سوريا وإسرائيل و "خط 7 ديسمبر"

دمشق كانت تطالب تل أبيب سابقا بـ"العودة إلى خط 4 يونيو 1967" وأن المطلب الأولي حاليا هو عودة إسرائيل إلى "خط 7 ديسمبر 2024"

سوريا وإسرائيل و "خط 7 ديسمبر"

استمع إلى المقال دقيقة

بعد سلسلة تسريبات عن اتصالات سورية–إسرائيلية بوسائل عدة ومن عواصم مختلفة، أكد الرئيس أحمد الشرع بعد لقائه نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون في باريس، وجود "مفاوضات غير مباشرة" بين دمشق وتل أبيب لـ"تهدئة الأوضاع وعدم خروج الأمور عن السيطرة".

بالفعل، بات بحكم المؤكد أن الأسابيع الماضية شهدت سلسلة وساطات شارك فيها رجال أعمال وباحثون ومسؤولون أميركيون. وتتراوح التوقعات بين بحث إجراءات محددة لمنع الصدام العسكري وانضمام سوريا إلى "الاتفاقات الإبراهيمية".

لكن على ماذا تفاوضت سوريا وإسرائيل سابقا؟

لا بد من خلفية تاريخية، تفيد بأن مفاوضات ولقاءات كثيرة جرت في العقود الماضية قبل نكبة فلسطين في 1948 وبعدها في مفاوضات الهدنة، إضافة إلى لقاءات لاحقة في عهد أديب الشيشكلي. كما وقّعت سوريا وإسرائيل اتفاق فك الاشتباك في 1974 بعد أشهر من "حرب أكتوبر" في 1973.

المرحلة الأهم في المفاوضات السورية-الإسرائيلية كانت برعاية أميركية بعد انعقاد مؤتمر مدريد في 1991، التي استمرت إلى فبراير/شباط 2011، أي بعد اندلاع الاحتجاجات السورية. وفي عقد التسعينات كانت المفاوضات تتركز على مبدأ "الأرض مقابل السلام"، أي انسحاب إسرائيل من هضبة الجولان المحتلة في يونيو/حزيران 1967 مقابل موافقة سوريا على إقامة علاقات سلمية عادية وتبادل دبلوماسي وتجاري.

لكن في العقد الأول من حكم بشار الأسد وبعد انحيازه الكبير نحو إيران و"حزب الله"، باتت المقايضة، "الأرض مقابل التموضع الإقليمي"، أي استعادة الجولان مقابل تخلي دمشق عن تحالفها مع طهران و"حزب الله". وقال الوسيط الأميركي فريد هوف إن بشار الأسد وافق على هذه الصفقة مبدئيا، لكن سرعان ما قرر مواجهة الاحتجاجات بالنار، ما زاد من انغماسه في "المحور الإيراني" واعتماده عليه، الأمر الذي واجهته إسرائيل بملاحقة أصول إيران و"حزب الله" في سوريا، بقبول من الجيش الروسي الذي تدخل في 2015 ودعم من الجيش الأميركي الذي تدخل لمحاربة "داعش" في 2014.

جيوسياسياً، حصل تطور مهم، إذ باتت تركيا لاعبا عسكريا مهماً في سوريا مقابل خروج إيران وتراجع نفوذ روسيا

نقطة التحول الكبرى في سوريا، كانت في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024. سقط نظام الأسدين وخرجت إيران و"حزب الله" وتسلم الحكم أحمد الشرع. أما إسرائيل، فإنها ردت بعشرات الغارات التي دمرت جميع الأصول الجوية والبرية والبحرية والبحثية للدولة السورية. كما احتلت المنطقة العازلة بموجب اتفاق فك الاشتباك لعام 1974 واحتلت تسع تلال بينها واحدة استراتيجية في جبل الشيخ. وبات بعض المسؤولين فيها يدعمون خيار تقسيم سوريا.

