليسوا شعبا، أو ليسوا مؤهلين لحقوق مواطنة كغيرهم من البشر.

AFP
محتجون يهود يرفعون في لندن لافتة تطالب بوقف اطلاق النار في 17 نوفمبر

خامسا، بديهي أن تصدع الإجماع الداخلي في إسرائيل، قبل الحرب، الناجم عن انقسام المجتمع بين متدينين وعلمانيين، المحمول على مركب إثني (شرقي- غربي)، والناجم عن اليمين القومي والديني المتطرف على النظام السياسي في إسرائيل، ومحاولته تغليب يهودية إسرائيل على طابعها كدولة ليبرالية- ديمقراطية إزاء مواطنيها، أسهم في تصدع علاقة اليهود في الخارج بإسرائيل، ووضع علامة شك حول سياساتها، وحول تمثيلها ليهود العالم، سيما مع وجود مقاربات، داخل إسرائيل وخارجها، تفيد بأن تطرف اليمين القومي والديني ضد الفلسطينيين، بات يتوازى مع التطرف ضد طابع إسرائيل كدولة ديمقراطية وعلمانية. ومثلا، هذا أبراهام بورغ (رئيس كنيست وأحد قادة حزب العمل سابقا)، يشبه النازية في ألمانيا إبان الحرب العالمية الثانية، باليمين المتطرف في إسرائيل "بأسسه القومية اليهودية المتطرّفة والعنصرية، والمناوئة للعرب، والمناهضة لليبرالية والديمقراطية والمساواة الاقتصادية والاجتماعية، في الحكومة والكنيست ووسائل الإعلام وعلى قمم التلال وشوارع المدن... نحن نتصرف بالفعل في المناطق التي قمنا باحتلالها في الضفة وغزة، كما تصرّف النازيون في المناطق التي احتلوها في الغرب". ("هآرتس"- 5/9/2023).

تميز موقف إيلان بابيه بصراحته وجرأته، إذ عبر عن إعجابه "بشجاعة المقاتلين الفلسطينيين الذين استولوا على اثنتي عشرة قاعدة عسكرية، وتغلبهم على أقوى جيش في الشرق الأوسط"

سادسا، لا شك أن ظهور إسرائيل على شكل دولة متطرفة، قوميا ودينيا، على الصعيدين الداخلي والخارجي، أثار مخاوف اليهود بخصوص مكانتهم في مجتمعاتهم، أيضا، بالنظر لتأثرهم سلبا من تآكل قيم الحرية والديمقراطية والمساواة في المجتمعات التي يعيشون بين ظهرانيها، إضافة إلى تحول إسرائيل إلى عبء سياسي وأمني وأخلاقي واقتصادي على الدول الغربية كما على اليهود في تلك الدول.

في هذا الإطار تميز موقف إيلان بابيه بصراحته وجرأته، إذ عبر عن إعجابه "بشجاعة المقاتلين الفلسطينيين الذين استولوا على اثنتي عشرة قاعدة عسكرية، وتغلبهم على أقوى جيش في الشرق الأوسط"، وبرأيه: "منذ يونيو/حزيران 1967، تعرض نحو مليون مواطن فلسطيني للسجن دون محاكمة؛ ولو لمرة واحدة في حياته على الأقل... ويعرف هؤلاء الناس أيضا الواقع المروع الذي خلقته إسرائيل في قطاع غزة عندما أغلقت المنطقة، وفرضت عليها حصارا محكما، ابتداء من عام 2007، وممارساتها المستمرة بقتل الأطفال في الضفة الغربية المحتلة. وهذا ليس جديدا على الحركة الصهيونية... لطالما كان العنف أحد الوجوه الثابتة للصهيونية منذ قيام إسرائيل عام 1948". ("Palestine Chronicle"- 10/10/2023).

وقدم نورمان فنكلشتاين دفاعه عن شباب غزة الذين "وجدوا أنفسهم في معسكر اعتقال كبير منذ ولدوا... نصف سكان غزة أطفال، 70 في المئة من سكان غزة لاجئون هم أو أولادهم وأحفادهم منذ 70 سنة، أغلب الشباب من دون وظائف، ولا مستقبل ولا فرص".

هذه بعض الأصوات اليهودية المؤثرة، في إسرائيل وخارجها، وقد بات لها صدقية، بالنظر للتصدعات والتوترات التي تشهدها إسرائيل حاليا، بخصوص هويتها وطبيعتها، وتحولها إلى دولة فصل عنصري، سيما مع صعود شخصيات إشكالية وعنيفة مثل وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، وغيرهما من أعضاء الحكومة الإسرائيلية برئاسة نتنياهو.

الجدير ذكره أن بعض تلك الأصوات قدم أصحابها مجموعة من الكتب التي تعتبر الأكثر أهمية وتميزا في مجال فهم الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وتفكيك السردية الإسرائيلية الاستعمارية والعنصرية، منها:

كتب إيلان بابيه: "عشر خرافات عن إسرائيل"، و"التطهير العرقي في فلسطين"، و"فكرة إسرائيل: تاريخ السلطة والمعرفة"، و"أكبر سجن على الأرض".

وكتب شلومو ساند: "اختراع الشعب اليهودي"، و"اختراع أرض إسرائيل".

وكتب غرشون شافير: "نصف قرن من الاحتلال: إسرائيل، فلسطين، والصراع الأكثر تعقيدا في العالم"، و"الأرض والعمل وأصول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني 1882-1919".

وكتب نورمان فنكلشتاين: "صناعة الهولوكوست: تأملات في استغلال المعاناة اليهودية"، و"ما يفوق الوقاحة؛ إساءة استخدام اللاسامية وتشويه التاريخ".

مشكلة تلك الأصوات أنها تحتاج لبعد فلسطيني قادر على استثمارها في رؤية سياسية، أو في شراكة سياسية فلسطينية- يهودية، كما أنها بحاجة لوضع عربي مناسب، إضافة إلى مزيد من الانزياح في الرأي العام الدولي لصالح قضية فلسطين كقضية تحرر وعدالة في العالم.

font change

مقالات ذات صلة