قراءة في أداء ترمب بعد 100 يوم في الحكم

خروج عن السياسات التقليدية

أ.ف.ب
أ.ف.ب
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يلقي كلمة في حفل التخرج بجامعة ألاباما في توسكالوسا، ألاباما، في 1 مايو 2025

قراءة في أداء ترمب بعد 100 يوم في الحكم

بين الرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت (1933-1945) والرئيس الحالي دونالد ترمب الكثير من الاختلافات، فالأول ديمقراطي ذو سياسات ليبرالية أعادت صياغة أميركا ومعنى الدولة فيها ووسعت كثيرا حجم الحكومة الفيدرالية، وأخرجتها من عزلتها كي تدخلها بقوة في الشؤون العالمية، بضمنها الدور المحوري الذي لعبته في هزيمة دول المحور في الحرب العالمية الثانية. تذهب سياسات ترمب اليمينية بالاتجاه المعاكس تماما، نحو تقليل حجم الحكومة والانعزال عن العالم، وفهم المصلحة الأميركية بوصفها خصاما مع معظم دول العالم، حتى الحلفاء منها كأوروبا الغربية وكندا.

مع ذلك يتفق الاثنان في أمر واحد: المئة يوم الأولى من حكم الرئيس لجهة إعطاء معنى حقيقي، شديد في وضوحه وأثره، لهذه الأيام. في عهد روزفلت، في رئاسته الأولى في 1933، ولد مصطلح المئة يوم الأولى من يوم تولي الرئيس مهام منصبه، وأصبح منذ ذلك الوقت عرفا سياسيا أميركيا لقياس أداء الرؤساء.

جوهر هذا العرف، كما تطور لاحقا، هو تتبع ما يمكن أن ينجزه الرئيس من أجندته السياسية في الفترة المبكرة من رئاسته عندما يكون نفوذه في أعلى درجاته، قبل أن يبدأ هذا النفوذ بالتراجع بسبب تحدي الخصوم وضغط الحلفاء بما يقلل من قدرة الرئيس على إنجاز وعوده الانتخابية وأجندته السياسية.

عندما تولى روزفلت الرئاسة كانت أميركا تعاني بشدة من وطأة الكساد الاقتصادي الكبير الذي يحيل الكثيرون بدايته إلى انهيار سوق البورصة الأميركية فيما عُرف بـ"يوم الثلاثاء الأسود"

عندما تولى روزفلت الرئاسة كانت أميركا تعاني بشدة من وطأة الكساد الاقتصادي الكبير الذي يحيل الكثيرون بدايته إلى انهيار سوق البورصة الأميركية فيما عُرف بـ"يوم الثلاثاء الأسود" (29 أكتوبر 1929). وقد تُرجم هذا الانهيار بإفلاس المصارف التي لم تستطع دفع أموال المودعين المرتعبين من انهيار البورصة فسارعوا لسحب هذه الودائع من المصارف لتمتد الآثار إلى كامل الاقتصاد الأميركي: بطالة عالية وقلة إنفاق وتراجع الطلب على البضائع وإغلاق المصانع والشركات.

غيتي
فرانكلين د. روزفلت (1882-1945)، رئيس الولايات المتحدة الأميركية (1933-1945)

وفي خلال المئة يوم الأولى من رئاسته، ولمواجهة الركود الذي شل البلاد، أصدر روزفلت نحو مئة أمر رئاسي تنفيذي ودعا الكونغرس إلى جلسة انعقاد خاصة مفتوحة استمرت ثلاثة أشهر مرّرَ فيها الأخير أكثر من 75 قانونا، بينها 15 قانونا مهماً، بعضها له أثر عابر للأجيال ومؤثر حتى يومنا هذا، مثل قانون ضمان الودائع المصرفية (أعاد ثقة الناس بالمصارف لإيداع أموالهم فيها عبر ضمان الحكومة دفع هذه الودائع إذا عجزت المصارف عن دفعها)، وقانون الضمانات المتعلق بالبورصة (أعاد تنظيم البورصة وألزم الشركات بتقديم معلومات صحيحة للمستثمرين في البورصة) وقانون التعديل الزراعي (وفر الدعم للمزارعين للعودة للإنتاج المربح) وقانون المساعدة الفيدرالية الطارئة (قَدَمت مساعدات مالية للعاطلين عن العمل والمحتاجين). وضعت هذه القوانين البرلمانية والأوامر الرئاسية أميركا على طريق التعافي، الذي استمر سنوات، من أسوأ أزمة اقتصادية مرت بها في حياتها حتى الآن. 

