حرب غزة واستدعاء الصراعات الدولية

... هل تتحول إلى "حرب استنزاف" طويلة؟

أ ف ب
أ ف ب
فلسطينيون يسيرون في شارع ضيق بجوار المباني المدمرة في خان يونس، جنوب قطاع غزة، في 11 يونيو

حرب غزة واستدعاء الصراعات الدولية

غالب الظن أن مقترح الرئيس الأميركي جو بايدن لوقف إطلاق النار في غزة مهدد بأن يلاقي المصير نفسه الذي لقيته المفاوضات بشأن إطلاق الأسرى ووقف إطلاق النار عشية شهر رمضان الماضي: التعثر والفشل. وهذا ما بدأت الإدارة الأميركية نفسها تتحسب له وتشير إليه رغم كل الضغوط التي تمارسها على طرفي النزاع، سواء بالمباشر على إسرائيل، أو بطريقة غير مباشرة على "حماس" من طريق الدول العربية التي يمكن أن تضغط عليها. وهذا ما يحاول وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن فعله خلال زيارته الثامنة إلى المنطقة منذ بدء الحرب لكن من دون نجاح يذكر حتى الآن.

في المحصلة فإنه في كل مرة يتبادر الأمل بإمكان وقف القتال من خلال المفاوضات، فإن فشلها يعمم التشاؤم وعلى نحو أشد من المرة السابقة، وهذه المرة هي أصعب المرات، باعتبار أن فشل المفاوضات وعدم تجاوب إسرائيل و"حماس" مع مقترح بايدن يحصلان في لحظة وصول الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة إلى أقصى تعقيداتها، سواء بالنظر إلى حسابات طرفيها المباشرين، أي "حماس" وإسرائيل، وتحديدا بنيامين نتنياهو ويحيى السنوار، أو بالنظر إلى تعقيدات المشهد الإقليمي والدولي وبالأخص عشية الانتخابات الأميركية المقررة في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. وهو ما يطرح سؤالا رئيسا عما إذا كانت حرب الاستنزاف بين "حماس" وإسرائيل والتي بدأ الحديث عنها منذ أسابيع بل أشهر هي في الواقع انعكاس لصراع إقليمي ودولي، أي ما إذا كانت أطراف إقليمية وأكثر منها دولية تدفع باتجاه تعميقها لحسابات خاصة بها يأتي في مقدمتها إغراق أميركا في الصراع وإلهاؤها ودفعها إلى الفشل في إيجاد حل له.

في الواقع إن التصعيد الميداني والسياسي الذي تشهده الحرب الروسية الأوكرانية يحث أكثر فأكثر على الربط بين التطورات في أوروبا الشرقية والصراع على الأراضي الفلسطينية، باعتبار أن وجود أميركا والغرب في كلا الحربين هو استدعاء أكيد لخصومهما للانخراط فيهما. وإذا كانت روسيا طرفا من أطراف الحرب في أوروبا فماذا عن دورها في حرب غزة؟ أو في الجبهة بين "حزب الله" وإسرائيل؟ فإذا كانت بعض القراءات المتأخرة لعملية "طوفان الأقصى" قد تساءلت عن إمكان حضور موسكو فيها من قريب أو بعيد من دون التوصل إلى إجابات واضحة بالطبع، فإن التساؤلات تتركز الآن حول المصلحة الروسية في إطالة أمد الحرب وإشغال الولايات المتحدة فيها، في سياق حسابات روسيا في حربها على أوكرانيا، أو في سياق محاولاتها بين دول أخرى أهمها الصين لبناء نظام دولي جديد. وبالتالي فإن فشل أميركا في الشرق الأوسط، وهو ما اعتبره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سببا لاندلاع حرب غزة، يدفع إلى تصدع النظام الدولي الليبرالي الذي تقوده أميركا.

قد نكون أمام شكل جديد من الحرب الباردة في الشرق الأوسط ساهمت حرب غزة في بلورته ودفعه إلى الأمام في ظل عدم اليقين بشأن كيفية الخروج منها وأيضا بشأن "اليوم التالي

