مينيكيه شيبر لـ"المجلة": حياة الأرملة لا تتوقف بعد رحيل زوجها

عن أحدث مؤلفاتها "الأرامل... التاريخ المسكوت عنه"

AlMajalla
AlMajalla

مينيكيه شيبر لـ"المجلة": حياة الأرملة لا تتوقف بعد رحيل زوجها

يتقاطع العام مع الخاص في كتاب "الأرامل...التاريخ المسكوت عنه" للباحثة الهولندية المخضرمة مينيكه شيبر. بدأت صاحبته جمع مادة الكتاب مباشرة بعد وفاة زوجها الذي قضت معه أكثر من نصف عمرها، ليتحول حزنها عليه إلى سردية تجمع كل الأرامل. الكتاب يستكمل مشروعها الطويل الذي تقع المرأة في جوهره، مع أعمال مثل "إياك والزواج من كبيرة القدمين"، و"تلال الفردوس... تاريخ الجسد الأنثوي بين السلطة والعجز"، و"من بعدنا الطوفان... حكاية نهاية البشرية"، و"المكشوف والمحجوب... من خيط بسيط إلى بدلة بثلاث قطع".

كتاب "الأرامل" الصادر حديثا عن دار "صفصافة" في مصر، بترجمة عبد الرحيم يوسف، يمثل نموذجا بحثيا مثاليا، فهو رحلة عبر التاريخ والثقافات لفهم الأرملة ونظرة المجتمعات إليها، كاشفا عن طقوس الحداد، والقيود المفروضة، وحتى الظلم الاجتماعي الذي تتعرض له من طريق اتهامها بالسحر والشعوذة وأشياء أخرى، وطارحا في الوقت نفسه نماذج لأرامل ملهمات تمكنّ من تجاوز تلك القيود.

بين الثقافات

مينيكيه شيبر روائية وفنانة بدأت نشاطها في المسرح. درست اللغة الفرنسية والفلسفة في جامعة أمستردام الحرة، ودرست النظرية الأدبية والأدب المقارن في جامعة أولتريخت. بدأت حياتها العملية بتدريس اللغة الفرنسية والأدب الأفريقي، وكانت أطروحتها التي تقدمت بها للحصول على درجة الدكتوراه عام 1973 أول رسالة دكتوراه في هولندا عن الآداب الأفريقية. وهي لا تزال تحتفظ بمنصبها كباحثة في مركز جامعة لايدن للآداب والفنون، لكنها متفرغة حاليا للكتابة.

تقول مينيكيه شيبر لـ"المجلة": "فكرت في قصة الأرامل قبل زمن. بعد اقتراني بزوجي، وهو مؤرخ، ذهبنا إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية حيث كانت هناك حاجة ماسة للمعلمين. كانت وظيفتي الأولى تدريس الأدب الفرنسي في جامعة الكونغو الحرة، حيث اكتشفت لأول مرة مدى تشابهنا كبشر. لم أكن قد قرأت بعد رواية أفريقية، وكان هناك العديد منها باللغة الفرنسية. فقرأتها ودرستها جميعا، وكتبت أطروحة الدكتوراه عن صورة الغرب والأوروبيين في الروايات الأفريقية الفرنكوفونية. إن الاهتمام بما يعتقده الآخرون عنك وعن خلفيتك الواضحة، يضيف بعدا إلى معرفتك المحدودة. نشرت بعد ذلك أطروحة الدكتوراه وكانت بعنوان ’نظرة بيضاء إلى أفريقيا’".

 كانت نقطة البداية المعرفية لديّ الأمثال المتوارثة في مختلف الثقافات التي تتناول الأرامل. لاحظت أن لكل ثقافة أمثالها عن الأرامل، لكنها تتشابه إلى حدّ كبير

