تيسير خلف يحاكم "محاكم التفتيش" في "المسيح الأندلسي"

وصمة عار في التاريخ الأوروبي

Shutterstock
Shutterstock
أضواء الليل تنير مدينة إشبيلية الأندلسية الجميلة

تيسير خلف يحاكم "محاكم التفتيش" في "المسيح الأندلسي"

يستعيد الباحث والروائي السوري تيسير خلف عبر روايته الجديدة، "المسيح الأندلسي"، الصادرة أخيرا عن "منشورات المتوسط" (إيطاليا)، مرحلة تعدّ الأقسى في التاريخ الإسلامي في الأندلس، ألا وهي مرحلة "محاكم التفتيش" وما تعرض له المسلمون هناك من اضطهاد، واضطرارهم إلى إخفاء دينهم الحقيقي وإدعاء الدين المسيحي أمام الملأ.

وبهدف إظهار هذا الظلم التاريخي، الذي لم يحظَ بالاهتمام الكافي، يسعى تيسير خلف عبر سرد روائي مشوق إلى اقتفاء سيرة بطله عيسى بن محمد الأندلسي في أسفاره ومغامراته المتعددة، وقبل كل ذلك في ثورته الشخصية على واقعه، إذ كان يمكن لهذا البطل الروائي أن يمضي حياته كلها كرجل "إسباني كاثوليكي صالح"، يدعى خيسوس غونثالث لولا بضع كلمات أوصت بها أمه وهي تودّع الحياة بأن يخبره بها خاله حين يرى أنه بات أهلا لذلك، تلك الكلمات هي: "أنت عربي مسلم، واسمك عيسى بن محمد". هذه الجملة توقظ في روحه "جينات الرضا والانتقام معا"، لتبدأ رحلاته وأسفاره بحثا عن قاتل والدته، ولنكتشف عبر الصفحات أنه نموذج للظلم التاريخي الذي لحق بالموريسكيين في شبه الجزيرة الأيبيرية.

الطريق الوعر

كان متاحا لتيسير خلف، في روايته هذه، المهداة إلى الشاعر السوري نوري الجراح، أن ينساق وراء خياله الروائي، وأن يدوّن سيرة بطله بخفة وتساهل، دون اكتراث بالكثير من التفاصيل التاريخية التي تتطلب الحذر والحرص، بيد أنه آثر الطريق الوعر والصعب والشاق، ليقدم مزيجا حكائيا جذابا يشتمل على "الوثيقة التاريخية"، لكن ضمن قالب روائي يكاد يكون فريدا.

 آثر خلف الطريق الوعر، ليقدم مزيجا حكائيا جذابا يشتمل على "الوثيقة التاريخية" ضمن قالب روائي يكاد يكون فريدا

في هذا المعنى، يجتهد تيسير خلف في إضفاء الحيوية والألفة على صفحات التاريخ الجامدة، إذ يعود الى نهايات القرن السادس عشر ومطالع القرن السابع عشر لنسمع أصداء ذلك التاريخ الأندلسي وتحولاته وانعطافاته بعد أن يمر عبر مرشح وذائقة الكاتب الذي بات متخصصا في هذا النوع الروائي الذي يمزج التاريخ بالمتخيل، ويطوع الماضي البعيد والقريب لطبائع السرد الأدبي، على غرار ما عهدناه في أعمال سابقة له مثل "موفيولا"، و"مذبحة الفلاسفة"، و"عصافير داروين"، و"ملك اللصوص: لفائف أيونوس السوري"، وفي هذه الأخيرة يعود إلى تواريخ ما قبل الميلاد.

تعدد المراجع والمصادر

لتحقيق هذا المزج بين الوثيقة والمعلومة التاريخية من جهة وبين الدراما القصصية المسلية من جهة أخرى، يضطر الكاتب إلى الاعتماد على مصادر ومراجع تاريخية متعددة، فضلا عن عدد كبير من المخطوطات المنسوخة بخطوط عربية مختلفة: أندلسية، ومغربية، ومشرقية، وأيضا بأعجمية، ما بعد سقوط غرناطة التي يسمونها "الخميادو"، وهي لغة قَشتْالية بحروف عربية أندلسية، كما يقول الكاتب الذي يضيف أنه استفاد أيضا من رسائل أندلسيي القرن السابع عشر، المكتوبة بالقشتالية، التي نقلَت في غالبيتها إلى العربية المعاصرة بسويّات مختلفة.