عندما تولى روزفلت الرئاسة كانت أميركا تعاني بشدة من وطأة الكساد الاقتصادي الكبير الذي يحيل الكثيرون بدايته إلى انهيار سوق البورصة الأميركية فيما عُرف بـ"يوم الثلاثاء الأسود"

كان روزفلت أول رئيس أميركي يستخدم مصطلح المئة يوم، وذلك في خطاب راديوي له في يوليو/تموز 1933، بعد انتهاء هذه الفترة التي استمرت بين بداية مارس/آذار ومنتصف يونيو/حزيران، وذلك قبل تغيير يوم تنصيب الرئيس من الرابع من مارس إلى الموعد الحالي العشرين من يناير بحسب التعديل الدستوري رقم 20 في عام 1932 (الذي دخل حيز التنفيذ في 1937). توقف في هذا الخطاب عند ما تم إنجازه في هذه الفترة.

أكثر من 140 أمرا تنفيذيا

منذ روزفلت، لم يستطيع أي رئيس أميركي أن ينافس الرجل أو يتفوق عليه في حجم التغييرات التي أدخلها في إدارة البلد إلا ترمب. في خلال المئة يوم الأولى في رئاسته الثانية، أصدَرَ الأخير أكثر من 140 أمرا رئاسيا تنفيذيا، كان جوهرها إلغاء سياسات ديمقراطية سابقة في سياق تنفيذ وعود كثيرة أطلقها في أثناء حملته الانتخابية. تضمنت هذه الوعود قضايا ثقافية واقتصادية وسياسية وأخرى متعلقة بالهجرة.

كان الرجل عموما وفيا لجمهوره إذ سارع منذ اليوم الأول لتنفيذ الجانب الأسهل من هذه الوعود بإلغاء ما يُعرف ببرامج "التنوع والقبول والمساواة"، وهي مجموعة من الجهود الاتحادية التي بدأت، في سياقات مختلفة، منذ الستينات وتهدف إلى دعم الجماعات الأقل تمثيلا في الوظائف والأنشطة الفيدرالية والحيز العام والأكثر تعرضا للتمييز، كالنساء والسود واللاتينيين والفقراء والأقليات الدينية والمعوقين والمثليين والمتحولين جندريا. كما كانت الهجرة، التي تعتقد أوساط إدارة ترمب أن موقفها المتشدد بخصوصها كان عاملا أساسيا، أكثر حتى من الاقتصاد، في تحقيق فوزها الانتخابي في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، حاضرة بقوة في الإجراءات المبكرة للإدارة من خلال إعلانها حالة الطوارئ لمواجهتها كمشكلة استثنائية تحتاج حلا سريعا ومؤثرا.

بالاستفادة من قانون حالات الطوارئ الوطنية لعام 1976، يحق للرئيس اعتبار مشكلة ما، داخلية أو خارجية، على أنها حالة طوارئ ما يمكنه من الحصول على صلاحيات استثنائية كبيرة للتعامل مع هذه المشكلة. بخصوص موضوع الهجرة، عنى هذا استخدام الإدارة القوات المسلحة الأميركية وقوانين مختلفة، بعضها قديم، مخصصة لحالات لا تتعلق بالهجرة مثل قانون الغرباء الأعداء لعام 1798 لترحيل نحو 142 ألف شخص خلال المئة يوم الأولى، بينهم طلاب ومهاجرون دخلوا الولايات المتحدة بشكل قانوني (يُقدر عدد المهاجرين غير الرسميين في البلاد بين 11 و12 مليون شخص).

تُواجه عمليات الترحيل هذه بموجة اعتراضات قوية من جمعيات حقوقية تعتبرها، على نحو صحيح عموما، غير دستورية

تُواجه عمليات الترحيل هذه بموجة اعتراضات قوية من جمعيات حقوقية تعتبرها، على نحو صحيح عموما، غير دستورية وتخالف القوانين الأميركية النافذة وقرارات المحكمة الاتحادية العليا، لأن هذه العمليات لم تصدر بأوامر قضائية، وإنما بأوامر تنفيذية تقع خارج اختصاص هذه الأخيرة. يشير الدستور الأميركي في مواضع مختلفة فيه إلى حق كل شخص، مُتهم بجرم ما، بما يُعرف بالمرور بالعملية القانونية الصحيحة (due process)، أي حق هذا الشخص في المثول أمام محكمة يدافع فيها عن نفسه، عبر محام إذا شاء، قبل إصدار حكم بحقه، براءة أو إدانة، وحقه أيضا في استئناف حكم الإدانة وتمييزه وصولا إلى أعلى محكمة في البلد، المحكمة العليا. في هذا السياق المتعلق بالهجرة، ينبغي أن يتضمن حكم الإدانة ترحيلَ المُدان، أي لا ترحيل من دون حكم قضائي بات، إلا في حالات استثنائية محدودة نص عليها القانون. تختفي كل هذه الإجراءات في عمليات الترحيل التي تقوم بها إدارة ترمب على نحو واسع. 

