فرنسا تلهث وراء فرص المغرب الضائعة

فرنسا المتأزمة من عجز الموازنة تسعى إلى حصة من المشاريع المغربية

فرنسا تلهث وراء فرص المغرب الضائعة

لعبت التحولات الجيوسياسية في أوروبا والشرق الأوسط، والخروج المذل لفرنسا من دول الساحل الأفريقي، والتهافت الاستثماري الصيني والأوروبي على المغرب، دورا في إقناع باريس بأهمية دور الرباط في المنطقة المغاربية والمتوسطية والأفريقية والعربية.

وظهرت في الأسابيع الأخيرة بوادر انفراج وانقشاع في سماء كانت ملبدة بغيوم كثيفة حتى عهد قريب. يقول معظم المحللين، إن "العلاقات تتحسن ببطء، لكنها لم تسترجع دفئها السابق في عهد الرئيس الراحل جاك شيراك وبعده الرئيس نيكولا ساركوزي"، وإن "أزمة الثقة لم تختف تماما والبرودة لا تزال جاثمة".

لم تحمل زيارة رئيس الديبلوماسية ستيفان سيجورني للرباط في شباط/فبراير الماضي، وهو المتهم الأول بالوقوف ضد مصالح المغرب في البرلمان الأوروبي العام المنصرم، مؤشرات تغير كافية في المواقف الفرنسية، لكنها فتحت الباب أمام مسؤولين آخرين لتأكيد رغبة باريس في تجاوز الصعوبات السالفة، والتوجه نحو شراكة جديدة عنوانها الكبير التعاون الاقتصادي وتبادل المصالح والدفاع عنها في المحافل الدولية، بما فيها الإقرار رسميا بمغربية الصحراء، لأن الرباط تأخد على باريس شهيتها الاقتصادية نحو المغرب، وتحفظها السياسي تجنبا لإغضاب الجزائر التي تعارض وحدة المغرب.

أصبحت فرنسا دولة متواضعة على طاولة الأثرياء، وصغيرة الدور والتأثير بين مقاعد الكبار الجدد، لها خلافات مع جيرانها الألمان والإسبان والإيطاليين والبريطانيين والبلجيكيين حول أكثر من ملف وقضية. وهي غير قادرة على إسماع صوتها في صراعات الشرق الأوسط أو وقف مأساة سكان غزة، أو منع المجاعة في السودان

تحول موقف فرنسا لصالح المغرب

كشف السفير الفرنسي السابق في الجزائر، كزافييه دريانكور (2008 -2017)، أن بلاده تخطط للاعتراف الفعلي بمغربية الصحراء، كما فعلت دول أوروبية أخرى منها إسبانيا وألمانيا، وقال "إن الاعتراف سيعلنه الرئيس إيمانويل ماكرون نفسه خلال زيارة مرتقبة للمغرب". وتمهد زيارات متتالية لوزراء الداخلية والاستثمار والاقتصاد والمالية والصناعة للرباط في أبريل/نيسان الماضي، لزيارات أخرى مرتقبة لرئيس الدولة، دون تحديد موعدها، في انتظار موافقة الطرف المغربي، واعتبرها مراقبون مساعي فرنسية للتقرب من المملكة، ونوعا من التكفير عن الذنب والاعتراف ضمنيا بالخطأ.

وفي كل محطة أو لقاء، كان المسؤولون الفرنسيون يكررون جملة "بناء مستقبل مشترك وتجاوز الماضي"، وكأن فرنسا تدرك بعد تأخر وندم، أن مستقبلها لا بد أن يرتبط بجنوب البحر الأبيض المتوسط، لمواجهة تحديات واقع جديد غامض الأفق تعكسه الحرب في أوكرانيا، وتباين الرؤى بين الإخوة الأعداء داخل الاتحاد الأوروبي، الذي بات ضعيفا مذ غادرته المملكة المتحدة.

إ.ب.أ.
وزير الاقتصاد والمالية الفرنسي برونو لومير يلقي كلمته خلال منتدى الأعمال الفرنسي - المغربي في الرباط، 26 أبريل 2024.

