هل تدعم إيران الصدر لبعثرة الاستقرار السياسي في العراق؟

أ ف ب
أ ف ب
مؤيدون للتيار الصدري في مدينة الناصرية يعلنون مقاطعتهم للانتخابات المحلية في 14 ديسمبر

هل تدعم إيران الصدر لبعثرة الاستقرار السياسي في العراق؟

كشف مصدر سياسي عراقي رفيع في حديث مع "المجلة" عن تبدلات جوهرية في استراتيجية إيران تجاه القوى السياسية العراقية "الشيعية"، ممثلة في دعم غير معلن تبذله وستستمر فيه لصالح التيار الصدري في الآونة المُقبلة بُغية قلب الطاولة على الاستقرار السياسي والهدوء الأمني في البلاد، و"تقليم أظافر" الكثير من الشخصيات والقوى السياسية العراقية "الشيعية"، التي خلقت لنفسها "استقلالا نسبيا" عن النفوذ الإيراني خلال الفترة الماضية. وترغب إيران راهنا في إعادة ربط الشخصيات هذه بالدور الإيراني، في العراق والمنطقة، عن طريق خلق ضغوط وتوترات على العملية السياسية، ما يدفعها الى اللوذ بإيران مجددا. وكل ذلك من خلال دعم ورعاية عودة التيار الصدري إلى العملية السياسية في العراق، وبناء على حسابات سياسية خاصة للغاية.

وكان زعيم "التيار الصدري" مُقتدى الصدر أعلن في أواسط يونيو/حزيران 2022 مقاطعته الشاملة مع تياره السياسي للعملية السياسية في العراق، مقررا عدم المشاركة في أية انتخابات عامة مُقبلة بـ"أي شكل كان". قرار الصدر جاء عقب أزمة سياسية حادة شهدتها البلاد، عقب الانتخابات البرلمانية التي جرت في أكتوبر/تشرين الأول 2021، حاز فيها التيار الصدري أكبر كتلة برلمانية (73 مقعدا من أصل 325)، وتحالف سياسيا مع كل من الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب تقدم (ذات الأكثرية السُنية)، في ما عُرف بـ"التحالف الثلاثي". لكن الكتل البرلمانية التي تآلفت ضمن "الإطار التنسيقي"، بقيادة كتلة "دولة القانون" ورئيس الوزراء السابق نوري المالكي، لم تفسح المجال أمام هذا التحالف لينتخب رئيسا للجمهورية ويشكل الحكومة الجديدة، من خلال كسر نصاب "الثلثين" في كل جلسة لانتخاب الرئيس الجديد، ما تسبب في أزمة سياسية وشعبية حادة، وصلت حد المواجهة المسلحة بين أنصار الصدر ومؤيدي "الإطار التنسيقي" في أواخر أغسطس/آب 2022، أوقعت أكثر من 30 قتيلا وما لا يقل عن 700 جريح، بينهم العشرات من أفراد الجيش والأجهزة الأمنية.

أ ف ب
مؤيدون لرجل الدين مقتدى الصدر في مدينة المجف يحملون شعارات مقاطعة الانتخابات المحلية التي جرت في ديسمبر

في حديثه إلى "المجلة"، قال المصدر إن ثلاث مقدمات سياسية حدثت في العراق خلال الشهرين الماضيين أثارت في مجموعها هواجس إيران بشأن "استقرار الوضع الداخلي في العراق"، وتاليا إمكانية خروجه عن سيطرة إيران بسبب استقراره، وصل في بعض المحطات إلى إمكانية استقلال القرارات السياسية الاستراتيجية للعراق عن النفوذ الإيراني، في أول مرة منذ عام 2003.

