الهويات المتقاطعة في 3 معارض نيويوركية

عوالم جوزن زورن وشريف فرج وإيمي شيرالد

Installation view, John Zorn: Hermetic Cartography, The Drawing Center, New York, February 7 – May 11, 2025. Photo: Daniel Terna
Installation view, John Zorn: Hermetic Cartography, The Drawing Center, New York, February 7 – May 11, 2025. Photo: Daniel Terna
جانب من معرض "الخرائط الهرمسية" في مركز الرسم في سوهو

الهويات المتقاطعة في 3 معارض نيويوركية

لا تعتبر نيويورك العاصمة الأولى للفنون الحديثة والمعاصرة في العالم لكثرة متاحفها وصالات العرض فيها فحسب، بل لأنها المدينة الأكثر انفتاحا على الجديد المغامر والمتمرد والذاهب إلى الأقاصي في تحولاته. ولأن إيقاعها سريع إضافة إلى أنها لا تملك وقتا للالتفات إلى الوراء، فإن مَن يرغب في رؤية العدد الأكبر من المعارض المتحركة في وقت مضغوط لا بد أن يضحي بعاداته في زيارة المتاحف ورؤية الأعمال الفنية ذات التأثير الفني التاريخي لكي يرى ما يمكن رؤيته من تجارب فنية حديثة أميركية أو آتية من مختلف أنحاء العالم، على الرغم من أن طاقة المرء على التذوق والاستيعاب والتماهي الجمالي تظل محدودة فهي تصل إلى درجة معينة لتتوقف عن العمل.

في زيارتي الأخيرة لنيويورك، تنقلت كثيرا بين سوهو وتشيلسي باعتبارهما أكثر المناطق اكتظاظا بالقاعات الفنية، فكنت أقف دائما أمام مفاجأة تعيد الثقة بما صار يسمى فنا تقليديا، والمقصود به "الرسم والنحت" وما جاورهما أو نتج منهما كالنحت الفخاري على سبيل المثل. ومن تلك المفاجآت معرض الفنان شريف فرج، أما الإثنان الآخران فهما الأميركيان جون زورن وإيمي شيرالد. الأول موسيقي مشهور لم يقم معرضا لرسومه المقتضبة إلا بعد أن تجاوز السبعين من عمرة، أما الثانية فقفزت أسعار لوحاتها من 300 دولار إلى أربعة ملايين دولار ولا أملك تفسيرا لتلك النقلة التي صنعتها المزادات.

جون زورن والموسيقى المرسومة

مَن لا يعرف جون زورن فإنه كمَن لا يعرف شيئا عن الموسيقى الأميركية الحديثة. زورن هو واحد من أهم رواد المشهد الموسيقي الطليعي والتجريبي في نيويورك، فهو ليس موسيقيا عاديا بل يُنظر إليه باعتباره مخترعا من خلال ابتكاراته الجذرية في الموسيقى. في الوقت نفسه كان زورن يرسم ويخفي رسوماته كأنها جزء من عالمه السري. ومَن يطلع على رسومه الورقية في معرضه "الخرائط الهرمسية" الذي يقيمه في مركز الرسم في سوهو، لا بد أن يصبح على يقين من أن ممارسة الرسم بالنسبة الى زورن ليست هواية بل تقع في جوهر عملية الخلق الفني التي مارسها الفنان عبر أكثر من نصف قرن. بعد اعجابي الشديد برسومه التي ذكرني البعض منها برسوم الفنان العراقي شاكر حسن آل سعيد (1925 ــ 2004) المولع مثل زورن بالتصوف، ندمت لأنني لم أستمع من قبل لموسيقاه قبل أن أرى رسومه.

ممارسة الرسم بالنسبة الى زورن ليست هواية بل تقع في جوهر عملية الخلق الفني التي مارسها الفنان عبر أكثر من نصف قرن

يعين زورن المتلقي على التعرف الى شخصيته، فما أن دخلت إلى صالة العرض في مركز الرسم في سوهو حتى قلت لنفسي وأنا في أقصى حالات التأثر الروحي والإثارة البصرية "هذا الرسام موسيقي بالتأكيد"، كما أنه زار اليابان أو عاش فيها. وقد سبق له أن تعرف الى تجربة الشاعر الفرنسي هنري ميشو في التبقيع بالحبر الصيني. تأكدت من المعلومتين الأوليين، غير أن المعلومة الثالثة ظلت تعبر عن رأي شخصي لا سند تاريخييا أو نقديا له. في رسومه هناك الكثير من الارتجال المرتبط بمزاج اليد وهي تسابق خيالها. حساسية خطوطه ورهافتها تقترحان لغة خاصة بالفنان، هي لغة باطنية يمكن أن تشكل الإشارات والرموز مفردات أبجديتها. المنطقة التي يشتغل فيها زورن هي أكثر المناطق التي يكشف فيها الخط عن بذخه الاسطوري على الرغم من أنه يبدو متقشفا وزاهدا بحضوره.