أصبحت فرنسا دولة متواضعة على طاولة الأثرياء، وصغيرة الدور والتأثير بين مقاعد الكبار الجدد، لها خلافات مع جيرانها الألمان والإسبان والإيطاليين والبريطانيين والبلجيكيين حول أكثر من ملف وقضية. وهي غير قادرة على إسماع صوتها في صراعات الشرق الأوسط أو وقف مأساة سكان غزة، أو منع المجاعة في السودان، أو بالأحرى، إسكات البنادق في شرق أوروبا. تصادف هذه التحولات الجيوسياسية السلبية أزمة فرنسية مغاربية بعناوين شتى، ونهاية لدورها في أفريقيا جنوب الصحراء بعد قرنين من الاستغلال شبه الكامل لمواد أولية وطاقية تكاد تكون من دون تكلفة. وكانت هذه الموارد على مدى عقود طويلة، عنصر تنافس وامتياز في مواجهة خصومها الاقتصاديين في الشرق والغرب.

صعوبات اقتصادية

بلد فيكتور هوغو وإميل زولا، يعيش وضعا صناعيا واقتصاديا وماليا واجتماعيا تعددت أسبابه، لكن المحصلة هي  تسجيل عجز في موازنة 2024 وصل إلى 5,5 في المئة، ومديونية تفوق 116 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وصعوبة أو استحالة العودة إلى نسبة 3 في المئة للعجز، في وقت يتراوح النمو بين 0,5 إلى 0,8 في المئة في أحسن الأحوال. وضع سيجعل الحكومة الفرنسية في صدام قانوني في شأن التزاماتها أمام اللجنة الاقتصادية والمالية في بروكسيل.

لقد كانت القطيعة صعبة على باريس التي خسرت مواقعها الأولى اقتصاديا وحتى ثقافيا، بانفتاح الجامعات المغربية على اللغة الانكليزية والعالم الانغلوساكسوني

تستنجد الحكومة بالبرلمان لإقرار مشروع قانون تعديل للموازنة من أجل تقليص النفقات من 10 إلى 16 مليار يورو لخفض العجز المالي. لكن توقيت تعديل الموازنة قد يصادف الانتخابات الأوروبية، مما سيشكل سبب قلق إضافيا للحكومة. وتتخوف باريس من خفض تصنيفها الائتماني من مستقر إلى سالب بعد التحذيرات الصادرة من وكالات التصنيف الدولية، "فيتش" و"ستندارد أند بورز" و"موديز".

عندما غابت فرنسا

تسعى فرنسا حاليا بعد صدماتها المتكررة في شمال أفريقيا ودول الساحل، إلى استعادة مكانتها داخل النسيج الاقتصادي المغربي، الذي كلما توسع أكثر تقلص حضور باريس التجاري والاستثماري، على الرغم من حجم اللوبي المؤيد لباريس في الإدارة والمقاولات المحلية وحتى في محيط صناعة القرار. 

لقد كانت القطيعة صعبة على باريس التي خسرت مواقعها الأولى اقتصاديا وحتى ثقافيا، بانفتاح الجامعات المغربية على اللغة الانكليزية والعالم الانغلوساكسوني. وتوسعت مجالات التعاون الاستراتيجي من خلال التقارب (عسكريا) مع الولايات المتحدة بعد الانخراط في اتفاقات ابراهام منذ عام 2020، والانفتاح على الاستثمارات الصينية ضمن "مبادرة الحزام والطريق" التي كانت الرباط بين أوائل الداعمين لها. كما حافظت على علاقات توازن جيوسياسي مع موسكو، على الرغم من الاستقطاب الأوروبي في شأن الحرب في أوكرانيا والعقوبات الاقتصادية والتجارية والصناعية الصادرة عن حلف شمال الأطلسي.