ترغب إيران راهنا في إعادة ربط هذه الشخصيات بالدور الإيراني، في العراق والمنطقة، عن طريق خلق ضغوط وتوترات على العملية السياسية

الضغوط الأميركية والدبلوماسية المحلية نجحتا مجتمعة مثلا في خلق توافق سياسي بشأن الملفات العالقة بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان، تحديدا في ملف رواتب موظفي الإقليم. كذلك تمكنت الحكومة العراقية، وبتوافق مع القوى السياسية الرئيسة في البلاد، من كبح جماح الفصائل والميليشيات المسلحة، ومنعها من ممارسة المزيد من الهجمات على القواعد العسكرية الأميركية في العراق، أو في دول المنطقة، تحديدا بعد الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء محمد شياع السوداني إلى الولايات المتحدة. وفي الإطار نفسه، لم تستجب الحكومة العراقية إلى الدعوات السياسية/الشعبوية المطالبة بإخراج القوات الأميركية وتفكيك قواعدها العسكرية في العراق مباشرة، بل ترك الأمر لمفاوضات عراقية/أميركية طويلة الأمد.
مع الأمرين، جاءت الزيارة الاستثنائية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى العراق أواخر الشهر المنصرم، والتي عقد خلالها عشرات الاتفاقات الاقتصادية الاستراتيجية، سواء مع الحكومة الاتحادية أو مع إقليم كردستان، ستربط الاقتصاد العراقي بالتقادم مع نظيره التركي، وستضاعف النفوذ التركي ضمن العراق، والذي سيكون بالضرورة على حساب الدور الإيراني. 
معطيات المصدر العراقي جاءت بعد وقت قصير من تقديم رئيسة بعثة الأمم المتحدة في العراق جينين بلاسخارت إحاطتها الأخيرة إلى مجلس الأمن الدولي. وحيث من المقرر أن تُنهي البعثة أعمالها تماما في قطاعات الانتخابات والشأن السياسي وحقوق الإنسان في العراق، ولن تُبقي إلا منسقا لشؤون الأمم المتحدة فيه، وذلك بطلب من الحكومة العراقية. المصدر أكد أن هذه الخطوة أيضا جاءت بضغط إيراني، بغية عزل الفضاء السياسي والأجواء العامة في العراق عن المؤسسات الدولية، تحديدا مجلس الأمن، حيث كانت رئيسة البعثة تُقدم إحاطة دورية للمجلس، وتضع الحكومة العراقية والقوى السياسية ضمن شروط المسؤولية الكلية أمام المجتمع الدولي، وكانت كل مرة تشير إلى الدور السلبي للميليشيات المقربة من إيران في كسر حالة الاستقرار السياسي في البلاد. 
كذلك أتت المعطيات الحالية بعد أسبوعين فحسب من قصف غير متوقع من قِبل "طائرة مسيرة" استهدفت "حقل كورمور" للغاز في إقليم كردستان، أودى بحياة أربعة عمال، وعطل جزءا واسعا من شبكة الطاقة في الإقليم. الهجوم المستغرب جاء في وقت كانت فيه العلاقات بين حكومة الإقليم والحكومة الاتحادية تسير نحو التفاهم في كل الملفات، ما وجه "أصابع الاتهام" إلى جهات تريد الإطاحة بهذه التوافقات.   

أ ف ب
رجل الدين العراقي مقتدى الصدر في صورة يلقي خطبة في مسجد الكوفة في 4 نوفمبر 2022

المصدر السياسي العراقي قال إن رجل الدين والقيادي في "حزب الله" اللبناني محمد كوثراني قد كثف خلال الأسبوعين الماضيين اتصالاته مع كثير من الفصائل المسلحة العراقية التابعة لإيران، بغية إيجاد مساحة مشتركة بينها وبين التيار الصدري، تحديدا مع فصيل "جيش المهدي" التابع للصدر. المصدر أضاف إن كوثراني المشرف تقليديا من قِبل إيران و"حزب الله" على إدارة الفصائل المسلحة العراقية، أكد على هذه الفصائل عدم الاحتكاك أو معارضة أي تحرك سياسي أو شعبي قد يقوم به الصدر وأنصاره في البلاد، حتى لو كانت تلك الإجراءات على العكس من استراتيجية الحكومة العراقية. 

