الخمر اكتشف في فلسطين القديمة وقيدته جميع الشرائع

حرمه الإسلام في السنة الثالثة للهجرة

Alamy
Alamy
جابر بن حيان، 1879

الخمر اكتشف في فلسطين القديمة وقيدته جميع الشرائع

ارتبط شرب الخمر في غالبية المجتمعات البشرية بأنواع شتى من القيود، تبدأ بالغرامة المالية، وقد تصل في أقصى تشددها إلى منعه، وإلحاق عذاب جسدي بشاربه. عُّد الخمر في الكثير من الحضارات القديمة مشروبا روحيا مرتبطا بالأرواح العالية، والنخبة، ولكن حين يصل الأمر إلى العامة تجد الفلاسفة ينتقدونه، والحكماء يحرمونه.

وقد عثر على أقدم الأدلة الأثرية على اكتشاف الخمر في بلاد الشام القديمة، وتحديدا في كهف جنوبي مدينة حيفا على الساحل الفلسطيني، ضمن تجمع سكاني ينتمي للثقافة النطوفية، إحدى ثقافات العصر الحجري، والتي سادت مناطق واسعة من بلاد الشام قبل اثني عشر ألف عام. لقد توصل البروفسور براين هايدن (مولود عام 1946) من جامعة "سايمون فريزر" الكندية إلى استخلاص نظرية من هذا الموقع تفيد بأن أبناء الثقافة النطوفية خزنوا الحبوب من أجل تخمير الجعة، قبل أن يستخدموها لصناعة الخبز، وهي نظرية تقلب الأمور رأسا على عقب، من حيث الدواعي والأسباب التي دفعت انسان العصر الحجري لتهجين القمح والشعير وبعض أصناف الحبوب.

مصر القديمة

يمكن القول إن مصر القديمة هي المكان الأول الذي أنتجت فيه الخمور بشكل تجاري، فقد عثر في موقع الكوم الأحمر (مدينة نخن القديمة) على بقايا أقدم مصنع جعة معروف في العالم، يعود إلى العام 3400 ق.م، كان قادرا على إنتاج أكثر من ألف ومائة ليتر من الجعة يوميا. وقد صنع المصريون القدماء ما لا يقل عن سبعة عشر نوعا من الجعة، وما لا يقل عن أربعة وعشرين نوعا من النبيذ. وكانت الجعة مشروب العمال العاديين، إذ تشير الحسابات المالية المتعلقة ببناء أهرامات الجيزة إلى أنه خصصت حصة يومية من الجعة لبناة الأهرامات تبلغ نحو ستة ليترات للعامل الواحد.

صنع المصريون القدماء ما لا يقل عن سبعة عشر نوعا من الجعة، وما لا يقل عن أربعة وعشرين نوعا من النبيذ

وعلى الرغم من أن الخمور عُدت مشروبات إلهية، حيث ارتبطت بالإله أوزوريس، وكانت ترافق الموتى في مقابرهم لتعاطيها في رحلة الحياة الآخرة، إلا أن بعض النصوص تشير إلى تقييدها، والتحذير من الإفراط في شربها لارتباطها أحيانا ببيوت الدعارة.

الجعة في العراق القديم

أما في العراق القديم، فكانت الجعة المشروب المفضل عند السومريين والبابليين، حيث ربطوها بالإلهة نينكاسي. ونرى في أختامهم الطينية الكثير من مشاهد شربها، في جلسات عامة يجتمع فيها عدد من الأشخاص حول برميل خشبي مملوء بالجعة، ويمتصون الشراب بقصبات رفيعة تشبه خراطيم النرجيلة.

ومن المكتشفات الحديثة المفاجئة، حانة عمومية لشرب الجعة، ربما هي الدليل الأقدم على هذا النشاط الاجتماعي في العالم، حيث كشف عنها علماء آثار من جامعتي بنسلفانيا الأميركية، وبيزا الإيطالية، أواخر العام الماضي، في مدينة لكش السومرية (موقع "تلول العباء" جنوبي العراق). ووجد المنقبون في الخندق الثالث من الموقع غرفة فيها مئات الأكواب والأواني الخزفية، في العديد منها المحتوى الأصلي من الطعام والشراب، مع كميات وافرة من عظام الأسماك والحيوانات والمخلفات العضوية التي لا تزال في مكانها.وفي أحد أركان الغرفة نفسها، عثر المنقبون على وعاءين كبيرين مستديرين، وضع أحدهما داخل الآخر مع فراغات معبأة بقطع الفخار، توصل الباحثون إلى أنهما أول جهازي تبريد من العصر البرونزي لتخزين المشروبات فيهما. كما كشفوا عن فرن كبير، وفناء مليء بالمقاعد ومستوعبات طعام خزفية دفعت علماء الآثار للجزم بأن هذه الغرفة كانت حانة عمومية ذات يوم.

