تنازع أذري كردي في إيران... صراع الجغرافيا والنفوذ

على خلفية نتائج الانتخابات الأخيرة

أ ف ب
أ ف ب
عضو في "البيشمركة" الكردية الإيرانية يلوح بالعلم الكردي أثناء مشاركته في تجمع لحث الناس على التصويت في "استفتاء الاستقلال" في إقليم كردستان العراق، 21 سبتمبر 2017

تنازع أذري كردي في إيران... صراع الجغرافيا والنفوذ

لأول مرة في تاريخ إيران الحديث، حصل المرشحون الأكراد في كل المحافظات المختلطة شمال غربي البلاد، على مجموع أصوات أعلى بكثير من نظرائهم الأذريين، في الانتخابات البرلمانية التي جرت مؤخرا، ما جدد التوتر بين الجماعتين القوميتين المتنافستين في تلك المناطق، ودفع بالمراقبين للتساؤل عن الأدوار التي تلعبها السلطة المركزية في إيران في ذلك الصراع البارد، لناحية إدارته واستخدامه لصالح توجيه الأنظار عن مطالب الطرفين من السلطة إياها، ومدى قدرتها المستقبلية على حفظ هذا التوتر في مستويات مضبوطة، ومنع تحوله إلى صراع مفتوح، كما حدث في مرات كثيرة.

نتائج الانتخابات في كل المحافظات الغربية، أذربيجان الغربية والشرقية وكردستان وكرمانشاه، أظهرت، من جهة زيادة ديموغرافية ملحوظة للأكراد في تلك المحافظات، مقارنة بالأذر، ومن جهة أخرى نشاطا وحيوية سياسية استثنائية للكُرد، على الرغم من كل الضغوط المُمارسة ضدهم من قبل الجيش والأجهزة الأمنية الإيرانية. فلأول مرة حصل المرشحون الأكراد على 7 مقاعد من أصل 12 في محافظة أذربيجان الغربية، وبفارق أصوات واضح عن الفائزين الأذر. إذ حصد المُرشح الكردي حاكم ماميكان على المركز الأول بـ190 ألف صوت، وجاء المرشح الكردي شاهين جهانكير في المركز الثاني جامعا قرابة 120 ألف صوت، فيما لم يحصل المرشح الأذري سلمان ذاكر إلا على قرابة 70 ألف صوت، وجاء في المركز الثالث.

أ ف ب
إيرانيون يملؤون أوراق اقتراعهم قبل الإدلاء بأصواتهم خلال الانتخابات البرلمانية بطهران في الأول من مارس

الأمر تكرر في دوائر ماكو وشينو ونغدة، حيث حصل الفائزون الأكراد على أصوات أعلى من نظرائهم الأذر، ما دفع بمحافظي المناطق الغربية إلى تأخير الإعلان عن نتائج الانتخابات عن باقي مناطق إيران، واتخاذ إجراءات استثنائية، بغية امتصاص صدمة "المجتمع الأذري"، المُسيطر عمليا على الحياة الإدارية والاقتصادية ومؤسسات الأمن في تلك المناطق. فالانتخابات الأخيرة جرت وكأنها "حرب قبائل"، كما عبر المراقبون للمشهد الإيراني، في إشارة إلى غياب المضامين السياسية والأيديولوجية لهذه الانتخابات، لصالح العصبيات القومية والمناطقية، وانقسام القوى السياسية الإيرانية على ذلك الأساس.

صراع على الجغرافيا

نتائج الانتخابات الأخيرة تأتي في وقت وصل الصراع فيه بشأن مستقبل المحافظات المشتركة بين أبناء هاتين القوميتين إلى أوجه. فبعد إعلان وزير الداخلية الإيراني عبد الرضا فضلي نية الحكومة إنشاء عشر محافظات جديدة (تضم إيران الآن 31 محافظة) كجزء من سعي الحكومة لزيادة اللامركزية في البلاد، فإن ارتفعت أصوات سياسية واجتماعية كردية تطالب بإحداث محافظات جديدة ذات غالبية كردية مطلقة، مثل محافظات كرمانشاه وإيلام وكردستان الحالية، عبر اقتطاع المقاطعات والنواحي الجنوبية/الكردية من المحافظات المختلطة مع الأذر شمال غربي البلاد.