على هذا النحو الدؤوب، يمضي تيسير خلف نحو بناء تاريخ مواز يمزج المتخيل بالوقائع التاريخية "المثبتة"، ويشيد معماره الروائي بتأنّ، مبديا الحرص حيال أسماء الشخوص والأمكنة والبلدان والجغرافيات الكثيرة التي تأتي الرواية على ذكرها، وهنا يوضح الكاتب، مثلا، في مقدمته: "خلال تتبعّي لانتقالات محمد بن أبي العاص، وهو إحدى الشخصيات المحورية في هذه الرواية، بين أكثر من مكان، لاحظت وجود اختلافات، طفيفة أو كبيرة في اسمه بين مصدر وآخر ، في هذا الخضم من الأسماء والوقائع المكتوبة بأكثر من لغة، وخط، وجدتنُي مضطرا لاعتماد الكثير من المصطلحات العائدة للقرن السابع عشر، وكذلك تهجئة أسماء الأمكنة والأعلام كما وردت في المخطوطات الأصلية"، ليلحق بالرواية ملحقا خاصا بتلك الأسماء وما يقابلها الآن بالعربية، فيستخدم مثلا إشبانية، بدلا من إسبانيا، كما تكتب اليوم، وإسْطَنْبُل، بدلا من إسطنبول، وبريش بدلا من باريس، ومذريل بدلا من مدريد...الخ.

تبعا لذلك، يجد القارئ نفسه إزاء كتابة رصينة نتبين بين سطورها أجواء ومناخات المدن والأمكنة الكثيرة برمزيتها وعبق التاريخ فيها، والطرز المعمارية والابراج والدور السكنية التي كانت قائمة، آنذاك، وتعكس الرواية في الكثير من الصفحات روح الثقافة السائدة، والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية وحتى ثقافة المطبخ وأنواع الأطعمة والتوابل، بل أن الكاتب يشرح شكل الأزياء وأنواع الانسجة وذائقة الموضة السائدة في تلك الفترات... ولا شك أن التعبير عن ملامح الحياة بكل صخبها وحيويتها وجمالياتها في تلك الفترات، يتطلب الغوص في المصادر التاريخية، والنبش في المخطوطات، وعقد المقارنات وصولا إلى الصياغة الأكثر اتزانا وصدقية.

قاتل بثياب راهب

وفي خضم اهتمامه بهذه المواضيع، لا يتوه الكاتب عن الهدف الأساس لهذه الرواية، إذ يلقي الضوء على الظلم الذي لحق بالموريسكيين، وما عانوه في ظل محاكم التفتيش من خلال صوت الراوي بضمير المتكلم، وهو نفسه البطل عيسى بن محمد الذي يروي للقارئ عن مغامراته وأسفاره وقصة عشقه لفيروزة في مدينة إسطنبول حيث يتحول السرد هنا إلى نثر غزلي شفاف.

Shutterstock
موكب الأسبوع المقدس في غرناطة

لكن، وقبل كل ذلك، يركز البطل على هدفه الأساس وهو  العثور على عدوّه اللدود خيرونيمو راميريز، وهو أحد القضاة الذين حكموا على والدته ماريّا بالسجن حتى الموت تحت التعذيب خلال محاكم التفتيش في مدينة طليطلة، بحسب ما تكشف وقائع الرواية التي تقود خطى ابنها الى قبو التعذيب، حيث عرف كيف كان الجلّادون يربطون ذراعَي المتّهم من الخلف، ويرفعونه بالسلاسل إلى الأعلى، ويبقونه معلّقا حتّى يعترف، أو يموت. يقول الابن الباحث عن قاتل والدته: "توقّفتُ أمام العجلة الدوّارة مليَّا وأنا أتخيّل جسد أمّي موثقا بها، وظهرها محنيا كقوس نشَّاب، والجلاّد يضغط بقوّة. أستطيع أن أسمع بوضوح صوت تكسّر عظامها، وتمزُّق لحم صدرها، وأنينها الضعيف المكتوم بعد أن خارت قواها..."، وفق ما يرد في فصل بعنوان "قاتل بثياب راهب".

  يجد القارئ نفسه إزاء كتابة رصينة نتبين بين سطورها أجواء ومناخات المدن والأمكنة الكثيرة برمزيتها وعبق التاريخ فيها

إلى جانب هذا المنحى التراجيدي، ينطوي السرد في كثير من الصفحات على التشويق، بل يأخذ أحيانا طابعا بوليسيا ولا سيما عندما ينجح بطل الرواية، بكثير من المكر والخداع وعبر خطة مرسومة بذكاء، في الوصول إلى عدوه اللدود راميريز في إسطنبول ويسلمه إلى السلطات العثمانية التي تقضي باعدامه لدوره في حملات التهجير والتعذيب التي شنّت ضد الموريسكيين، ففضلا عن كونه المتسبب في قتل والدة البطل، فقد وشى كذلك بوالده، الذي نجا من الموت، بعدما وافق على الهجرة من الأندلس إلى شمال أفريقيا، كما حصل لمئات الآلاف من الموريسكيين، فضلا عن دوره في قتل والد زوجته فيروزة، عبر سيناريو معقد يصعب توضيحه في هذه العجالة. 