ومع أن الجعة والنبيذ كانا من التقدمات المكرسة للآلهة في العراق القديم، إلاّ أننا نعثر في شريعة حمورابي (حوالي عام 1750 قبل الميلاد)، على نص يفرض نوعا من التقييد على تجارة الجعة: "إذ لم يتقاض بائع البيرة شعيرا ثمنا لبيرته، وأخذ شيئا آخر، فالبيرة تلقى في الماء". وهذا النص يعد أول نص قانوني مكتشف حتى الآن يستشف منه تقييد لتجارة الخمور.

اليونان القديمة

ويحتل الخمر موقعا مهما للغاية في اليونان القديمة، سواء في الحياة الاجتماعية أم الدينية، إلى درجة أن اليونانيين صنفوا من لا يشرب الخمر ضمن فئات البرابرة. ولكن مع حلول منتصف القرن الخامس قبل الميلاد بدأت تظهر التحذيرات ضد الإدمان، خاصة في الاجتماعات العامة التي كانت تشهد احتفالات تهتكية. وقد أشاد كل من زينوفون (431-351 ق. م)، وأفلاطون (429-347 ق.م) بالاعتدال في شرب النبيذ، باعتباره أمرا مفيدا لصحة الإنسان، مُحذرين كليهما من السكر، الذي أصبح مشكلة في المجتمع اليوناني على ما يبدو. ويقول أفلاطون إنه لا ينبغي السماح لمن هم دون الثامنة عشرة من العمر بلمس النبيذ. وكان هذا رأي أرسطو (384-322 ق.م)، وزينون (حوالي 336-264 ق.م) اللذين حذرا من السكر أشد التحذير.

الخبر الذي ينقله الرحالة اين إسحاق عن ملك سرنديب يؤكد أن الخمر ظل ينتج ويصدر من الجزيرة العربية حتى القرن التاسع

وعلى خلاف اليونانيين جميعا كان المقدونيون يرون شرب الخمر معيارا من معايير الرجولة، حتى أن الإسكندر الأكبر (356-323 ق.م.)، كان يحض على شرب الخمر تأثرا بوالدته التي كانت تنتمي للطائفة الديونيسية، المرتبطة بالخمر وطقوسه.

الحضارة الهندية

ويختلف الأمر في الحضارة الهندية التي انتشر فيها تحريم الخمر منذ عصور الحكماء الأوائل. وحين زار التاجر العربي البغدادي أبو عبدالله محمد ابن اسحاق جزيرة سرنديب (سيرلانكا الحالية) في عام 205 للهجرة/ 820 للميلاد، فوجئ بأن ملك هذه الجزيرة يفرط في شرب الخمر الذي كان يستورده من بلاد العرب. على عكس جميع ملوك الهند (الوثنيين) الآخرين الذين رآهم وتاجر معهم، حيث كانوا يحرمون شربه والمتاجرة به، ويقول إن بعضهم كان يتشدد في عقوبة شارب الخمر بالتعذيب حتى الموت. ويعلق قائلا إن الهنود إن رأوا مسلما يشرب الشراب فهو عندهم خسيس لا يعبأون به ويزدرونه، ويقولون: هذا رجل ليس له قدر في بلاده. ويستغرب ابن إسحاق هذا التشدد غير الصادر عن شريعة دينية كما يقول. ويبدو أن أحدا لم يشرح له أن جذور تحريم الخمر في الهند قديمة تعود إلى ما قبل ظهور ماهافيرا (Mahavira) (مولود في القرن السادس قبل الميلاد) مؤسس الياينية (Jainism) التي تحرم الخمر تحريما مطلقا، ونلمس أدلتها في ملحمة رامايانا (Ramayana) الهندية الىشهيرة، والتي تجعل شرب الخمر وتناول اللحم من خصائص الأشرار، فيما تجعل الأخيار لا يتناولون إلاَّ الطعام النباتي.  