العضو الكردي في البرلمان الإيراني عثمان أحمدي اقترح على الحكومة تشكيل محافظة جديدة باسم "شمال كردستان"، تكون مدينة مهاباد مركزا لها، وتستقطع أراضيها من كل المحافظات المختلطة. المشرعون الأذر في البرلمان رفضوا خلال جلسة 5 يناير/كانون الثاني الماضي المقترح الكردي ووصفوه بأنه خطوة لزيادة "النزعات الانفصالية" في البلاد، مذكرين السلطات الحاكمة بضرورة مراعاة ما سموه "الأمن الوطني للبلاد" في أي قرار إداري.

منذ عام 1979، تعتمد السلطات الإيرانية على الأذر كعنصر رئيس في إدارة البلاد، بالنظر إلى انتمائهم المذهبي المشترك مع الفرس

الناشط والباحث الكردي الإيراني ريناس جوهري شرح في حديث مع "المجلة" ما وصفها بـ"المعاناة اليومية" التي يعايشها المواطنون الأكراد في تلك المناطق جراء تعدد مستويات السلطات الحاكمة فيها، فارسية/شيعية مركزية وأذرية محلية. وقال: "لأسباب تاريخية مركبة، تتعلق بالتقارب المذهبي بينهم وبين الفرس وتفوقهم في قطاعات التعليم والتمدن والاقتصاد، فإن الأذريين يسيطرون تقليديا على كل مناحي الحياة العامة في المحافظات والمقاطعات المشتركة. لم يتبدل ذلك على الرغم من التحولات التي شهدتها الدولة الإيرانية طوال القرن الماضي". وأضاف: "حتى إن بعض التعديلات الإدارية والحريات النسبية التي استفاد منها المجتمع الكردي خلال ولايتي الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي (1997-2005)، تم امتصاصها من قِبل القادة المحليين الأذر. فالقطاعات الاقتصادية مُسيطر عليها من قِبلهم، كما يستفيدون من علاقات استثنائية مميزة مع تركيا، الجارة الحدودية في كل تلك المناطق، وصاروا منذ سنوات يعتمدون ثنائية لغوية في المناطق المشتركة، فارسية/أذرية فحسب، في الإدارات العامة ومؤسسات التعليم، وبالمثل في المؤسسات الدينية والخيرية والأمنية والإعلامية، وذلك في تهميش واضح ودائم لأبناء القومية الكردية وثقافتهم ومصالح مجتمعاتهم، المصنفين بالنسبة إليهم كمجموعة فلاحية كبرى، والمُتهمين على الدوام بالسعي لتقسيم الدولة الإيرانية، ما يخلق نعرات ورود فعل غاضبة من المجتمع الكردي ويبعده أحيانا كثيرة عن مطالبه الرئيسة من الدولة المركزية".

