المفاوضات الأميركية الإيرانية... محاولات لتقريب وجهات النظر

ضوء أخضر

أ ف ب
أ ف ب
الرئيس الأميركي دونالد ترمب في البيت الأبيض

المفاوضات الأميركية الإيرانية... محاولات لتقريب وجهات النظر

واشنطن - عقدت جولة من المفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران في 26 أبريل/نيسان في مسقط، عقب جولتين سابقتين تميّزتا بتطورات إيجابية لافتة. وأعرب الطرفان عن تفاؤلهما ورغبتهما المشتركة في دفع الحوار إلى الأمام. وقد شهد الخطاب بين واشنطن وطهران تحولا جذريا خلال أسابيع قليلة فقط، وبات واضحا أن الجانبين أكثر التزاما بالتوصل إلى اتفاق مقارنة بمحادثات عامي 2013–2015 التي أفضت إلى اتفاق فيينا.

وبالنسبة للولايات المتحدة، فإن التوصل إلى اتفاق ناجح يعني منع إيران من امتلاك أسلحة نووية والحدّ من سلوكها الإقليمي المزعزع للاستقرار. أما بالنسبة لإيران، فإن تخفيف العقوبات التي تخنق اقتصادها– ولو جزئيا– قد يشكل طوق نجاة حيويا.

ورغم أن عوامل مماثلة كانت حاضرة في المحادثات السابقة، فإن الرهانات اليوم باتت أعلى بكثير، فقد بلغ البرنامج النووي الإيراني مرحلة جعلت من إيران دولة على عتبة امتلاك السلاح النووي. وإذا انهارت هذه المفاوضات، فقد لا تقتصر العواقب على فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية، بل ربما تشمل ضربات عسكرية من جانب إسرائيل أو الولايات المتحدة.

هذا الشعور بالإلحاح هو ما يدفع كلا من واشنطن وطهران إلى الدفع بقوة نحو التوصل إلى اتفاق. ومع ذلك، فإن الكثير من الأطراف، سواء داخل العاصمتين أو خارجهما، لا يزالون متوجسين من الشكل المحتمل لهذا الاتفاق، ولا يخفي بعض هذه الأطراف تفضيله للمواجهة العسكرية. ومع ذلك، على الرغم من استمرار الأصوات المعارضة للمفاوضات، فإن الموقف العام لأصحاب القرار الرئيسين اليوم يبدو أكثر دعما للحوار مقارنة بما كان عليه بين عامي 2013 و2015.

في إيران، تراجع نفوذ التيار المتشدد الذي طالما عارض أي تقدم جوهري في العلاقة مع الولايات المتحدة، فالرئيس مسعود بيزشكيان ينتمي إلى المعسكر الإصلاحي، ويحتفظ بعلاقة عمل وثيقة مع رئيس البرلمان محمد باقر قاليباف في ملفات السياسة الخارجية. وعلى الرغم من أن قاليباف محافظ أساسا، فهو ليس حليفا للتيار المتشدد بأي حال.

  "المرشد الأعلى" الذي لا يزال صاحب الكلمة العليا، بدأ يدرك ضرورة الموازنة بين المصالح المتنافسة داخل النظام والمجتمع الأوسع، وبالتالي منَح الضوء الأخضر لاستمرار المحادثات

أما "المرشد الأعلى" علي خامنئي، الذي لا يزال صاحب الكلمة العليا، فقد بدأ يدرك ضرورة الموازنة بين المصالح المتنافسة داخل النظام والمجتمع الأوسع، وبالتالي منَح الضوء الأخضر لاستمرار المحادثات. وفي خطاب لافت ألقاه في 24 أبريل، بمناسبة ذكرى وفاة أحد الأئمة الشيعة، قدّم خامنئي تأملا موسعا في التاريخ الشيعي، مستعرضا كيف اختار الأئمة غالبا السلام وضبط النفس في مواجهة الخصوم. بل إن الشخصيات المتشددة البارزة مثل سعيد جليلي، المفاوض النووي السابق والمرشح الخاسر في انتخابات العام الماضي، أخذت تبدي قدرا ملحوظا من التحفظ في تعليقاتها. وبعد فترة من الصمت العلني، استأنف جليلي خطبه الأسبوعية، لكن تركيزه انصبّ على انتقاد اتفاق 2015 أكثر من مهاجمة الجولة الحالية من المفاوضات الحالية. واللافت أن معسكره كان قد لمح إلى احتمال مشاركة شخصية بارزة من الحرس الثوري الإيراني في المفاوضات، غير أن المسؤول المنتظر غاب عن الحضور بشكل واضح.