تفتتح المؤلفة كتابها باقتباس من أدريان مورين في كتابه "فن المحبة": "يخضع الظلام للقواعد أكثر مما يفعل النور". تتبعه مباشرة صورة رسمة على جدار طيني بعنوان: "من سيرحل أولا؟ زوجان متعانقان". يمكن تلك الافتتاحية الكشف عن منهج شيبر في إجراء أبحاثها. فهي بالرغم من كونها تقدم كتابا بحثيا تماما، فإنها تتناوله بشكل أدبي. يفهم القارئ من خلاله أنه أمام تفكيك وضع الأرملة على مر التاريخ، وذلك بداية من تأكيد حقيقة أن "الأرامل من النساء يفقن بكثير الأرامل من الرجال، نتيجة اعتبار السن والحرب وأشياء أخرى"، مؤكدة أن هناك زهاء 260 مليون أرملة حول العالم لا يحصلن تماما على حقوقهن. تقول: "كلنا لدينا ذات خاصة لكن لدينا أيضا أشياء عدة مشتركة بصفتنا بشرا على الرغم من الفوارق المختلفة... كانت نقطة البداية المعرفية لديّ الأمثال المتوارثة في مختلف الثقافات التي تتناول الأرامل. لاحظت أن لكل ثقافة أمثالها عن الأرامل، لكنها تتشابه إلى حد كبير، فيبدو أن الأرامل أينما كن يعانين من النظرة ذاتها". 

غلاف كتاب "الأرامل"

نسوية دون عداوة

لا تعتبر شيبر نفسها أنثروبولوجية، فهي آتية من عالم الأدب المقارن: "أركز على تحليل الظاهرة وفهم سياقاتها، لا مجرد الدفاع عنها أو الهجوم عليها". ما يميز مشروعها، أنها ترى المسارين النسوي والذكوري دون انحياز، فالحل بالنسبة إليها "لا يكمن في شيطنة الرجل، بل في محاولات التعايش بين المرأة والرجل على اعتبار أنه لا يمكن أحدهما فعلا الاستغناء عن الآخر". 

يتناول الكتاب كذلك تمثيلات الأرملة في الفن الغربي، حيث لاحظت تصوير الأرملة بوصفها "ذاهلة شاردة حزينة، آمالها قليلة في الحياة. كثيرا ما كانت تجد المرأة نفسها مدانة بعد موت زوجها، فتتهم أحيانا بالسحر وأحيانا أخرى بالشؤم والمكيدة. ولا تتوقف تلك التصورات على طبقة بعينها. فحتى زمن قريب كانت الأرملة في مختلف الثقافات محاطة بالريبة، يتوعدها الحظ السيئ والفقر".

تقول الباحثة: "من المهم أن نكون على وعي كبير بثقافة الآخر، قرأت كل ما استطعت أن أجده. المواضيع التي تناولتها في فصول الكتاب الثمانية تتناول الخبرات الأكثر عمومية في التاريخ". كثيرا ما تهتم شيبر بالدخول إلى التاريخ "من خلال تلك المقارنات الأدبية التي تظهر ما بين السطور والحيوات المختلفة، أو ربما تشابهاتها غير الملتفت إليها عادة". 

كثيرا ما كانت تجد المرأة نفسها مدانة بعد موت زوجها، فتتهم أحيانا بالسحر وأحيانا أخرى بالشؤم والمكيدة


يعيد الكتاب سرد الأمثال القديمة التي تسخر من موت الزوجة، غربيا وعربيا. على اعتبار أن "موت الزوجة يجدد الأمل للزوج بحياة جديدة عاطفيا وجنسيا بينما موت الزوج يبدو مأسآة مستمرة للمرأة في كل سياقاته". تعتبر في بعض الأوقات أن الزواج نفسه بداية السيطرة على المرأة، التي تتضاعف لسخرية القدر مع موت هذا الزوج نتيجة اعتبارات متعددة تسردها على مدار الكتاب. 

جمع الأمثال

يحتشد كتاب "الأرامل" بنماذج من الأمثال حول الأرملة في مختلف الثقافات، في سياق ذلك تشرح شيبر: "أثناء إقامتي في أفريقيا، أدركت مدى اهتمام الناس بالأمثال والقصص الشفهية. عملت مع الطلاب على سؤال أجدادهم وجداتهم عن القصص والأمثال المتعلقة بالمرأة، ولم أكن أعرف الكثير من الأمثال من أوروبا، فجمعتها. أينما سافرت كنت أسأل الناس عن الأمثال، وبالتالي تكونت لدي على مر السنين مجموعة تضم أكثر من 15000 مثل. مع دراسة هذه المجموعة من الأمثال، كتبت كتابا بعنوان "إياك والزواج من كبيرة القدمين" (منشورات جامعة "يال"، 2004)، وتناولت فيه جميع فئات النساء من الفتيات الصغيرات إلى العرائس والزوجات والضرائر والأمهات والحموات والجدات.

