حين تحسب، أو تخادع نفسك، بأنك رأيت كل شيء، يأتي من غزة ما يقول لك إنك لم تشاهد كل شيء حقا وإن الآتي قد يكون بالفعل أسوأ وأفظع. كتاب الإبادة ما زال مفتوحا وفصوله ما زالت تتوالى، أشد هولا وفداحة، والأسوأ من ذلك كله ذلك الاستثمار الهائل، والجهد الموازي له، في تحويل المسألة إلى محض مسألة حسابات سياسية، لا يعود للفجيعة الإنسانية قيمة حقيقية تذكر أمامها.
ما جرى خلال أكثر من عام ونصف العام منذ بدء الحرب، هو تطبيع العالم برمته مع وقائع القتل اليومي، بل اللحظوي، الجارية في غزة. المعادلة السابقة القائمة على التمييز بين الإنساني والسياسي، باتت شبه ملغاة، وكأن الثمن الإنساني الذي يدفعه أهل غزة، والفلسطينيون عموما، دما وقهرا واعتقالا وإهانة، بات ثمنا "معقولا" أو في الحد الأدنى محتوما ومقبولا، أمام الوقائع السياسية. وعليه، حين يبرز موقف ذو طابع إنساني من هذه الوقائع، على غرار اللحظة النادرة التي شاهدناها في الإعلام الغربي قبل أيام، بعد مجزرة قتل المسعفين، والفيديو الذي تكشف بعد ذلك الذي يؤكد تعمد قتلهم، فإن هذا الموقف يبدو غريبا، إذ أنه في اليوم نفسه، كما في أي يوم آخر، يقتل أضعاف أولئك المسعفين، جلهم من الأطفال، ناهيك عمن يصابون وتبتر أطرافهم، ناهيك طبعا عن الصدمة النفسية المتمادية التي يعاني منها أكثر من مليوني شخص في القطاع. فلماذا يسلط الضوء فجأة على واقعة قتل المسعفين بدم بارد، على نحو ما بينت الوقائع؟ ولماذا تصبح هذه الجريمة بعينها واضحة بادية للعيان وحجة على ما تقترفه قوات الاحتلال وعلى نيات الحكومة الإسرائيلية - التي لم تعد تتوسل الحيل البلاغية، بل بات يعبر عنها بفجاجة مطلقة - في حين أن الكاميرات توثق جهارا نهارا جرائم لا تقل عنها فداحة؟
سيادة الرواية الإسرائيلية
الجواب البسيط على ذلك، هو أن العالم يتبع فعليا في التعامل مع وقائع القتل وروايته وأجندته، المنطق الإسرائيلي نفسه. فحين يعلن الجيش الإسرائيلي أنه يحقق في واقعة ما، سواء تعلقت بالقتل أو تعذيب المعتقلين، فلكأنه يسمح بتناول المسألة وتداولها، وبذلك فإن العالم يتبع حرفيا الأجندة الإسرائيلية، والتي مجمل منطوقها في نهاية المطاف أننا في خضم حرب طاحنة، يقتل فيها مدنيون فقط لأن الطرف الآخر يجعل منهم دروعا بشرية أو يختبئ بينهم، بل تذهب الرواية إلى حد زعم أن القاتل نفسه يعاني نفسيا لأنه يضطر إلى القتل الذي يجبره عليه العدو ولا يملك فيه إرادة مستقلة ولا نية مبيتة، بل إن من يمارس القتل والتوغل العسكري، بحسب ما خلصت إليه رواية الجيش الإسرائيلي، "خائف" وبالتالي فهو يطلق النار لمجرد شعوره بخطر يتهدده، وغير ذلك من مزاعم لا تستقيم البتة مع منطق الجيوش الاحترافية وسبل عملها وتراتبية اتخاذ القرار فيها.