رجل الدين والقيادي في "حزب الله" اللبناني محمد كوثراني كثف خلال الأسبوعين الماضيين اتصالاته مع كثير من الفصائل المسلحة العراقية التابعة لإيران، بغية إيجاد مساحة مشتركة بينها وبين التيار الصدري

كان زعيم التيار الصدري قد أعلن أواسط أبريل/نيسان المنصرم ما سماه "تغيير اسمه الجماهيري"، ليصبح "التيار الوطني الشيعي"، ما اعتبره المراقبون بمثابة إعلان مبدئي للعودة إلى العمل السياسي في البلاد، خصوصا أن الشخصيات المقربة من الصدر صارت تظهر على وسائل الإعلام المحلية، وتقول إن التنظيم الجديد سيكون بمثابة الاستمرار للصدر ضمن العملية السياسية، برعاية وتوجيه عام منه، لكن دون مشاركة تنظيمية وتفصيلية، وهو بذا يكون قد كسر "عزلته السياسية" التي طالت لنحو عامين. خطوة الصدر جاءت عقب زيارته للمرجع الشيعي الأعلى آية الله السيستاني قبل أيام من الإعلان، وبدئه إعلان مواقف سياسية وميدانية من الأحداث الداخلية والإقليمية. 
بعد الإعلان بأيام، أعلن الصدر إحياء "ذكرى استشهاد والده محمد صادق الصدر"، وهو ما لم يفعله خلال السنوات الماضية، التزاما بعزلته السياسية. ووجه في هذه المناسبة خطابا سياسيا لمؤيديه، شارحا لهم الهوية والمهام السياسية المُلقاة على عاتق التيار السياسي الجديد الذي أعلن عنه.  
حسب تحليله، فإن المصدر العراقي يعتقد أن القراءة الإيرانية صارت على يقين من عدم مشاركة "الحزب الديمقراطي الكردستاني" أو حزب "تقدم" (السُني) في أي تحالف سياسي مستقبلي مع الصدر، خصوصا في الانتخابات القادمة، نتيجة الصدمة التي مستهما جراء الانسحاب المفاجئ للصدر من العملية السياسية قبل عامين، ما دفع الحزبين الرئيسين إلى مفاوضة قوى "الإطار التنسيقي" من موقع الضعيف، والقبول بفرضه تأسيس تحالف "إطار إدارة الدولة" البرلمانية، الذي شكل الحكومة العراقية بقيادة محمد شياع السوداني فيما بعد. 
وحسب ذلك، فإن إيران تسعى جاهدة لتمكين الصدر من الحصول على "حلفاء سياسيين داخليين"، حسب رأي المصدر. حيث تعتقد إيران أن ضغوط الصدر وتحركاته في الشارع، ورغبة رئيس الوزراء الحالية محمد شياع السوداني في الحصول على ولاية ثانية بأي ثمن، خصوصا بعد خلافاته الواضحة مع أركان وقادة الإطار التنسيقي، قد تلتقي وتخلق تحالفا سياسيا بين الصدر والسوداني في الانتخابات البرلمانية التي من المقرر أن تجرى خلال العام القادم. 

 أ ب
النواب العراقيون في جلسة للبرلمان في بغداد في 3 سبتمبر 2018

التحالف المتصور سيكون موازيا من حيث الكتلة البرلمانية والوزن السياسي لما لقوى الإطار التنسيقي، وتاليا عدم قدرة أي من الطرفين على خلق كتلة برلمانية قادرة على انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتشكيل الحكومة الجديدة، وطبعا لن يقبل الصدر بمشاركة قوى الإطار التنسيقي في أية حكومة عراقية مستقبلية، لأنه أساسا شيّد كل خياره السياسي خلال المرحلة الماضية على أساس ذلك الرفض، في وقتٍ لن يستطيع تشكيل الحكومة وحده قط، وطبعا لن يكون قادرا على مغادرة العملية السياسية بالأسلوب السابق نفسه. 
وحسب تلك المعطيات، فإن العراق سيشهد حالة استعصاء سياسي واضحة، ما سيكسر الاستقرار السياسي والأمني وحتى الاقتصادي الحالي، ويدفع إيران مجددا لأن تلعب دورا محوريا في الملف العراقي، إنْ بين القوى السياسية العراقية نفسها، أو في إدخال الملف العراقي ضمن أجندة مفاوضة إيران للقوى الإقليمية والدولية.

font change

مقالات ذات صلة