Christiaan Krouwels
مينيكيه شيبر

عن هذه التجربة تقول شيبر: "عندما انتهيت من تأليف الكتاب، حدث أمر مثير ومؤثر. وصلت إلى مكتبي في جامعة لايدن، وأمام الباب كان صندوق ضخم ينتظرني، وقد وصلني من المملكة العربية السعودية، ويضم مجموعة كتب عن الأمثال العربية، وأرفقت برسالة من شخصية سعودية يخبرني بأنه قرأ مقالة كتبتها عن الأمثال في صحيفة 'تايمز' وتقديرا لعملي، أرسل لي تلك الكتب عن الأمثال العربية. كان ذلك في فترة ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، في وقت كان العالم يسوده الشك والريبة. لذلك، كانت هذه الهدية لفتة بالغة الأهمية من جهة غير متوقعة من العالم، وشجعتني على هذا النوع من العمل الذي كنت (وما زلت) أقوم به. ترجم الكتاب إلى العديد من اللغات، من الصين إلى البرازيل، وبالطبع إلى اللغة العربية أيضا. لاحقا ساعدت تلك الأمثال في العمل أكثر على كتاب 'الأرامل'".

 وصلت إلى مكتبي في جامعة لايدن، وأمام الباب كان صندوق ضخم ينتظرني، وقد وصلني من المملكة العربية السعودية، ويضم مجموعة كتب عن الأمثال العربية


تتطرق أعمال شيبر أيضا، بما في ذلك الأخير، وفي السياق الثقافي نفسه، إلى نظرة الأديان الى المرأة. فتخلص كما تقول إلى أن "ثمة اتفاقا ضمنيا ثقافيا ودينيا واجتماعيا على مأسآة ترمل المرأة بوصفه أسوأ كارثة محتملة لكل امرأة"، مشيرة أيضا إلى شعورين متناقضين تماما تعيشهما الأرملة: "الحزن الصادق الشديد على رفيق، والغضب من العواقب التي تعيشها جراء ذلك. ويتمظهر ذلك الشعور في اختيارات الكتاب المختلفة التي تؤكد مصيبة موت الزوج بالطبع، لكن مع تقديم الأمل في استمرار الحياة بالرغم من كل شيء".

المشترك الإنساني

سألنا شيبر حول التقاطعات بين مختلف أبحاثها ومؤلفاتها، تقول: "سؤالي الأساسي في كل عمل كان دائما: ما الذي نتشاركه كبشر؟ إن أحد مخاوف البشرية هو محدوديتنا الفردية، وأملنا في أن يكون هناك جيل جديد يتولى زمام الأمور. ولكن ماذا سيحدث إذا لم يتبق أحد ليتولى زمام الأمور؟ علينا النظر إلى ما يجمعنا كبشر".

مينيكيه شيبر

في كتابها "المكشوف والمحجوب.. من خيط بسيط إلى بدلة بثلاث قطع"، تقدم شيبر دراسة مقارنة بين المجتمعات والآداب والأديان، وذلك في إطار سعيها إلى "تتبع نظرة الإنسان لجسده وإحساسه بالخزي أو الاعتيادية تجاه عريه". تسرد ظهور فكرة الملابس كغطاء منذ أن كانت مجرد خيط بسيط وصغير يغطي أجزاء صغيرة وحساسة من الجسد إلى تحولها لمجال تنافس بين شركات الملابس والموضة، أو إلى تعبير عن هوية طبقة أو مجتمع أو حتى إلى تعبير عن التزام قواعد دينية لمجموعات صغيرة أو كبيرة. تقول: "كان سؤال الكتاب الأساسي: كيف ولماذا نغطي أنفسنا؟ وإلى أي حد يتعرض جسد المرء للسخرية إذا مشى عاريا أو بملابس تخص هوية معينة". يطرح الكتاب على القارئ تساؤلات عدة حول مختلف الأفكار التي تراوده خلال اختياره ماذا يرتدي، كيف يفكر الذكور والإناث في فكرة الحجاب والحشمة. يأتي كل ذلك في سياق المشترك البشري بين الشرق والغرب، أي الأشياء التي تجمع أذواقهم.

