لا تعتبر نيويورك العاصمة الأولى للفنون الحديثة والمعاصرة في العالم لكثرة متاحفها وصالات العرض فيها فحسب، بل لأنها المدينة الأكثر انفتاحا على الجديد المغامر والمتمرد والذاهب إلى الأقاصي في تحولاته. ولأن إيقاعها سريع إضافة إلى أنها لا تملك وقتا للالتفات إلى الوراء، فإن مَن يرغب في رؤية العدد الأكبر من المعارض المتحركة في وقت مضغوط لا بد أن يضحي بعاداته في زيارة المتاحف ورؤية الأعمال الفنية ذات التأثير الفني التاريخي لكي يرى ما يمكن رؤيته من تجارب فنية حديثة أميركية أو آتية من مختلف أنحاء العالم، على الرغم من أن طاقة المرء على التذوق والاستيعاب والتماهي الجمالي تظل محدودة فهي تصل إلى درجة معينة لتتوقف عن العمل.
في زيارتي الأخيرة لنيويورك، تنقلت كثيرا بين سوهو وتشيلسي باعتبارهما أكثر المناطق اكتظاظا بالقاعات الفنية، فكنت أقف دائما أمام مفاجأة تعيد الثقة بما صار يسمى فنا تقليديا، والمقصود به "الرسم والنحت" وما جاورهما أو نتج منهما كالنحت الفخاري على سبيل المثل. ومن تلك المفاجآت معرض الفنان شريف فرج، أما الإثنان الآخران فهما الأميركيان جون زورن وإيمي شيرالد. الأول موسيقي مشهور لم يقم معرضا لرسومه المقتضبة إلا بعد أن تجاوز السبعين من عمرة، أما الثانية فقفزت أسعار لوحاتها من 300 دولار إلى أربعة ملايين دولار ولا أملك تفسيرا لتلك النقلة التي صنعتها المزادات.
جون زورن والموسيقى المرسومة
مَن لا يعرف جون زورن فإنه كمَن لا يعرف شيئا عن الموسيقى الأميركية الحديثة. زورن هو واحد من أهم رواد المشهد الموسيقي الطليعي والتجريبي في نيويورك، فهو ليس موسيقيا عاديا بل يُنظر إليه باعتباره مخترعا من خلال ابتكاراته الجذرية في الموسيقى. في الوقت نفسه كان زورن يرسم ويخفي رسوماته كأنها جزء من عالمه السري. ومَن يطلع على رسومه الورقية في معرضه "الخرائط الهرمسية" الذي يقيمه في مركز الرسم في سوهو، لا بد أن يصبح على يقين من أن ممارسة الرسم بالنسبة الى زورن ليست هواية بل تقع في جوهر عملية الخلق الفني التي مارسها الفنان عبر أكثر من نصف قرن. بعد اعجابي الشديد برسومه التي ذكرني البعض منها برسوم الفنان العراقي شاكر حسن آل سعيد (1925 ــ 2004) المولع مثل زورن بالتصوف، ندمت لأنني لم أستمع من قبل لموسيقاه قبل أن أرى رسومه.