على الصعيد الاقتصادي، سارع ترمب أيضا إلى تنفيذ وعده الانتخابي بفرض تعريفات جمركية عالية على بضائع دول كثيرة، خصوصا على الصين، وعلى السيارات المستوردة من خارج أميركا. تضمنت هذه زيادة تعريفية أساسية بنسبة 10 في المئة بإزاء كل الدول التي تستورد أميركا منها شيئا ما، وزيادات إضافية تتراوح بين 17 و32 في المئة ضد دول كثيرة كالمكسيك وكندا والاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان والهند.

بعدها بأيام، أعلن ترمب تجميد معظم هذه التعريفات لمدة 90 يوما، باستثناء المفروضة على الصين التي ازدادت. كان هذا التجميد، المصحوب باحتمالات التفاوض لتجنب إعادة فرض هذه التعريفات، تراجعا لافتا ونادرا من إدارة ترمب المعروفة بإصرارها الذي يصل أحيانا حد العناد، بسبب الضغوط الهائلة التي تعرضت لها من حلفاء وأصدقاء في عالم الاستثمار والاقتصاد بعد الخسارات الكبيرة والمتواصلة التي شهدتها البورصة في الأيام التالية لإعلان الزيادات التعريفية في الرابع من أبريل.

زادت هذه الخسارات من احتمالات حصول ركود اقتصادي وأثارت القلق بخصوص ارتفاع شبه مؤكد في أسعار المواد الاستهلاكية والصناعية لأن التعريفات الجمركية المتصاعدة عادة ما يدفعها المستهلكون وليس المُصدِّرون، وهي البديهة الاقتصادية التي تصر إدارة ترمب على تجاهلها في العلن، برغم التحذيرات الكثيرة من مختصين وخبراء بهذا الصدد. وقد وعدَ ترمب في أثناء حملته الانتخابية بتخفيض أسعار المواد الاستهلاكية التي شهدت ارتفاعا كبيرا على مدى السنوات القليلة الماضية كنتيجة للتضخم المالي الكبير الناشئ عن التعاطي مع آثار وباء كورونا، إذ اضطرت الحكومة الاتحادية لتقديم معونات مالية هائلة لمساعدة عوائل الذين فقدوا أعمالهم أو توقفوا عنها في أثناء تفشي الوباء (نحو خمسة تريليونات دولار). بدلا من تخفيض أسعار المواد الاستهلاكية، المرتفعة أصلا، الذي لم تحققه إدارة ترمب، تقود زياداتها التعريفية إلى المزيد من ارتفاع هذه الأسعار، ما يقوض الدعم الشعبي للإدارة ويعرض الجمهوريين لاحتمالات خسارة مؤكدة ومؤلمة في الانتخابات النصفية للكونغرس في نوفمبر 2026.

يثير تراجع ترمب عن زيادة التعريفات الذي يمكن أن يصبح دائما بعد انقضاء فترة الثلاثة أشهر، مفارقة كبرى لفريق ترمب قد تفضي إلى التنصل من وعد انتخابي رئيس لجزء مهم من قاعدة ترمب الشعبية: عمال المصانع، من البيض غالبا، من دون شهادات جامعية، الذين فقدوا أعمالهم بسبب قيام شركات أميركية كثيرة بنقل مصانعها إلى دول آسيوية وأميركية لاتينية كلف الإنتاج فيها منخفضة.

أ.ف.ب
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يرقص بعد إلقاء كلمة التخرج في جامعة ألاباما في توسكالوسا، ألاباما، في 1 مايو 2025

تقوم استراتيجية زيادة التعريفات الجمركية على زيادة كلف الإنتاج على هذه الشركات لدفعها للعودة إلى الولايات المتحدة وتشغيل العاطلين الأميركيين. يحاجج اقتصاديون أنه يمكن لهذه الاستراتيجية أن تنجح، لكن ليس على المدى القصير، بل على المديين المتوسط والبعيد، إذ تحتاج إعادة توجيه الاستثمارات وبناء المصانع عملا كثيرا ووقتا طويلا يستغرق بضع سنوات. في هذه الأثناء، على المدى القصير، سيكون على الأميركيين العاديين تحمل أسعار عالية للسلع الاستهلاكية والصناعية ما قد يؤدي إلى تقويض سيطرة الجمهوريين الحالية على البيت الأبيض والكونغرس، بمجلسيه النواب والشيوخ. على الأكثر، لن يكون بمقدور ترمب حل هذا التناقض البنيوي، عبر الحفاظ على وعوده الانتخابية المتناقضة: تخفيض أسعار المواد الاستهلاكية، وزيادة التعريفات الجمركية وإعادة المصانع لأميركا.