وزاد المغرب من مبادلاته مع موسكو (مواد غذائية في مقابل الطاقة)، وفتح الأجواء أمام رحلات الطيران المدني نحو القارة الأميركية، وغض الطرف عن تجارة إعادة تسويق الغاز والنفط الروسي نحو الأسواق الأوروبية بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط إنطلاقا من الموانئ الإسبانية. ولعل الرسالة التي حاولت الرباط تمريرها إلى باريس "أن تنوع الشركاء الاقتصاديين جزء أساس من النظام العالمي الجديد، القائم على المناطقية الجغرافية، مع امتياز البحار والممرات المائية والمجالية لأجل التجارة العالمية".

أصبحت إسبانيا حاليا الشريك الاقتصادي الأول للمغرب بحجم تجارة تجاوز 21 مليار يورو عام 2023، بعدما أزاحت الطرف الفرنسي الذي حل ثانيا بمبادلات تجارية تزيد على 16 مليار يورو

باريس في حاجة إلى الرباط

خلال السنوات الخمس المنصرمة، زمن الأزمة السياسية والديبلوماسية بين البلدين، خسرت باريس موقعها ضمن دائرة المستفيدين من مشاريع المغرب التي فازت بها شركات إسبانية وصينية وألمانية وإيطالية وتركية، بل حتى أوسترالية وكندية. وفي مجال تكنولوجيا الاتصالات، اختارت الرباط الأقمار الاصطناعية الإسرائيلية لتعويض أقمار فرنسية يعود تاريخها إلى عام 2017 صنعتها "تايلز ألينيا سبايس" (Thales Alenia Space). وترغب فرنسا حاليا في تعويض ما ضاع منها بمشاريع مقبلة، خصوصا تلك المرتبطة بتنظيم كأس العالم 2030 المشتركة بين المغرب وإسبانيا والبرتغال، مثل بناء الملاعب والفنادق والاتصالات والموانئ والمطارات، ومد خطوط جديدة للقطارات الفائقة السرعة بين مدن الشمال والوسط والجنوب (القنيطرة، مراكش، أغادير).

وخلال المنتدى الاقتصادي الذي جمع رجال الأعمال وحضرته وزيرة الاقتصاد والمالية المغربية نادية فتاح العلوي، ونظيرها برونو لومير، استخدم المستثمرون الفرنسيون جملة "أن فرنسا في حاجة إلى المغرب لفتح باب أفريقيا". وتعتبر باريس المغرب أكبر مستثمر في غرب أفريقيا في قطاعات المصارف والتأمين والسياحة والنقل الجوي والعقار والاتصالات والأشغال والبنى التحتية والزراعة. وتبدو الشركات الفرنسية في حاجة إلى مصاحبة مثيلاتها المغربية في بعض المشاريع في "مبادرة أفريقيا الأطلسية" وفك العزلة عن الدول الحبيسة وربطها بشبكة من الطرق لتصدير سلعها عبر المحيط الأطلسي. وهي مشاريع ضخمة تدعمها الإمارات العربية المتحدة ومؤسسات مالية دولية، وتثير شهية الطرف الإسباني الموجود في المحيط الأطلسي عبر جزر الخالدات، وهذا امتياز تسجله مدريد على باريس.

أ.ب.
مهندسون وعمال يعملون داخل مصنع سافران لإصلاح محركات طائرة خارج الدار البيضاء، المغرب، الخميس 18 أبريل 2024

