سلاح "حماس" ورؤية مصر لمستقبل غزة

تواجه "حماس" لحظة حاسمة تتطلب اتخاذ قرارات شديدة الصعوبة في الأيام المقبلة

أ.ف.ب
أ.ف.ب
عنصر من الشرطة العسكرية المصرية أثناء زيارة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش لمعبر رفح في 20 أكتوبر 2024

سلاح "حماس" ورؤية مصر لمستقبل غزة

كان رفض حركة "حماس" نزع سلاحها، وهو المطلب الذي طُرح في إحدى الجولات الأخيرة من المحادثات غير المباشرة مع إسرائيل بشأن وقف إطلاق النار مقابل إطلاق سراح الأسرى، متوقعا ومنطقيا. وقد أثار هذا المطلب، الذي نُسب إلى وسطاء مصريين وفقا لبعض المزاعم، جدلا واسعا، وفتح بابا من التساؤلات حول مستقبل السلطة الحاكمة في غزة، مما أثار غضب المؤيدين للمقاومة منذ أن طرحه وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس في وقت سابق من هذا الشهر.

لو وافقت "حماس" على هذا المطلب، فإنها بذلك تعرّض وجودها كحركة مقاومة لخطر الانهيار، إذ يشكل السلاح أحد الأعمدة الأساسية التي تستند إليها في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، والوعد بتحريرها، وهو ما شكّل جوهر خطابها منذ تأسيسها عام 1987.وقد وظفت الحركة هذا الخطاب لتبرير ممارساتها، بما في ذلك سياساتها الداخلية تجاه سكان غزة، ولحشد الدعم داخليًا وخارجيًا على مر السنوات.

فتجريد"حماس" من سلاحها اليوم سيؤدي إلى إضعافها وتقويض مكامن قوتها، رغم اعتقاد البعض أن هذا السلاح لم يجلب للفلسطينيين سوى الويلات، كما تؤكد هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 على الكيبوتسات جنوب إسرائيل، دون الحاجة إلى التذكير بسلسلة العمليات السابقة ضد إسرائيل والردود المدمرة التي جلبتها على سكان القطاع.

وقد أسفرت هذه الردود حتى الآن عن مقتل أكثر من 60 ألف شخص من سكان غزة، فضلا عن عشرات الآلاف من الجرحى والمشوهين، فيما تعرّض أكثر من 80 في المئة من القطاع الساحلي للدمار.

ويبقى مستقبل غزة قاتما في أحسن الأحوال، وقد يبلغ حد الخسارة الكاملة في أسوأ السيناريوهات، في ظل تمسك الرئيس الأميركي دونالد ترمب بمخططه للسيطرة عليها وتحويلها إلى مشروع عقاري وسياحي ضخم، مستغلًا موقعها الجغرافي الفريد، بالتوازي مع إجراءات إسرائيلية تهدف إلى دفع السكان للمغادرة.

ومع ذلك، نفت القاهرة تقديم هذا المطلب أو طرحه خلال الجولة الأخيرة من المحادثات غير المباشرة التي استضافتها، مشيرة إلى أن مصدره هو الجانب الإسرائيلي.وستكون موافقة "حماس" على نزع سلاحها وتخليها عن السلطة ستكون تبنيا للرؤية المصرية لمستقبل غزة، وهي رؤية تقوم على اعتبارات سياسية وأمنية وأيديولوجية متشابكة.

إنهاء الانقسامات

من المفارقات أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قد يكون آخر من يرغب في نزع سلاح "حماس"، إذ يتلاقى في هذا الموقف مع قادة الحركة الرافضين للاستسلام.وطالما استغل نتنياهو، وهو رئيس الوزراء الأطول خدمة في تاريخ إسرائيل، وجود "حماس" لتأجيج الانقسامات بين الفلسطينيين. فقد دعمها بشكل غير مباشر عبر تسهيل تدفق الأموال إليها، والتي استخدمتها في إحكام قبضتها على غزة، إلى جانب تعزيز قدراتها العسكرية.