لكن السؤال عن روسيا يستدعي حكما السؤال عن الصين. فبكين بخلاف موسكو لا تعطي أي إشارات إلى انخراط مباشر في الصراع، على غرار ما فعله الرئيس الروسي عندما تحدث الأسبوع الماضي عن أن موسكو مستعدة لدعم الجماعات المعادية لأميركا حول العالم في رد على تسليح الغرب للأوكران والسماح لهم بضرب العمق الروسي. وهو ما فسّر على أنه استعداد محتمل لتنفيذ اتفاقات التسليح مع إيران أو تسليح الجماعات الموالية لها في المنطقة بالمباشر أو عبر طهران. وفي السياق فإن أوساطا قريبة من "حزب الله" تتحدث عن أن علاقته بموسكو قوية الآن بل وأقوى من أي وقت مضى، فهل يعني ذلك أن روسيا تزود الحزب بأسلحة أو تقنيات؟ في مطلق الأحوال فإن ثمة ما يستدعي الانتباه بشأن حضور روسيا في الصراع ولاسيما في ظل تجذّر صراعها مع الولايات المتحدة والغرب حول أوكرانيا وحول مسألة أمن القارة الأوروبية عموما.
أما الصين التي وسعت حضورها في المنطقة خلال السنوات الأخيرة، سواء مع إسرائيل أو دول الخليج العربية، أو إيران، فهي تطل على الصراع من نافذة الدبلوماسية سواء عبر محاولة عقد مصالحة بين طرفي الانقسام الفلسطيني، "فتح" و"حماس"، أو عبر الدعوة لمؤتمر دولي لحل الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل، لكن في المجمل فإن الصين غير منزعجة من العودة القوية لأميركا إلى الشرق الأوسط وتأثير ذلك على تقليص تركيزها على منطقة المحيط الهادئ.

أ ف ب
وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن (في الوسط) خلال مؤتمر "الدعوة للعمل: الاستجابة الإنسانية العاجلة لغزة"، في الأردن في 11 يونيو، ويبدو إلى يمينه الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط

هذا في الصورة الكبرى للحرب في قطاع غزة، لكنها صورة غير واضحة المعالم تماما في ظل تعقيدات وتداخلات التحالفات الدولية والإقليمية بخلاف ما كانت عليه الحال زمن الحرب الباردة عندما كان الاصطفاف الدولي الإقليمي أوضح، بينما اليوم تحاول كل الدول على مستوى المنطقة والعالم توسيع مروحة علاقاتها وتحالفاتها ما أمكنها ذلك، وهذه مدعاة إضافية للتنافس الدولي على المنطقة، خصوصا بين القطبين الأكبر اليوم: أميركا والصين، واللذين تجمعهما علاقات مع سائر دول المنطقة من إسرائيل إلى دول الخليج، وإيران. وبالتالي قد نكون أمام شكل جديد من الحرب الباردة في الشرق الأوسط ساهمت حرب غزة في بلورته ودفعه إلى الأمام في ظل عدم اليقين بشأن كيفية الخروج منها وأيضا بشأن "اليوم التالي".
لكن هذا المشهد الدولي المحيط بالصراع لا يفسّر وحده تطوراته وآفاقه، إذ إن حسابات اللاعبين المحليين مؤثرة جدا، لا بل وحاسمة في مستقبله، وبالأخص "حماس" وإسرائيل، وتحديدا السنوار ونتنياهو. كذلك لا يمكن إغفال حضور إيران في الصراع كداعمة رئيسة لـ"حماس" بل وموجهة لخياراتها وهو ما يمكن استشفافه من الدعوة غير المباشرة التي وجهها "المرشد" الإيراني علي خامنئي أخيرا للحركة الفلسطينية لعدم القبول بمقترح بايدن، والذي سمي "خريطة الطريق" للخروج من الحرب. ولا شك في أن كل هؤلاء اللاعبين يأخذون في الحسبان مصالح ومحاذير الدول الكبرى في الصراع وبالدرجة الأولى أميركا التي لا تزال اللاعب الدولي الأول في المنطقة كما أثبتت تطورات الحرب على قطاع غزة.

الكثير من أحداث المنطقة بما في ذلك الحرب على غزة أصبح يدور حول الاتفاق الأميركي السعودي من ضمن الهندسة الأميركية الجديدة للمنطقة

وبالتالي، فإن كل الحسابات المحلية والإقليمية والدولية تدور حول أميركا وأهدافها القريبة والبعيدة، سواء من قبل حلفائها أو خصومها. فـ"حماس" وإيران وكذلك "حزب الله" يلعبون على التناقضات الإسرائيلية- الأميركية وعلى الأولويات الأميركية في المنطقة التي تشكل لبّ تلك التناقضات. فإدارة الرئيس بايدن مستعجلة لإبرام اتفاق لوقف إطلاق النار على ثلاث مراحل لأسباب جيوسياسية متصلة بعودة الولايات المتحدة لتوزيع تركيزها في مناطق النزاع الدولية المهمة سواء في شرق أوروبا أو المحيط الهادئ وبحر الصين، ولأسباب انتخابية متصلة بمحاولة الإدارة الديمقراطية تجويف النقمة الشعبية ضدها بسبب دعمها إسرائيل في الحرب وسقوط عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين الفلسطينيين بسببها وبأسلحة أميركية في كثير من الأحيان. 