Installation view, John Zorn: Hermetic Cartography, The Drawing Center, New York, February 7 – May 11, 2025. Photo: Daniel Terna
جانب من معرض "الخرائط الهرمسية" في مركز الرسم بسوهو

كتب زورن ذات مرة "أصبحت الأشياء بالنسبة إلي أشبه بأصوات مصمتة، أشكال، قوام، ألوان، تواريخ مختلفة، ترتب على طريقة موسيقية". كان يتحدث عن الموسيقى ولكن تلك المقولة تصلح للتعرف اليه رساما. أحساسه المرهف بالخطوط المشدودة يوحي بحالة من التوتر، يعيشها المتلقي كما عاشها الرسام قبله في انتظار ولادة صورة تحس ولا ترى. نوع من النشوة التي تصبح أسلوبا في النظر. وهو أسلوب يمزج ما بين المتعة البصرية التي يخلقها النظر المباشر وبين تزود موسيقى لا تزال في مرحلة الإيحاء. تدفع بنا رسوم زورن إلى مناطق نقية من حساسية، ما كنا نتوقع أننا نتمتع بها. يستدرجنا الفنان بمرح لنشاركه لعبته التجريبية وهي لعبة سبق له أن مارسها في الموسيقى حيث تشكل المصادفة عنصرا أساسيا في الإبتكار.  

جون زورن الرسام لا ينفصل عن زورن الموسيقي ولا يكمله. بل يشكل كلاهما عنصري جدل تتشبث بهما أنا الفنان المجهولة من أجل أن يستقل عملها الفني عنها ويعيش حياته الخاصة منفصلا عن مرجعياته. ذلك ما كان يفعله الموسيقي والفنان المعاصر النيويوركي هو الآخر جون كيج الذي تأثر به زورن كثيرا.   

Installation view, Sharif Farrag: Hybrid Moments, Jeffrey Deitch, New York, March 8-April 19, 2025.Photoby Genevieve Hanson. Courtesy of the artist and Jeffrey Deitch, New York
جانب من معرض "لحظات هجينة"

شريف فرج من الديناصور إلى السيارة

"لحظات هجينة" هو عنوان المعرض الذي يقيمه الفنان المصري شريف فرج (1993 كاليفورنيا) في قاعة "ديفري جايتش" في سوهو. يشرح فرج عنوان معرضه بطريقة يغلب عليها الطابع الأسطوري فيقول: "الشيطان مخلوق من نار، والإنسان مخلوق من طين، أما الخزف فهو مزيج من الاثنين", هكذا ضرب فرج عصفورين بحجر واحد. شرح لنا ما معنى أن يكون الشيء هجينا، وهو في المقابل قدم تعريفا مبسطا للخزف، يمكن أن يساعدنا في فهم ما الذي يعنيه فن "النحت الفخاري".

يقدم فرج نفسه باعتباره شخصا يعيش حياة هجينة. ولكن ما نراه في أعماله هو الأكثر تعبيرا عن الحالة الهجينة التي يعيشها عالمنا المعاصر

ذلك فن يمزج بين النحت والخزف. ومَن يعمل عليه يمكن أن يكون نحاتا وخزافا في الوقت نفسه. وهو اختراع أنقذ الخزف من الاهمال المتعمد بعد استبعاده من الفنون التشكيلية التي جرى حصرها بالرسم والنحت والعمارة. الخزاف صار نحاتا بالطين المفخور طبعا. نلك جزئية علينا أن ننساها ونحن ندخل إلى عالم شريف فرج الذي يصف نفسه بأنه "طفل البعد الرابع". وإذ ينتمي الفنان إلى عائلة، الأم فيها سورية فيما الأب مصري، فإنه يمزج بحكم ترببيته وحاضنته الاجتماعية بين التراث العربي وثقافة البوب التي أحاطت به في سن مبكرة. في هذا المعنى، يقدم نفسه باعتباره شخصا يعيش حياة هجينة. ولكن ما نراه في أعماله هو الأكثر تعبيرا عن الحالة الهجينة التي يعيشها عالمنا المعاصر وهو يتأمل نفسه في مرآة أساطيره القديمة أو التي لا تزال تمارس سلطتها من خلال التقنيات الحديثة. يجمع فرج في أعماله بين عالمين، عالم يومي يعبر عن وجوده بأدواته وعالم اسطوري كما لو أنه يستعاد في لحظة إلهام. 

Photo by Genevieve Hanson. Courtesy of the artist and Jeffrey Deitch , New York
جانب من معرض "لحظات هجينة"

أعمال فرج بأصباغها الزاهية وأشكالها المتداخلة التي يمكن أن ترى من الجهات الأربع يتطلب النظر إليها نوعا من دقة الملاحظة. من غيره، يصبح التعامل البصري مع كل قطعة على حدة أمرا بالغ التعقيد. أجزاء كثيرة لا يمكن ملاحظتها إلا بعد المشاهدة المتكررة. ولو تأكدنا من أن الفنان يجمع بين أمكنة وأزمنة متباعدة ومختلفة في العمل الواحد، حينها يمكننا أن نكتشف أن معالجاته فيها الكثير من الخفة والمزاح والدعوة إلى تقبل ما تنطوي عليه الحياة من فوضى.