وبإقامة كيان سياسي منفصل في غزة، ساهمت "حماس" في تحقيق هدف إسرائيلي استراتيجي يتمثل في تعميق الانقسام الفلسطيني، مما عزز مزاعم تل أبيب بعدم وجود شريك فلسطيني موحد يمكن التفاوض معه، بما في ذلك في إطار اتفاقيات أوسلو التي وُقعت في سبتمبر/أيلول 1993.

ويستغل نتنياهو وجود الجناح العسكري لـ"حماس" في غزة لتبرير عملياته العسكرية المتواصلة، والتي دمرت المدارس والمستشفيات ومراكز الأمم المتحدة والمساجد والكنائس، بزعم أن عناصر "حماس" يختبئون داخلها أو يستخدمونها لتخزين الأسلحة والصواريخ.

وفي حال تخلت "حماس" عن سلاحها وتنحت عن السلطة، فإن إسرائيل ستفقد هذا الذريعة، ما قد يفتح المجال أمام السلطة الفلسطينية لتولي المسؤوليات الإدارية والأمنية في غزة.

من المفارقات أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قد يكون آخر من يرغب في نزع سلاح "حماس"، إذ يتلاقى في هذا الموقف مع قادة الحركة الرافضين للاستسلام

وأفادت التقارير بأن الجماعة التي تدير غزة أبدت تسامحا ملحوظا إزاء تولي السلطة الفلسطينية إدارة القطاع خلال الأيام الأخيرة، وذلك في إطار مقترح هدنة جديد قدمه الوسطاء المصريون والقطريون.

ويتضمن المقترح، الذي كشف عنه مسؤول فلسطيني رفيع لم يُفصح عن اسمه في 22 أبريل/نيسان، هدنة تتراوح مدتها بين خمس وسبع سنوات، وإطلاق سراح جميع الرهائن الإسرائيليين مقابل الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين المحتجزين في السجون الإسرائيلية، إلى جانب إنهاء رسمي للحرب، وانسحاب كامل للقوات الإسرائيلية من غزة.

AFP
مسلحون من "حماس" يجتمعون في موقع تسليم جثث أربع رهائن إسرائيليين

وسيُرى لاحقا ما إذا كانت حركة "حماس"، التي أرسلت وفدا إلى القاهرة في 22 أبريل لجولة جديدة من محادثات وقف إطلاق النار، ستواصل إظهار الانفتاح نفسه إزاء تولي السلطة الفلسطينية إدارة غزة.

إن بسط سيطرة السلطة الفلسطينية على غزة سيخلق الوحدة الإقليمية والسياسية المطلوبة لإقامة دولة فلسطينية، بما يتماشى مع مطالب مصر بإقامة دولة على حدود عام 1967، عاصمتها القدس الشرقية. وفي هذا السياق، فإن الاقتراح الذي تدعمه القاهرة بتشكيل لجنة غير حزبية من التكنوقراط الفلسطينيين لإدارة غزة قد يمهّد الطريق أمام عودة السلطة الفلسطينية إلى القطاع، ويعزز فرص تحقيق الوحدة المنشودة.

منذ أن بسطت "حماس" سيطرتها على غزة في يونيو 2007، شكّل وجودها في الحكم إشكالية كبرى لمصر

شكوك تلقي بظلالها

منذ أن بسطت "حماس" سيطرتها على غزة في يونيو/حزيران 2007، شكّل وجودها في الحكم إشكالية كبرى لمصر. فمع تسلُّمها السلطة، أقامت الحركة شبكة من الأنفاق على طول الحدود مع سيناء، لتجاوز الحصار الإسرائيلي الشامل المفروض على القطاع، والذي تزامن مع صعودها السياسي.