اقرأ أيضا: ترجمة المعلّقات إلى لغة دانتي بدعم سعودي

عرب ما قبل الإسلام

الخبر الذي ينقله الرحالة اين إسحاق عن ملك سرنديب يؤكد أن الخمر ظل ينتج ويصدر من الجزيرة العربية حتى القرن التاسع الميلادي، على الرغم من النصوص التي الدينية التي دعت لاجتنابه. وقد عرف العرب قبل الإسلام الخمر بجميع أنواعه، حيث أحصى البروفسور محمد مرقطن، الأكاديمي في جامهة هايدلبرغ الألمانية، والمتخصص بالنقوش والكتابات العربية الجنوبية، أكثر من ثمانية أصناف من الخمور وردت في الكتابات اليمنية القديمة، أولها المزر وهو نوع من الشراب المصنوع من الحبوب مثل الذرة والحنطة والشعير، وغالبا ما يُخلط بالعسل أو التمر. وثانيها الفصيم، وهو نوع من نبيذ الزبيب. وثالثها الحلب، وتمت قراءته بمعنى "شراب التمر". ورابعها الغرببم أو الغِربيب، وهو نوع من النبيذ الأسود، يُصنع من العنب الأسود، وهذه التسمية مشتقة من لونه الغربيب أي الأسود. وخامسها البِتع، وهو شراب مصنوع من العسل. وسادسها الغُبَيراء، وهذا أيضا شراب مصنوع من الحنطة أو الشعير. سابعها الصعف، وهو خمر اليمن، ويصنع من العنب ويخلط أحيانا بالعسل، كما يوصف بأنه شراب مخمر بالعسل. وثامنها الميث، ولعله يعني نبيذ التمر، بحسب المعجم السبئي.

Alamy
أور نانشي ملك لجش السومري نيو سومريش 2500 2450 قبل الميلاد

أما عرب الشمال، وعلى رأسهم الأنباط، فكرسوا معبودهم الأكبر "ذو الشرى" للخمر، ولكن في الوقت ذاته كان لديهم معبود حرَّم شرب الخمر على نفسه وعلى أتباعه يدعى "شيع القوم". وقد عثر في مدينة تدمر في البادية السورية على نقس لضابط نبطي يدعى عبيد بن غانم، كرَّس مذبحين لمعبوده "شيع القوم الإله الطيب الذي لا يشرب الخمر".

توصل العالم المسلم جابر بن حيان الأزدي لاختراع جهاز التقطير الذي كان أحد استخداماته تقطير الكحول

ومع أن الشعر الجاهلي يمتلئ بذكر الخمر وأنواعها وأسمائها التي تتجاوز المئة اسم، إلاَّ أن كتب التراث تشير إلى وجود أشخاص من ذلك العصر كانوا يحرمون شرب الخمر، وعلى رأسهم عبد المطلب بن هاشم، جد النبي صلى الله عليه وسلم، وورقة بن نوفل أشهر الحنفاء في مكة المكرمة، والوليد بن المغيرة، وهو من أشراف قريش في الجاهلية، ووالد الصحابي الفارس خالد بن الوليد.

جابر بن حيان وثورة التقطير

حرم الإسلام الخمر في السنة الثالثة للهجرة بعد معركة أحد، وعلى الرغم من ذلك تشير كتب التاريخ وأخبار التراجم إلى استمرار البعض بشربه، وتحفل كتب الإخباريين بقصص عن شاربي الخمر في مجتمع بغداد خلال العصر العباسي على وجه الخصوص، وظهرت في ذلك العصر كتب ومؤلفات حول الخمور وأنواعها وخصائصها، واشتهر عدد كبير من الشعراء بخمرياتهم. 

Alamy
قطف العنب المستخدم لصناعة النبيذ

وفي هذا العصر حصلت النقلة الأهم على صعيد صناعة الكحول، إذ توصل العالم المسلم جابر بن حيان الأزدي لاختراع جهاز التقطير الذي كان أحد استخداماته تقطير الكحول. وسرعان من انتقل هذا الجهاز إلى حميع أصقاع العالم فظهرت أصناف جديدة من الخمور المقطرة من الجزيرة البريطانية غربا إلى الصين واليابان شرقا.

font change

مقالات ذات صلة