يقول فرج: "في أعمالي، لا تنبثق الرموز والمواضيع من عقلي فحسب، بل أيضا من عملية استخدام الطين. وباتباع نهج مبالغ فيه، أدمج الأفكار العظيمة مع القصص اليومية التي أواجهها"

أفكار وحكايات ووقائع وأشياء كلها مستعارة من الواقع لكن لا تجد طريقها إلى أعمال شريف فرج إلا بعد أن تمر بمنطقة هي أشبه بشاشة الحلم، بحيث يختلط عصر الديناصورات بعصر السيارات وتأخذ الحياة طابعا طفوليا. وعلى مستوى تقني تندمج تقاليد الحرفة لدى فناني الخزف الشعبي بتقاليد الرسم الأوروبي الحديث.  

Installation view of Amy Sherald: American Sublime (Whitney Museum of American Art, NewYork, April9 August10,2025). PhotographbyTiffanySage/BFA.com. ©BFA2025
جانب من معرض "سامية أميركية" في متحف "ويتني"

إيمي شيرالد والناقص من الواقع

تنضم إيمي شيرالد (من مواليد 1973 كولومبوس، جورجيا) إلى سلسلة رسامي الواقعية الأميركية الذين يقف في مقدمتهم إدوارد هوبر (1882 ــ 1967). وليست مصادفة أنها تقيم معرضها "سامية أميركية" في متحف "ويتني" الذي يضم أهم أعمال هوبر وأكثرها شهرة. لكن شيرالد الكلاسيكية بطبعها وبحكم تربيتها الفنية تعمل في مساحة لم يكن الواقعيون الأميركيون اقتربوا منها وهي المساحة التي تعيش فيها فئة لطالما تعرضت للإهمال حين اكتفى هوبر وأتباعه بتسليط الضوء على حياة الأميركيين البيض في محاولة لرسم صورة عن الشخصية الأميركية.

تتعمد شيرالد خلق نوع من الحوار بين الشخصيات التي ترسمها وزوار معرضها الذي يكفون عن مقاومة ذلك التأثير ويستسلمون لإرادة يقع سرها في ذلك الانسجام الداخلي

ترسم شيرالد الأميركيين من أصل أفريقي لتقول إن المشهد الواقعي كان ناقصا وإن الحديث عن هوية أميركية بيضاء لا يمت إلى الواقع بصلة. ذلك الإعلان، على أهميته، ليس العنصر الذي يكسب أعمال شيرالد أهميتها الاستثنائية بحيث يقبل متحف عريق على إقامة معرض شخصي لها ويتبنى منسقوه أعمالها. صحيح أن مشروعها الفني يقوم أصلا على جملة لطالما رددتها "روعة أن تكون أميركيا أسود"، غير أنها إضافة إلى موهبتها الكبيرة وتمكنها العالي من الحرفة، تملك خيالا واسعا أهّلها لإبراز السلام الداخلي الذي تتمتع به الشخصيات التي رسمتها وقدرتها على إثبات قوتها وهي تخلق تاريخا موازيا. وعلى الرغم من أن شيرالد ترسم شخصيات محددة تنتمي إلى محيطها وتثير أعجابها، غير أن ذلك لم يجعلها أسيرة لمحدودية الصور الشخصية التقليدية. اعتبرت شيرالد راوية قصص. كل شخصية ترسمها هي جزء من سرد طويل عن نوع بعينه من الحياة الأميركية. ومنذ اللوحة الأولى في معرضها يشعر المتفرج بأنه يدخل إلى عالم فيه الكثير من الوقائع الآسرة بغرائبيتها وعمق اتصالها بالحكايات.    

Installation view of Amy Sherald: American Sublime (Whitney Museum of American Art, NewYork, April9 August10,2025). PhotographbyTiffanySage/BFA.com. ©BFA2025
جانب من معرض "سامية أميركية" في متحف "ويتني"

حين ترسم زوجا وزوجة تقول: "أبحث عن توأم روح". تفسر شيرالد ذلك من طريق الإيحاء بقوة التأثير التي تنطوي عليها علاقة إنسانية تشكل الدافع إلى الرسم "لا أعرف كيف أصف ذلك حقا. إنه مليء بالطاقة. أعتقد أن لديهم نوعا من الثقل في أرواحهم، كما لو كانوا هنا من قبل"

تتعمد شيرالد خلق نوع من الحوار بين الشخصيات التي ترسمها وزوار معرضها الذي يكفون عن مقاومة ذلك التأثير ويستسلمون لإرادة يقع سرها في ذلك الانسجام الداخلي الذي هو مبعث كل شعور بالتناغم. يقول الزائر لنفسه حين تقع عينه على إحدى تلك الشخصيات "كأنني التقيتها من قبل أو في حياة أخرى". ذلك هو عنوان صداقة خلقت ايمي شيرالد منها مشروعا فنيا.

font change

مقالات ذات صلة