لقاء الأب

ورغم أن عثور بطل الرواية على غريمه، وتسليمه للقضاء حيث نال جزاءه، يعد خاتمة منطقية وفق السياق الذي تسير فيه أحداث الرواية، غير أن تيسير خلف آثر أن يؤجل الخاتمة إلى ما بعد نحو عشرين عاما حين يلتقي البطل والده الطبيب في دكان للمداواة والعطارة بحي الغورية في القاهرة. ها هما يتجولان معا في شوارع القاهرة وعلى ضفاف النيل ويتبادلات الحديث بلا توقف، وكأن البطل يريد أن يعوض سنوات الغياب الطويلة عن والده الطاعن في السن، لكن الحكمة لا تزال متقدة في روحه، فيقول لولده: هـي الأقدار  يا عيسى؛ تقـود خطانـا حيـث تشـاء. نسـير حيـث تريـد لنارأن نسير، ونقف حيث تريد لنا أن نتوقّف. لا فرق إن كنا عميانا أم مبصرين، حمقى أم حصيفين، شجعانا أم مرتعدين، فما سيحدث سوف يحدث..."، وهذه الجملة تتكرر في مطلع الرواية وخاتمتها كذلك.

الموريسكيون

لم يشأ تيسير خلف أن يحول روايته إلى مرثية للممالك العربية الاسلامية التي سقطت في الاندلس، كما قد نجد في الكثير من الكتابات العربية على غرار "ثلاثية غرناطة" لرضوى عاشور وبعض روايات الجزائري واسيني الاعرج مثل "البيت الأندلسي" وسواها من النصوص التي رأت في الاندلس فردوسا ضائعا مع ما يستتبع ذلك من حنين وربما "جلد للذات".

تشكل الرواية إضافة نوعية الى السرديّة العربية حيال الحقبة الإسلامية في الأندلس

يركز خلف على موضوع محدد وهو "محاكم التفتيش" لتشكل الرواية إضافة نوعية الى السرديّة العربية حيال الحقبة الإسلامية في الأندلس، محاولا توظيف آراء وتصورات بعض المؤرخين والفقهاء من ذلك الزمن، مثل ابن رشد والغزالي والشيخ محيي الدين ابن عربي الذي يحضر أكثر من غيره لاهتمام بطل الرواية به وبأفكاره، بل يقتبس أحيانا من ابن عربي مقولات يرددها البطل من قبيل: لقد صارَ قلبي قابِلا كُلَّ صورةٍ/ فمرعى لغزلانٍ وَديْرٌ لرُهبانِ// وبيتٌ لِأَوثانٍ وكعبةُ طائٍف/ وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قُرآنِ.

ويخدم إدراج هذه المقاطع لابن عربي، بشكل أو بآخر، مضامين الرواية، فابن عربي يقصد بكلامه تقبل الاختلاف والتعدد والنظر إلى الجميع بمنظار واحد بصرف النظر عن عرقهم ولغتهم ودينهم وآرائهم، لكن الموريسكيين تعرضوا، بسبب معتقدهم الديني، لاسوأ صنوف التضييق والتعذيب والقتل، مما اضطرهم إلى الهجرة بعدما خُيِّروا بين التنصير الإجباري أو الرحيل عن الأندلس، وذلك بعد صدور قرار التنصير عام 1496م، وعلى إثره بدأت هجرات الموريسكيين نحو الشاطئ الجنوبي للبحر المتوسط، التي استمرت نحو مئة وعشرين عاما، هاجر فيها أكثر من مليون نسمة قسريّا بسبب الاضطهاد الديني، وانتهت بالطرد الجماعي لهم.

Shutterstock
قلعة قصبة مالقة، هي حصن وقصر في ذات الوقت. تقع في مالقة، إسبانيا

ومن المعروف ان الوجود العربي والاسلامي الذي دام لنحو ثمانية قرون في الأندلس (711-1492)، لم ينته فجأة بل حصل ذلك تدريجيا، بدءا من سقوط طليطلة عام 1084 حتى سقوط آخر الممالك وهي غرناطة عام 1492، وكلما سقطت مدينة كان الإسبان يخيرون أهلها بين تسليمهم بحكم الإسبان لهم، أو الهجرة، وصولا إلى مرحلة محاكم التفتيش التي تعتبر، وفقا للمصادر، وصمة عار في التاريخ الأوروبي.

font change

مقالات ذات صلة