رويترز
تظاهرة احتجاجية لعائلات الرهائن الإسرائيليين للمطالبة بالإفراج الفوري عنهم، بالتزامن مع زيارة بلينكن إلى تل أبيب في 11 يونيو

وبين هذا وذاك فإن وقفا لإطلاق النار في غزة يدفع قدما باتجاه بناء "هيكل إقليمي" برعاية أميركية، قوامه اتفاق دفاعي بين واشنطن والرياض قد تنضم إليه تل أبيب ضمن مساعي واشنطن لتحقيق اندماج إضافي لإسرائيل في المنطقة من خلال اتفاق تطبيع بينها وبين المملكة العربية السعودية، لكن كل ذلك مرهون بتنفيذ تل أبيب خطوات ملموسة نحو إقامة حل الدولتين كما تطالب الرياض. وبالتالي فإنّ الكثير من أحداث المنطقة بما في ذلك الحرب على غزة أصبح يدور حول الاتفاق الأميركي السعودي من ضمن الهندسة الأميركية الجديدة للمنطقة، ولذلك لم يكن مستغربا أن يشيد "المرشد" الإيراني أخيرا بعملية "طوفان الأقصى" لأنها أفشلت مشروعا أميركيا لتعديل المعادلات في المنطقة. 
ولا ريب في أن السنوار يلتقط الإشارات الإيرانية خصوصا عندما تتقاطع مع حساباته الخاصة لناحية استعداده للاستمرار في القتال بالممكن المتبقي ما دام يحتفظ بورقة الأسرى، وها هي واشنطن تقدم له عرضا للتفاوض حول الأسرى الأميركيين لديه من دون إسرائيل. فلا خيار للسنوار سوى موافقة إسرائيل على وقف دائم لإطلاق النار بضمانة دولية أو الاستمرار في القتال، ولا يبدو حتى الآن أنه مستعد للقبول بخيار ثالث بين هذين الخيارين. وهنا يمكن السؤال عما إذا كان موقف السنوار هو موقف "حماس" كلها؟ خصوصا في ظل الضغط الذي يمارس على قياداتها في الدوحة، لكن في المجمل فإنه ينبغي اعتبار أن إيران لا تزال المظلة الأولى لـ"حماس" وهذا عامل حاسم في فهم موقفها الإجمالي.

الحسابات السياسية والشخصية لنتنياهو حاسمة في تحديد خياراته في الحرب ومن ضمنها حدود العلاقة مع واشنطن وشروطها

هذا من جانب إيران و"حماس"، أما إسرائيل وتحديدا نتنياهو فهو غير مستعد للتعهد جديا بالموافقة على حل الدولتين، لأن ذلك يهدد بسقوط حكومته ويفقده دعم اليمين المتطرف له والذي لا يعوض بالنسبة إليه، فإما يفوزان معا في الصراع مع الفلسطينيين وفي الصراع السياسي داخل إسرائيل أو يسقطان معا. مع العلم أن نتنياهو السياسي المحنك يعرف جيدا أن المستقبل السياسي والديموغرافي في إسرائيل هو لمصلحة الطروحات اليمينية المتطرفة وبالأخص بعد الحرب، ولذلك فإن أولوياته هي المحافظة على دعم التيارات اليمينية له ولو على حساب علاقته مع إدارة بايدن التي تشارف ولايتها على النهاية، وقد يكون "بيبي" يراهن أيضا على فوز دونالد ترمب في الانتخابات، وهو ما يجلب ماء إلى طاحونة اليمين الإسرائيلي. وفي المحصلة فإن الحسابات السياسية والشخصية لنتنياهو حاسمة في تحديد خياراته في الحرب ومن ضمنها حدود العلاقة مع واشنطن وشروطها، مع العلم أن السردية اليمينية الإسرائيلية تتحدث عن استخدام بايدن لإسرائيل في إطار مشروعه للمنطقة وليس عن مساعدته إياها، وهذه أصداء تصل بالطبع إلى نتنياهو ومستشاريه.
وفي ظل كل هذا المشهد المتداخل دوليا وإقليميا ومحليا يصبح من الصعب أكثر تصور الطريق للخروج من الحرب، فهل على المنطقة أن تستعد لـ"حرب استنزاف" طويلة؟ وفي النهاية فإن حربا كهذه دفع ويدفع ثمنها المدنيون الفلسطينيون أولا وشعوب "الهلال الخصيب" ثانيا، الذين اعتادوا الحروب الطويلة سواء في لبنان أو سوريا أو حتى في العراق الأبعد قليلا.

font change

مقالات ذات صلة