لم يمض بعد سوى بضعة أشهر على عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، غير أن تأثيره على السياسة الدولية كان تأثيرا هائلا. فالنهج الذي اتبعه في معالجة حرب أوكرانيا وأوروبا وغزة، وكذلك إعلانه عن الرسوم الجمركية الاستثنائية، وما تلاها من تراجع جزئي عنها، قد هز بشدة صورة الولايات المتحدة لدى الحلفاء والمنافسين والمستثمرين. وفيما ترى إدارة ترمب وأنصارها في هذه الإجراءات تعزيزا لمكانة الولايات المتحدة العالمية، يؤكد منتقدوها أن العكس هو الصحيح. وعلى الرغم من أن رئاسة ترمب الثانية لا تزال في بدايتها، فإن سؤالا حادا حول ما إذا كانت تغفل فعلا عن أخطاء استراتيجية جيوسياسية ضخمة، ستضعف الولايات المتحدة على الأمد البعيد؟
في لعبة التنس وغيرها من الألعاب الرياضية، هناك أخطاء تسمى "أخطاء سوء التقدير" وهي تأتي من اللاعب نفسه، لا من جهود خصومه. والشيء نفسه ينطبق على الشؤون الجيوسياسية، والتاريخ حافل بمثل هذه الأخطاء، حيث تتخذ الحكومات من تلقاء نفسها، لا بدفع من قوى خارجية، قرارات سيئة، تؤدي إلى انتكاسات وحتى إلى كوارث كبيرة.
وللولايات المتحدة نصيب غير قليل من هذه الأخطاء، وآخرها كان غزو العراق عام 2003. إذ يتفق معظم المؤرخين على أن استهداف صدام حسين، وقع بمحض اختيار الإدارة الأميركية، ولم يكن مفروضا عليها. فقد كان كافيا مهاجمة طالبان لاستضافتها تنظيم "القاعدة"، كرد على هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001. إلا أن الحرب أدت في نهاية المطاف إلى إضعاف موقف الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، من خلال كشفها عن حدود القوة العسكرية الأميركية، وتوفيرها منصة لإيران و"القاعدة" (كل على حدة) للتوسع والازدهار. يضاف إلى ذلك، أن صناع السياسات في الولايات المتحدة، وهم يوجهون الموارد إلى الشرق الأوسط، خلال العقد الأول من القرن الحالي، لم يولوا صعود الصين حينها سوى قدر ضئيل من الانتباه. ومع أن الولايات المتحدة دخلت العراق بوصفها القوة المهيمنة عالميا بلا منازع، فإن الحرب ساهمت بعد عقد من الزمن في ظهور عالم متعدد الأقطاب وتراجع الهيمنة الأميركية.
حملت حرب العراق في بعض نواحيها صدى تورط الولايات المتحدة في حرب فيتنام، الخطأ الاستراتيجي الأميركي السابق، والناجم عن سوء التقدير. بحلول الوقت الذي تمكن فيه ريتشارد نيكسون من سحب القوات الأميركية من جنوب شرقي آسيا، كانت مصداقية الولايات المتحدة العالمية قد ضعفت بشدة، واقتصادها تعثر، وتعرض انسجامها الاجتماعي للضرر. إلا أن واشنطن تمكنت من استعادة مكانتها العالمية، وهو ما قد يثبت أن أخطاء كهذه، ليس من الضروري أن تؤدي إلى تدهور لا رجعة عنه.
وبالتالي فإن حجم الضرر الذي يسببه الخطأ الاستراتيجي، يتوقف على السياق العالمي والمحلي. وقد ألحقت حرب العراق ضررا أكبر بالولايات المتحدة، لأنها جاءت في وقت كانت فيه الصين تشهد نموها. وعلى النقيض من ذلك، فعلى الرغم من أن الاتحاد السوفياتي، منافس الولايات المتحدة حينها في الحرب الباردة، قد حظي بتعزيز قصير الأمد خلال سبعينات القرن الماضي، فإن واشنطن تمكنت جزئيا من استعادة مكانتها العالمية، بعد حرب فيتنام، لأن موسكو نفسها بدأت في حالة انحدار منذ الثمانينات. وقد تفاقم وضع الاتحاد السوفياتي سوءا، بسبب ما اقترفه هو أيضا من خطأ مماثل من سوء التقدير، عندما غزا أفغانستان واحتلها. فأدى ذلك إلى استنزاف الموارد السوفياتية، وإلى إلحاق الضرر بالاقتصاد الذي كان يعاني أصلا، وإضعاف المكانة الدولية للاتحاد السوفياتي.
ولكن إذا نظرنا إلى الوراء، نجد أن احتلال أفغانستان قد أدى إلى تحفيز وتسريع نمط من الانحدار، كان قد بدأ من قبل، وليس إطلاقه. والأمر نفسه ينطبق على خطأ استراتيجي آخر من سوء التقدير، عندما تورطت المملكة المتحدة في أزمة السويس عام 1956. وفي وقت كانت القوة البريطانية تتراجع فيه من قبل، جاءت الأزمة في مصر لتكشفت مدى ضعف لندن، فأدى ذلك إلى تسريع تراجعها العالمي.