الرجل والمرأة شريكان في عالم واسع، وعلى أحدهما مساعدة الآخر بدلا من الصدام الذي يعطل كل تفكير حقيقي ونبيل


أما في كتاب "ومن بعدنا الطوفان... حكايات نهاية البشرية"، فتتساءل شيبر عن النهايات المفتوحة للبشر، نساء ورجالا، وما يمكن أن يجعلهم في موضع قوة معا في مواجهة النهاية الحتمية تلك. بينما تبين أنها في كتابها "تلال الفردوس" سعت إلى دراسة القوة والعجز انطلاقا من جسد الأنثى: "كنت أبحث في أجسادنا البشرية، وفي جسد المرأة خصوصا والتعليقات حوله في جميع أنحاء العالم (معظمها من تأليف الرجال، لذا فإن تلك التعليقات كاشفة للغاية)". نشر كلا الكتابين أيضا باللغة العربية "حتى الآن، نشرت خمسة من كتبي باللغة العربية. وهذا مجز للغاية بالنسبة إلى كاتب غير عربي بالطبع".

مينيكيه شيبر

تعتبر شيبر أن أعمالها يكمل بعضها بعضا، انطلاقا من أن النظرة إلى الرجل والمرأة يجب أن تتجاوز المعارك الصغيرة بين الجنسين، "فكلاهما شريك في عالم واسع، وعلى أحدهما مساعدة الآخر بدلا من الصدام الذي يعطل كل تفكير حقيقي ونبيل".

في العودة إلى كتابها الأحدث، "الأرامل"، تقول شيبر: "على الرغم من القواعد والأحكام المسبقة الخانقة، تنجح العديد من الأرامل في بناء حياة جديدة بعد وفاة الزوج. ومع ذلك، ليست هذه الصورة التي رسخت في الوعي العام العالمي. كتابي هذا هو في الواقع نسخة متعمقة من تاريخ المرأة العام على مر العصور: مدارة ومسيطر عليها، ونادرا ما تسأل عن نوع الحياة التي تطمح إليه".

تشرح هذا الأمر: "بالنسبة إلى النساء اللواتي لم يعرفن سوى الاعتماد على آبائهن أو أزواجهن من المهد إلى اللحد، لطالما شكل موت الزوج كارثة حقيقية، إلا أنك تجد في الواقع، وفي جميع أنحاء العالم، أرامل يدرن حياتهن بأنفسهن، علينا البحث عن نماذج ملهمة أيضا". وتضيف الباحثة الهولندية: "تتجلى الصورة النمطية العنيدة للمرأة الأرملة بوضوح في الكلمة اليابانية التي تصفها: mibōjin. المعنى الحرفي لهذه الكلمة هو 'التي لم تمت بعد'.

في عبارة أخرى، فإن المرأة بعد موت زوجها تقبع في غرفة انتظار الموت. لكن في الواقع، هذا المصير ينطبق على جميع البشر، علينا جميعا. جميع الأرواح محدودة، وكل يوم هو هبة فريدة وثمينة نتلقاها، وعلينا جميعا أن نستغل كل يوم من حياتنا على أفضل وجه. وينطبق الأمر نفسه على الأرامل. يذكرنا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي وقعته جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، بأن "جميع الناس يولدون أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق".

 الخلاصة الأهم أن الأرامل لسن قابعات في غرفة انتظار الموت. علينا أن يشجع بعضنا بعضا بصفتنا بشرا لنستفيد من كل يوم في حياتنا

تعود شيبر إلى التاريخ ليس من أجل التباكي عليه، بل من أجل تغيير النظرة إلى المستقبل. في الختام تقول السيدة التي تقف على عتبة العقد التاسع من عمرها: "الخلاصة الأهم أن الأرامل لسن قابعات في غرفة انتظار الموت. علينا أن يشجع بعضنا بعضا بصفتنا بشرا لنستفيد من كل يوم في حياتنا. لدى الأرامل دور كبير في تحرير أنفسهن، دون صدام مع الرجل على كل حال".

font change

مقالات ذات صلة