حسابات السلطة

تمارس السلطات الإيرانية الحاكمة سياسة استيعابية تجاه مختلف القوميات المنتشرة على كامل الجغرافيا الإيرانية- التركمان والبلوش في الشرق، والعرب والأكراد والأذر في الغرب- مستخدمة تناقضات المصالح والصراع على النفوذ والموارد في هذه المناطق بين تلك الجماعات، لتكون هي في المحصلة الجهة الوحيدة القادرة على ضبط تلك المزاحمات ومنع انفجارها. فالأذر يشكلون قرابة ربع سكان إيران، إذ تقدرهم الإحصاءات غير الرسمية بنحو 20 مليون نسمة، ويشكلون الغالبية المطلقة في المناطق الشمالية، بما في ذلك المحيط الجغرافي للعاصمة طهران نفسها وسواحل بحر قزوين والحدود مع تركيا وأرمينيا وأذربيجان، وغالبيتهم المطلقة تدين بالإسلام الشيعي الاثنى عشري. إلى ذلك يقل الأكراد ديموغرافيا عن الأذر، وتتراوح نسبتهم بين 8 و13 في المئة من السكان، بتعداد يقارب 8 ملايين نسمة. لكنهم في المقابل ينتشرون على مساحات جغرافية أوسع بكثير، في ثلاث محافظات غربية رئيسة، هي إيلام وكرمانشاه وكردستان، وبنسب عالية في محافظات أذربيجان الغربية وأذربيجان الشرقية وخراسان. 
منذ عام 1979، تعتمد السلطات الإيرانية على الأذر كعنصر رئيس في إدارة البلاد، بالنظر إلى انتمائهم المذهبي المشترك مع الفرس، وأهمية المناطق الحضرية الرئيسة التي يسكنون فيها، والدعم الواضح الذي أبدوه لـ"الثورة" في ذلك العام. فالقواعد الاجتماعية والنخب السياسية الأذرية كانت مناهضة لسياسات نظام الشاه القومية/الفارسية، خصوصا في مجالات الإعلام والتعليم والجيش، ورأت في السلطة الجديدة ذات النزعة الطائفية أداة لإحراز نفوذ داخل الدولة.
وعلى العكس من ذلك تماما واجه الحكم المنبثق من "ثورة 1979" الأكراد بسلبية استثنائية، إذ رفض المطالب التي تقدم بها "الحزب الديمقراطي الكردستاني/إيران" والمتمثلة في التطلع إلى نوع من الحُكم الذاتي والاعتراف بالهوية القومية الكردية، ثم خاض حربا ماحقة على المناطق الكردية منذ عام 1980 اقتلع خلالها التنظيمات السياسية للأحزاب الكردية ولاحق قياداتها في الخارج، وأبقى المناطق الكردية أقل تنمية من سواها على مستوى البلاد. فمحافظة كردستان هي في آخر سلم مؤشر التنمية الوطنية، فيما تشهد المناطق الكردية أوسع حملات القمع الأمني مقارنة بباقي المناطق، والسجناء السياسيون الأكراد هُم الأعلى نسبة مقارنة بكل القوميات الأخرى.

النفوذ التركي بدأ منذ نهاية التسعينات، مع انتشار المحطات التلفزيونية الفضائية، وتوسع قدرات البث الإذاعي من داخل تركيا نحو إيران

تبدلت الأمور نسبيا خلال السنوات الماضية، إذ يقول قيادي في "الحزب الديمقراطي الكردستاني/إيران"- امتنع عن ذكر اسمه- في حديث مع "المجلة": "ثمة جذر قومي فارسي واضح ضمن بنية السلطة الإيرانية، على الرغم من كل الادعاء بالاستناد إلى المذهب الشيعي فحسب. وهذه النواة بدأت تستشعر خطرا واضحا من أبناء القومية الأذرية خلال السنوات الماضية. فالأذر، خصوصا أجيالهم الجديدة من الذين ولدوا في زمن النظام الحالي، وبسبب أدواته القاسية على المجتمع، صاروا يصنفون أنفسهم كمواطنين قوميين/أذر أولا، وليس كشيعة".
ويضاف: "كانت الحرب الأخيرة بين دولة أذربيجان وأرمينيا مؤشرا واضحا على مدى تنامي الحس القومي لدى الأذر، فقد خرجوا في مظاهرات ضمن مناطقهم، تأييدا لدولة أذربيجان، هاتفين بشعارات قومية أذرية/تركية. كما رفعوا خلال مباراة لكرة القدم أقيمت وقتذاك شعارات طافحة بالقومية، قالوا فيها إن أعداءنا هُم الفرس والأرمن والأكراد. ولأجل هذه الضغوط امتنعت السلطة في إيران عن توفير دعم عسكري ولوجستي واضح لحليفتها التقليدية أرمينيا، لكنها في باطن حساباتها صارت متأكدة مما قد يشكله هذا النزوع القومي الأذري من خطر مستقبلي عليها". 
ويزيد القيادي الكردي: "لا يعني هذا الأمر أن السلطات الإيرانية ستوفر دعما أو رعاية للمشاعر أو القوى السياسية الكردية القريبة منها عرقيا، وهي لن تفعل ذلك ما دامت هناك أحزاب كردية منظمة وذات مطالب وذاكرة وسياق سياسي، لكننا نتوقع تراجعا في الدعم الذي كانت توفره للأذر على حساب الكرد في المناطق المشتركة، وتراجعا عن مجموعة من سياسات غض النظر التي كانت ممنوحة للأذر بشكل استثنائي، والسماح لبعض القادة الكرد المحليين المرتبطين بالنظام والمستأمنين من قِبله بالصعود في السلم الإداري والحياة الاقتصادية في المناطق المشتركة، لإعادة ربط الكرد بالسلطة المركزية".