إسبانيا وألمانيا وبريطانيا

أصبحت إسبانيا حاليا الشريك الاقتصادي الأول للمغرب بحجم تجارة تجاوز 21 مليار يورو عام 2023، بعدما أزاحت الطرف الفرنسي الذي حل ثانيا بمبادلات تجارية تزيد على 16 مليار يورو. لكن الفرنسيين حافظوا على مكانتهم، كالعدد الأكبر للسياح والزوار للمغرب، وأكبر جالية أوروبية مقيمة  فيه. في المقابل، زادت تجارة المغرب مع ألمانيا إلى 7 مليارات يورو، وأصبحت المملكة المتحدة المستورد الأول للمواد الغذائية المغربية، وله معها أكبر مشروع للطاقات المتجددة، "أكس لينك"، الذي من شأنه نقل الكهرباء من جنوب المغرب إلى 7 ملايين أسرة في بريطانيا بتكلفة استثمارية تقارب 24 مليار دولار. وتعمل الرباط على مد أنبوب لنقل الهيدروجين الأخضر إلى الأسواق الأوروبية قبل عام 2030، وهو مشروع تدعمه برلين بقوة، ومنحت تمويلات لإنشاء أول محطة لإنتاج الكهرباء الخضراء المستخرجة من الطاقات الشمسية والرياح بتكلفة نحو 400 مليون دولار تدخل الخدمة عام 2026.  

ويقدر إجمالي الاستثمارات في مجال الهيدروجين الأخضر بنحو 60 مليار دولار حتى عام 2050، ضمن خطة عروض المغرب، التي يسعى البلد من خلالها الى جلب مستثمرين عالميين إلى قطاع الطاقات المتجددة بأنواعها بما فيها صناعة السيارات الكهربائية والبطاريات، بالاعتماد على مواد محلية مثل الكوبالت والليثيوم والفوسفات، بغرض التحول إلى أكبر منتج للهيدروجين بقوة 160 تيراوات ساعة، بحسب المعهد الألماني "فروندوفر" (Fraundhofer). وهناك اليوم نحو 400 مشروع متخصصة في إنتاج الطاقات الحرارية المعتمدة على مصادر الطاقات الشمسية والريحية للوصول الى 52 في المئة من الكهرباء الخالية من الكربون قبل نهاية العقد.

استراتيجيا المغرب هي تعزيز حضوره في منظومة سلاسل القيم (الإمدادات) العالمية، لذلك، فإن بعض العروض الفرنسية قد تكون أقل من طموح الاقتصاد المغربي

فيكتور لوكيورييه، خبير اقتصادي من معهد "بيبي فرانس"

وقالت مصادر فرنسية  لـ"المجلة"، "إننا جد مهتمين بمشاريع الطاقات المتجددة في المغرب ونرغب بالاستثمار فيها ومواكبتها والمساهمة في الانتقال إلى الاقتصاد الأخضر، لكننا نتجنب تكرار أخطاء الماضي في مجال الطاقة". وهي تجربة مستلهمة من مشروع المستشار الألماني أولاف شولتز المتمثلة في المرور من الاعتماد على الغاز الروسي إلى الهيدروجين الأخضر دون فترة انتقالية طويلة. 

الثقة والمستقبل المشترك

وقال وزير الاقتصاد والمالية الفرنسي، برونو لومير "إننا لا نرتبط في مجال الطاقة إلا مع الدول التي لنا معها علاقات صداقة متينة وثقة كاملة، إنه اختيار سياسي". وخلال محاضرة أمام طلبة جامعة محمد السادس تكنوبولس في الرباط، لم يخف إعجابه بهندسة بناء الجامعة ذات التخصصات التكنولوجية وقال "لقد درست كثيرا من علوم الأدب، لكني لم أحظ بنفس مستوى الدراسة التي أصبحت توفرها الجامعات المغربية الحديثة. إننا على ثقة كاملة في المهندسين والشعب المغربي ومؤسساته لبناء مستقبل اقتصادي وصناعي مشترك". لغة المجاملة لم تخف نية فرنسا في اصطياد مزيد من الكفاءات المحلية، خصوصا في مجالات التكنولوجيا والطاقات المتجددة والذكاء الاصطناعي والصناعات الدقيقة، وأيضا في الطب والعلوم التطبيقية والرياضيات وغيرها.

اعتبر الخبير الاقتصادي فيكتور لوكيورييه من معهد "بيبي فرانس"، "إن استراتيجيا المغرب هي تعزيز حضوره في منظومة سلاسل القيم (الإمدادات) العالمية، لذلك، فإن بعض العروض الفرنسية قد تكون أقل من طموح الاقتصاد المغربي".

font change

مقالات ذات صلة