هل نحن أمام مشهد جديد في المنطقة؟ السؤال هنا لا يتعلق بوقائع العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة والنتائج المباشرة لهذا العدوان على مستوى المنطقة ولاسيما في سوريا ولبنان. ثمة جديد تقدمه المفاوضات الإيرانية-الأميركية والتي تحولت بحكم ترتيب الأولويات الاستراتيجية للقوى الإقليمية والدولية إلى الحدث الرئيس الآن في المنطقة. وهو ما يظهر إسرائيل في حال تراجع لناحية عدم قدرتها على فرض أجندتها في الإقليم، في ظل اهتمام الرئيس دونالد ترمب بالتوصل إلى اتفاق مع طهران.
بطبيعة الحال لا يمكن القول إن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ونتائجها الإقليمية أصبحت حدثا ثانويا، لكن في المقابل إذا كانت إسرائيل تريد من خلال التمادي في هذه الحرب تأكيد لا محدودية قوتها وغياب أي قدرة دولية أو إقليمية على منعها من تحقيق سياساتها في الأراضي الفلسطينية والمنطقة، فإن ضعف قدرتها حتى الآن في التأثير على مجرى المفاوضات الأميركية-الإيرانية، أو بمفردات أخرى عدم قدرتها على جعل إدارة ترمب تتبنى السقف الذي وضعته لهذه المفاوضات أي تفكيك البرنامج النووي الإيراني كليا على الطريقة الليبية، يؤكد محدودية القوة الإسرائيلية أمام المعادلات الدولية والإقليمية المتغيرة.
بيد أن الأمر لا يتعلق وحسب بديناميات التحالف بين واشنطن وتل أبيب ولا بحسابات الولايات المتحدة في التعامل مع الملف الإيراني بناء على أولوياتها الدولية والإقليمية المتزاحمة من الصين إلى أوكرانيا والشرق الأوسط، بل إن المتغير الأساسي هنا هو بروز الدينامية الإقليمية في ما يخص العلاقات السعودية-الإيرانية، والتي تتيح سلوك مسار عربي جديد للتعامل مع كل ما له صلة بإيران.
والواقع أن أهمية التقارب السعودي-الإيراني في هذه اللحظة أنه لا يأتي بدافع مصلحة أحدهما دون الآخر، أي إن هذا التقارب جاء وليد مصلحة كل منهما في التقارب مع الآخر تبعا للتطورات الإقليمية، لكن أيضا بالنظر إلى أن إيران وبفعل هذه التطورات تبدو مستعدة وأكثر من أي وقت مضى للتعامل بطريقة مختلفة مع الملفات الإقليمية.
لا ريب في أن الظروف الاقتصادية تدفع طهران لسلوك طرق الدبلوماسية في محاولة لرفع العقوبات عنها وفتح الاقتصاد الإيراني أمام السوق والاستثمارات العالمية، في وقت أن مجرد سلوك طريق المفاوضات مع أميركا من دون عقبات داخلية كبرى يؤشر إلى ميزان القوى في الداخل الإيراني على اعتبار أن الشرائح التي ترى مصلحة في انفتاح السوق الإيرانية على العالم غالبة على الشرائح التي تريد الإبقاء على اقتصاد العقوبات للحفاظ مصالحها. وهذا مؤشر أساسي لفهم الاستعداد الإيراني لسلوك مسارات سياسية واقتصادية جديدة ومن ضمنها كيفية التعامل مع ملفات المنطقة.
وهو استعداد غير مسبوق إذا ما قيس على ظروف المفاوضات في زمن الرئيس باراك أوباما، إذ كانت إيران مختلفة عما هي عليه اليوم بالنظر إلى أنها كانت وقتذاك قوة إقليمية صاعدة وصدامية بدءا من العراق إلى سوريا ولبنان واليمن. كذلك فإن قابلية إيران الآن لإعادة تركيب مكتسابتها وتنازلاتها أكبر منها في زمن الرئيس جو بايدن الذي وصف بالمتساهل مع طهران.
كما أن المنحى الجديد الذي يسلكه الخطاب الإيراني العام، بدءا من كلام المرشد علي خامنئي في 24 أبريل/نيسان والذي غلب السلام وضبط النفس، وكذلك ضبط الخطاب الإعلامي الذي دل عليه اعتذار التلفزيون الحكومي الرسمي على بث فقرات مسيئة لمسؤولين عرب وللخليفة الأول أبي بكر الصديق، وأخذه إجراءات تأديبية بحق معديها، يؤشر إلى أن إيران أمام تحول يمكن القول ولو ببعض الحذر أنه عميق وليس مجرد مناورة تكتيكية للتعامل مع المرحلة الراهنة.
وأيا يكن من أمر فإن ذلك كله يؤشر إلى وجود فرصة يجب الإفادة منها في مقاربة الملف الإيراني وإعادة قراءة الاحتقان الإقليمي طوال العقدين الماضيين بطريقة مختلفة تنطلق من ضرورة تجاوز هذا الاحتقان بكل تداعياته السياسية والإعلامية والدخول في معالجات جدية لهذا الملف الشائك والذي توسع كثيرا ليشمل مقاربات تاريخية واجتماعية عن العلاقات العربية-الإيرانية كانت بغالبها مدفوعة بواقع الاحتقان السياسي والأمني السائد.