حضور تركي

لكن المراقبين يجدون أبعادا أخرى لما يجري منذ سنوات على هذا الصعيد، تتعلق بالتأثيرات المتبادلة لكل من إيران وتركيا على المجال الداخلي لكل منهما. فإيران متهمة من قِبل تركيا منذ سنوات، وإن بشكل غير رسمي، بتقديم دعم عسكري ولوجستي لـ"حزب العمال الكردستاني" المناهض لها. فيما تلاحظ إيران تناميا واضحا للنفوذ السياسي والثقافي والاقتصادي التركي على الجماعة القومية الأذرية في إيران. 
وحسب المراقبين، فإن هذا النفوذ التركي بدأ منذ نهاية التسعينات، مع انتشار المحطات التلفزيونية الفضائية، وتوسع قدرات البث الإذاعي من داخل تركيا نحو إيران. فملايين المواطنين الإيرانيين/الأذر صاروا يتابعون الإعلام التركي، بسبب اللغة المشتركة، وهروبا من الإعلام المحلي شبه الحديدي، والخالي من أي قيمة ترفيهية. فنشرات الأخبار والمسلسلات التركية والبرامج الترفيهية التي تقدمها عشرات القنوات التركية صارت مصدرا أول للمعلومات بالنسبة إلى أذر إيران والأكثر متابعة من قبلهم.

الدعم التركي لأذر إيران يقتصر على المستويات الإعلامية والثقافية واللغوية

أضف إلى ذلك نزوع مئات الآلاف من السياح الإيرانيين الأذر للسفر إلى تركيا خلال فصل الصيف، وشراء الطبقات الميسورة منهم عقارات منخفضة السعر هناك، للحصول على إقامة تركية دائمة. ومع كلا الأمرين فإن النجاح السياسي والاقتصادي لـ"حزب العدالة والتنمية" منذ عام 2002، وتصاعد النبرة القومية في ثناياه من خلال مناداة قادته بشعار "الوطن الأزرق"، في إشارة إلى البعد القومي/الآسيوي لسياساته، قد حاز على ولاء نسبي من قِبل الأذر الإيرانيين، خصوصا بعد حرب أذربيجان ضد أرمينيا.

أ ف ب
عضو في "الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني" يسير بمحاذاة جدار رسمت عليه وجوه لشخصيات كردية بينما يتفقد الأضرار التي لحقت بمقر الحزب إثر هجوم إيراني شرق أربيل، 26 نوفمبر 2022

لا يُشير المراقبون إلى أي مساعٍ تركية لتشكيل تنظيمات قومية أذرية داخل إيران، ويلفتون إلى أن الدعم التركي لأذر إيران يقتصر على المستويات الإعلامية والثقافية واللغوية، من خلال القنصليات التركية في إيران. لكنهم يؤكدون في المقابل أن مستوى تأثير أنقرة على أذر إيران وقدرتها على تحريكهم عند الضرورة، كما حدث أثناء الحرب الأذربيجانية الأرمينية الأخيرة أو خلال بعض موجات الاحتجاج التي شهدتها إيران، يؤشران إلى الحضور التركي الواسع ضمن الأوساط الأذرية الإيرانية، وهو أمر يقلق طهران للغاية، أكثر مما يقلق تركيا دعم إيران لـ"حزب العمال الكردستاني" على أراضيها. وهو ما يفسر تصرفات السلطات الإيرانية واتخاذها بعض السياسات الداخلية بعيدة المدى في ما يخص الأذر. 
لكن وعلى الرغم من افتقاد الأكراد لأي دعم إقليمي أو دولي قوي، وتقاربهم العرقي مع الفرس، فإن السلطات الحاكمة تخشى على الدوام من التنظيمات السياسية الكردية، ومن هيمنتها على المجتمع الكردي، ولأجل ذلك تمتنع هذه السلطات عن اتخاذ سياسات هادفة لزيادة نفوذ الأكراد في مواجهة القوميين الأذر.

font change

مقالات ذات صلة