جيوسياسياً، حصل تطور مهم إذ باتت تركيا لاعبا عسكريا مهماً في سوريا مقابل خروج إيران وتراجع نفوذ روسيا. وبالفعل، شن الجيش الإسرائيلي سلسلة غارات على مواقع كانت أنقرة تخطط أن تكون قواعد عسكرية تركية وسط سوريا. وبات الطرفان على وشك المواجهة العسكرية ما دفع الرئيس الأميركي دونالد ترمب لإقناع الرئيس رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لإرسال مبعوثيهما إلى أذربيجان لبحث فك الاشتباك.

وحصل تطور آخر في سوريا، تمثل في إعلان نتنياهو استعداده للدفاع عن الدروز جنوب سوريا وفي جرمانا قرب دمشق، بل إن الجيش الإسرائيلي شن غارة قرب القصر الرئاسي السوري مقر إقامة الشرع، للضغط عليه للابتعاد عن تركيا وتقديم بعض الضمانات لدروز سوريا.

من الحكمة، أن يتمسك الجانب السوري بأن تكون المفاوضات عبارة عن "اتصالات غير مباشرة" لمناقشة قضايا تخص منع الصدام العسكري وبناء الثقة

أمام هذا المشهد على ماذا يتفاوض الطرفان؟

لا شك أن التحول الاستراتيجي السوري قد حصل لدى إخراج إيران من سوريا لأول مرة من 45 سنة وهزيمة "حزب الله" في لبنان. لكن من الحكمة، أن يتمسك الجانب السوري بأن تكون المفاوضات عبارة عن "اتصالات غير مباشرة" لمناقشة قضايا تخص منع الصدام العسكري وبناء الثقة، مثل: التأكد من خروج إيران، ومنع تهريب السلاح إلى "حزب الله"، ومنع وجود خلايا جهادية أو قتالية جنوب سوريا خصوصا بعد تجربة إسرائيل في غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وإجراءات توسع الإدارة الدرزية في السويداء والتأكيد على عدم وجود أي نيات عدائية تجاه دول الجوار، واتخاذ إجراءات لتعزيز التموضع الإقليمي بالقطع مع وكلاء إيران، بالتزامن مع اتصالات تركية-إسرائيلية لمنع الصدام العسكري وتنسيق الانتشار التركي شمالي سوريا والضمانات الأمنية لإسرائيل في الجنوب. من هناك يمكن الإفادة من الإرث التركي في الوساطة بين دمشق وتل أبيب في 2008، عندما رتبت لقاء بين بشار الأسد وإيهود أولمرت، تم التراجع عنه في آخر لحظة.

وعلى سوريا أن ترهن الانتقال من "الاتصالات غير المباشرة" إلى "المفاوضات المباشرة" بانسحاب إسرائيل من خط 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، أي خروج إسرائيل من المواقع التي احتلتها بعد سقوط الأسد. ولا شك أن "المفاوضات المباشرة" التي تحتاج تحضيرا معمقا، سترمي إلى البحث في مستقبل الجولان السورية المحتلة.

يكفي القول إن سوريا كانت تطالب إسرائيل سابقا بالعودة إلى خط 4 يونيو 1967، وأن المطلب الأولي حاليا هو عودة إسرائيل إلى خط 7 ديسمبر 2024

صحيح أن ترمب اعترف بسيادة إسرائيل على الجولان، لكن لا يمكن توقع قبول سوريا والحكم الجديد بالتخلي عن السيادة السورية على الأرض المحتلة، ويجب أن يبقى هذا مطلبا تفاوضيا خلال مسيرة التباحث حول توقيع اتفاق سلام، ذلك أن سوريا تختلف عن غيرها من الدول التي انضمت إلى "الاتفاقات الإبراهيمية"، أن لها أرضا محتلة.

ومن غير المتوقع أن يكون توقيع اتفاق سلام أولوية للحكم السوري الجديد. فسوريا منهكة ومدمرة ولها أولويات أخرى. ومن غير المتوقع أن يكون هذا أولوية لحكومة إسرائيل المتطرفة. لكن الطرفين معنيان بإجراءات تستجيب للواقع الجديد والتطورات الهائلة في سوريا والإقليم. يكفي القول، إن سوريا كانت تطالب إسرائيل سابقا بـ"العودة إلى خط 4 يونيو 1967" وأن المطلب الأولي حاليا هو عودة إسرائيل إلى "خط 7 ديسمبر 2024".

font change