واستخدمت "حماس" هذه الأنفاق لتهريب الإمدادات الأساسية من مصر، بما في ذلك الوقود والمواد الغذائية ومواد البناء. غير أن الشبكة ذاتها استفاد منها إرهابيو "داعش"، الذين استخدموها للتسلل إلى غزة، وتلقّي العلاج في مشافيها، والحصول على إمدادات من الأسلحة والمقاتلين السلفيين الجهاديين.

وقد استغرقت مصر سنوات طويلة واستثمارات ضخمة لتفكيك هذه الشبكة، خاصة بعد تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي الحكم عام 2014، ما ألقى بظلال كثيفة من الشك تجاه "حماس" لدى الجانب المصري.

وتغذي هذه الشكوك الفجوة الأيديولوجية بين الحركة والسلطات المصرية، إذ تُعد "حماس" امتدادا فكريا لجماعة الإخوان المسلمين التي تصنّفها القاهرة منظمة إرهابية، وتتعامل معها بسياسات صارمة داخليا وخارجيا.

تمسك"حماس" بالسلاح... واستمرارها في حكم غزة يمنح إسرائيل الذريعة لمواصلة عملياتها العسكرية

تواجه "حماس" لحظة حاسمة تتطلب اتخاذ قرارات شديدة الصعوبة في الأيام المقبلة. فتمسّكها بالسلاح واستمرارها في حكم غزة يمنح إسرائيل الذريعة لمواصلة عملياتها العسكرية، ويعمّق جراح الشعب الفلسطيني، ويمهّد الطريق لتحقيق رؤية ترمب التي تسعى إلى تحويل غزة إلى مشروع عقاري فاخر.

وقد يؤدي هذا السيناريو إلى تلاشي كل آمال تحقيق الوحدة السياسية والإقليمية الفلسطينية، وإقامة الدولة المستقلة.

وقد تجد الحركة نفسها في موقع من يضحي بالمصلحة الوطنية الفلسطينية في سبيل الحفاظ على مكاسبها الضيقة، ما يجعلها تبدو وكأنها تقود السفينة نحو الاصطدام بجبل جليدي.

وتكمن المعضلة الحقيقية في أن تخلي "حماس" عن سلاحها قد يُفضي إلى زوالها، نظرا لأن المقاومة المسلحة تشكل جوهر وجودها ومصدر شعبيتها. وإذا أرادت تفادي مصير الفناء، فعليها إعادة تعريف ذاتها كحزب سياسي قادر على تقديم رؤية متكاملة تعالج التحديات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية التي تواجه الفلسطينيين ككل، لا سكان غزة فقط. غير أن هذا الخيار يثير تساؤلات جوهرية حول مدى استعداد الحركة وقدرتها على التحول في هذا الاتجاه.

قد تجد الحركة نفسها في موقع من يضحي بالمصلحة الوطنية الفلسطينية في سبيل الحفاظ على مكاسبها الضيقة، ما يجعلها تبدو وكأنها تقود السفينة نحو الاصطدام بجبل جليدي

الواقع أن اللحظة الراهنة تضع أمام قادة "حماس" خيارين متناقضين بخصوص مستقبل غزة والأراضي الفلسطينية. الأول، تدعمه حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل، ويهدف إلى استكمال احتلال الضفة الغربية، مستغلا دعم ترمب غير المحدود لتل أبيب، بهدف دفن حلم الدولة الفلسطينية، ومحو غزة من الخريطة، تمهيدا لتحقيق مشروع "ريفييرا الشرق الأوسط".

أما المشروع الثاني، فتمثله رؤية مصر ودول عربية وإسلامية أخرى، وتقوم على إعادة إعمار غزة دون تشريد سكانها، كخطوة نحو دمج القطاع مع الضفة الغربية، وإقامة الدولة الفلسطينية.

ويبقى على "حماس" أن تحدد اتجاهها، غير أن المضي في المسار الثاني يتطلب قدرا عاليا من إنكار الذات، وهو ما لا يبدو أن الحركة مستعدة له في الوقت الراهن.

font change