أ.ف.ب
المرشد الايراني علي خامنئي، طهران في 12 فبراير 2025

ووجدت مؤسسة التلفزيون الحكومي الإيراني- التي تعتبر من بين أكثر المؤسسات نفوذا والتي لا تزال خاضعة لهيمنة التيار المتشدد، إذ يشغل شقيق سعيد جليلي منصب نائب رئيسها- وجدت نفسها في مواجهة موجة من الانتقادات الحادة داخليا في الأيام الأخيرة. وبدأت الأزمة ببثّ فقرات كوميدية انتقدت مسؤولين عربا، في خطوة وُصفت بأنها غير موفقة، إذ جاءت في لحظة حساسة يُبذل فيها جهد كبير لتعزيز التقارب بين طهران والرياض تقاربا يُعتبر ركيزة أساسية لإنجاح المفاوضات الإيرانية–الأميركية. ثم تصاعد الجدل إثر استضافة أحد البرامج العائلية لضيف تفوّه بكلمات غير لائقة بحق الخليفة الأول، أبي بكر الصديق، وهو شخصية موضع تبجيل واسع بين المسلمين السنة. وقد أثارت تلك التصريحات موجة استياء عارمة في أوساط السنة داخل إيران، وكذلك في الدول العربية المجاورة ذات الغالبية السنية. وردا على هذا الغضب العارم، قدّم رئيس الهيئة، بيمان جبلي، اعتذارا رسميا، أعقبه باتخاذ إجراءات تأديبية بحق عدد من مسؤولي القناة، فأقيل بعضهم ويخضع آخرون للتحقيق القانوني. وهكذا، يتعلم المتشددون بطريقة قاسية حدود ما يستطيعون فرضه من نفوذ.

وتزداد هشاشة المعارضة الداخلية للمفاوضات بفعل المكاسب الاقتصادية الواضحة التي بدأت تلوح في الأفق. إذ إن مجرد تواتر أنباء إيجابية عن مجريات المحادثات كان كفيلا برفع قيمة الريال الإيراني بنسبة تجاوزت العشرين في المئة مقابل الدولار الأميركي. صحيح أن رفع العقوبات لن يُحدث تحولا فوريا في بنية الاقتصاد الإيراني المتعثر، إلا أنه يحمل آفاقا واعدة لتحقيق انتعاش ملموس. وفي هذا السياق، أكد أحد القياديين في غرفة التجارة الإيرانية، في مقابلة حديثة، أن تأثير تخفيف العقوبات سيكون حاسما على المدى المتوسط والبعيد، وأنه، في حدوده الدنيا، سيخفض تكاليف المعاملات وعزز صادرات السلع التقليدية، كالسجاد الفارسي، وتسهيل استيراد السلع الحيوية من الدول الغربية، وعلى رأسها التكنولوجيا.

مجرد تواتر أنباء إيجابية عن مجريات المحادثات كان كفيلا برفع قيمة الريال الإيراني بنسبة تجاوزت العشرين في المئة مقابل الدولار الأميركي

أما في الولايات المتحدة، فثمة تباين داخل معسكر الرئيس ترمب حيال مسار المفاوضات، رغم التزامه الثابت بها. ويُرجّح أن تعيين مايكل أنتون على رأس الفريق الفني الأميركي المفاوض قد عزز من موقف المؤيدين داخل الإدارة، لأن أنتون، على الرغم من كونه غير منتمٍ إلى السلك الدبلوماسي، يُعد من المفكرين المحافظين البارزين، ويتولى رئاسة مركز الدراسات التابع لوزارة الخارجية. وهو ينتمي إلى تيار داخل الفريق الرئاسي يُبدي تحفظا واضحا إزاء الانخراط العسكري الأميركي في منطقة الشرق الأوسط. ويبدو أن اختياره لهذا المنصب يُعزى إلى توافقه الأيديولوجي مع الرئيس، فضلاً عما يتمتع به من ولاء شخصي له.

على الصعيد الإقليمي، لا تزال إسرائيل متوجسة من المفاوضات الأميركية-الإيرانية الجارية. فعلى الرغم من معارضة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو العلنية لجهود إدارة أوباما خلال محادثات 2013–2015، فإن وضعه الحالي أكثر تقييدا، نظرا لتحالفه الطويل الأمد مع الرئيس ترمب. والأهم من ذلك، أن المحادثات الراهنة تحظى بدعم مجلس التعاون الخليجي الأخرى، وهو تحول ملحوظ عن المواقف المعارضة التي أبدتها تلك الدول خلال الجولة السابقة من المفاوضات.

وقد أكدت زيارة وزير الدفاع السعودي، الأمير خالد بن سلمان، الأخيرة إلى طهران على رأس وفد أمني رفيع المستوى، هذا التغير، مشيرة إلى انطلاق فصل جديد في العلاقات بين الرياض وطهران.