ملف السياسة الخارجية

مع ذلك تبقى السياسة الخارجية سجلَ الفشل الأوضح لترمب، بنهاية مئة يومه الأولى، فمثلا لم يتحقق شيء من وعده، المستحيل في أصله، بإنهاء الحرب الروسية-الأوكرانية خلال 24 ساعة، حتى قبل توليه الرئاسة بحسب ادعاء ترمب في أثناء حملته الانتخابية. بعد أشهر من محاولات الوساطة بين روسيا وأوكرانيا والضغط المتواصل وغير المتساوي عليهما، يبدو الطرفان بعيدين جدا عن وقف دائم لإطلاق النار يريده الرئيس الأميركي بشدة، تمهيدا لتفاوض يقود لإنهاء الحرب رسميا. كما أن حرب غزة التي فاخر ترمب بأنه توصل لوقف إطلاق النار فيها بين "حماس" وإسرائيل قبل توليه منصبه الرئاسي، تعود على شكل حرب ضروس في القطاع يسقط فيها ضحايا فلسطينيون بسبب القصف الإسرائيلي من دون تغطية إعلامية حقيقية أو اهتمام سياسي أميركي بإيقافها أو بالذهاب إلى تفاوض ينهي حالة الحرب (في الحقيقة، وبعكس إدارة بايدن، أطلقت إدارة ترمب يد إسرائيل في قطاع غزة لفعل ما تريد كما في تضييقها دخول المساعدة الإنسانية لسكانه الفلسطينيين).

حل الملف النووي الإيراني سلميا يبدو النقطة الواعدة الوحيدة في سجل السياسة الخارجية الترمبية، إذ تقترب إدارة الرجل، بعد نهاية المئة يوم الأولى من حكمه، من الوصول إلى حل تفاوضي مع إيران بخصوص هذا الملف الصعب، لكن النجاح لا يزال غير مؤكد أو مضمون بهذا الصدد.

حل الملف النووي الإيراني سلميا يبدو النقطة الواعدة الوحيدة في سجل السياسة الخارجية الترمبية، إذ تقترب إدارة الرجل، بعد نهاية المئة يوم الأولى من حكمه، من الوصول إلى حل تفاوضي مع إيران

بخلاف روزفلت الذي استطاع قبل نحو تسعين عاما حشد تأييد الكونغرس من جمهوريين وديمقراطيين، لتشريع عدد كبير من القوانين في خلال مئة يومه الأولى في المنصب، لم تكن حصة إدارة ترمب في فترتها المماثلة إلا خمسة قوانين وقعها ترمب بعد تصويت الكونغرس عليها، وهو ما يعد أقل عدد قوانين يوقعها رئيس أميركي في التاريخ الحديث في الأيام المئة الأولى، منذ عهد روزفلت.

ويشير شح القوانين التي مررها الكونغرس والزيادة الاستثنائية في عدد الأوامر الرئاسية التي أصدرها ترمب إلى الأزمة الحقيقية التي تواجهها أميركا إذا تواصل نهج المئة يوم الأولى الخلافي: انقسام سياسي واجتماعي خطير في البلد لا يستطيع في ظله الحزبان الرئيسان، الجمهوري والديمقراطي، العمل معا لإنجاز القوانين الضرورية والمفيدة للصالح العام. مصدر هذه الأزمة هو الخلاف الأيديولوجي الشديد بخصوص معنى الصالح العام. في 1933، استطاع روزفلت تعريف الصالح العام بسهولة والتف حول تعريفه هذا الديمقراطيون وعدد كبير من الجمهوريين فضلا عن المجتمع الأميركي. النتيجة كانت الإنجاز الكبير، الذي عُرف بالصفقة الجديدة "The New Deal" التي افتخر بها الأميركيون وازدهرت عبرها بلادهم على مدى عقود طويلة تالية، أي حزمة الإصلاحات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي جددت العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع في أميركا. بالعكس من أجندة "الصفقة الجديدة"، تبذر أجندة "لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى" التي يتبناها ترمب بذور انقسام عميق في أميركا، لن تكون نتيجته على الأغلب فخرا أميركيا مستقبليا. 

font change