ويبدو أن خامنئي، المعروف منذ سنوات بخطابه العدائي تجاه السعودية، بات يرى أن نمطه المتشدد من الإسلام السياسي يفقد زخمه ومصداقيته تدريجيا، سواء داخل المجتمع الإيراني أم بين أوساط النخبة السياسية. وتوحي المعطيات المتوافرة بأن النخب العسكرية والأمنية الإيرانية توصلت إلى قناعة مفادها أن العداء المستمر تجاه دول الجوار مثل السعودية لم يعد قابلا للاستمرار، وأنها بدأت ترى في التعاون لا المواجهة الطريقَ الأكثر واقعية وجدوى. وهذا التعديل في السياسات الإقليمية يعزز فرص نجاح المحادثات بين واشنطن وطهران، إذ إن شرق أوسط أكثر استقرارا، يركز على التعاون الاقتصادي بدلا من النزاعات، يخدم مصالح جميع الأطراف المعنية.

وبينما كان نائب وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، يتفاوض مع المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف، أجرى أيضا اتصالات مع عدد من الجهات الدولية الرئيسة. فقد زار روسيا والصين مؤخرا، وعقد اجتماعات مع نظرائه في العاصمتين. وفي تصريح أدلى به من بكين يوم 23 أبريل/نيسان، أشار عراقجي إلى وجود "تفاهم جيد جدا" بين إيران والصين بشأن المفاوضات مع الولايات المتحدة. ومن المرتقب أن يقوم الرئيس مسعود بيزشكيان بزيارتين إلى الصين هذا العام، إحداهما لحضور قمة ثنائية مع الرئيس شي جين بينغ، والثانية للمشاركة في قمة منظمة شنغهاي للتعاون المقررة في سبتمبر/أيلول المقبل.

وفي 24 أبريل، أطلق عراقجي مبادرة دبلوماسية نحو أوروبا، داعيا إلى فتح صفحة جديدة في علاقات إيران مع المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا، وأعرب عن استعداده لزيارة لندن وباريس وبرلين. وفي الوقت نفسه، كان مايكل أنتون، رئيس الوفد الفني الأميركي، يجري مشاورات مماثلة مع نظرائه الأوروبيين. ويبدو أن هناك توجها متناميا لدى المسؤولين الأوروبيين نحو تنسيق المواقف مع واشنطن فيما يخص الملف الإيراني، على الرغم من استمرار الخلافات بشأن قضايا أوسع، مثل أوكرانيا.

عرض علي شمخاني، المسؤول العسكري الرفيع المكلف بملف إيران النووي، 9 مبادئ توجيهية تؤطر مسار المحادثات، كان أبرزها "الرفض القاطع لنموذج ليبيا والإمارات"

إذن، تشير المعطيات كافة إلى أن المفاوضات الأميركية-الإيرانية تمضي قدما، غير أن التحديات الحقيقية ما زالت تتربص المرحلة القادمة، إذ ستبدأ القضايا الجوهرية، الفنية منها والسياسية، في البروز مع تعمق الحوار. وتبقى إحدى النقاط الشائكة الأساسية مسألة ما إذا كان سيسمح لإيران بتخصيب اليورانيوم داخل أراضيها، شريطة أن لا تتجاوز النسبة 3.67 في المئة، كما نص عليه اتفاق عام 2015. وقد عبّر المسؤولون الأميركيون عن مواقف متباينة إزاء هذه القضية. ففي الفترة الأخيرة، جادل وزير الخارجية ماركو روبيو بأن إيران، حتى وإن كانت تسعى إلى برنامج نووي مدني، لا حاجة لها عمليا إلى تخصيب محلي، ويمكنها بدلا من ذلك استيراد اليورانيوم المخصب من مصادر خارجية. ويتعارض هذا الطرح مع إصرار طهران على الاحتفاظ بقدرات التخصيب الوطنية، التي تعتبرها خطا أحمر لا يمكن تجاوزه.

وفي 19 أبريل، عرض علي شمخاني، المسؤول العسكري الرفيع المكلف حاليا بملف إيران النووي، تسعة مبادئ توجيهية تؤطر مسار المحادثات، كان من أبرزها "الرفض القاطع لنموذج ليبيا والإمارات". وهو في ذلك يشير إلى تجربتين مختلفتين: فليبيا قامت تحت حكم معمر القذافي بتفكيك برنامجها النووي بالكامل مقابل اتفاق مع القوى الغربية، بينما تدير الإمارات العربية المتحدة برنامجا نوويا مدنيا يعتمد كليا على استيراد الوقود النووي المخصب من أوروبا. والسؤال المطروح حاليا هو ما إذا كان بإمكان واشنطن ممارسة ضغط كافٍ لدفع إيران نحو أحد هذين النموذجين، أو ربما نحو خيار هجين يتيح قدرا محدودا من التخصيب المحلي، مع اعتماد عناصر من النموذج الإماراتي، مثل استيراد الوقود النووي.

وستحدد هذه النقاشات مسار المرحلة المقبلة من الدبلوماسية، سواء في مسقط أو روما أو أي مدينة أخرى تُنصب فيها طاولات التفاوض في الأسابيع القادمة.

font change