"الكاتراز" الذي يريد ترمب إعادة افتتاحه رمزا سينمائيا للقمع والحرية

بين سطوة السلطة المطلقة وشفافية التناول الإبداعي

AFP
AFP
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ينشر قرارا تنفيذيا جديدا خلال خطاب له في الكونغرس

"الكاتراز" الذي يريد ترمب إعادة افتتاحه رمزا سينمائيا للقمع والحرية

داعب تاريخ سجن "الكاتراز" السيء السمعة مخيلة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، فأصدر توجيها عبر منصته "تروث سوشال" خاطب فيه الوكالات الفيديرالية التي تشمل مكتب السجون الفيديرالي ووزارة الأمن الداخلي ومكتب التحقيقات الفيديرالي مطالبا بإعادة افتتاح السجن الشهير الذي كان توقف عن العمل في العام 1963 وإعداده من جديد بشكل حديث ليكون قادرا على استيعاب أخطر وأعنف المجرمين في أميركا.

وربط ترمب فكرة إعادة افتتاح "الكاتراز" بوصفه رمزا للقانون والنظام والعدالة، لافتا إلى أن "الأمة تحتاج إلى اتخاذ إجراءات حازمة ضد المجرمين الخطرين والمتكررين".

وكالعادة، نجح هذا الطلب في إثارة الجدل والانقسام، حيث نظر إليه البعض على أنه قد يشكل دفعا إيجابيا لضبط الجرائم وتعزيز صورة النظام والقانون، بينما نظر البعض الآخر إلى الأمر من زاوية التكلفة المادية الباهظة جدا والصعوبات اللوجستية والميدانية، نظرا لأن السجن قائم على جزيرة تفتقر الى الإنشاءات والبنى الأساسية.

ولم يصدر أمر تنفيذي مباشر في هذا الصدد حتى الآن، وليس واضحا إذا كان المشروع سيوضع قيد التنفيذ فعلا، لكن طرحه ينطوي على بعد ثقافي وسيكولوجي عميق، يشرح السياق الرمزي الذي استوجب إحياء فكرته في حاضر اللحظة الأميركية الحالية، التي يريدها ترمب أن تكون لحظة العالم كذلك، ويشاء أن تكون مقفلة ومحكمة ونهائية، ويستحيل تجنبها أو الفرار منها، كما كان الحال في سجن "الكاتراز".

يوتوبيا

يمثل "الكاتراز" فكرة ترمب عن زمنه وشخصه، ويشكل النموذج الأعلى للثقافة التي يريد للعالم أن ينتظم على أساسها. فهذا السجن هو بمثابة اليوتوبيا الترمبية المحكمة والحاسمة. وبدا لافتا أن حلم "الكاتراز" الآن يأتي تتويجا لسلسلة طويلة من الممارسات التي تتجاوز السياسي والأخلاقي لتطبع أشخاصا وفئات بطابع ثقافي تبخيسي، مما يجعل "الكاتراز"، بما ينطوي عليه من انسجام رمزي ومادي مع فكر السلطة السائد، طريقة في النظر والحكم والتعامل.

يمثل "الكاتراز" فكرة ترمب عن زمنه وشخصه، ويشكل النموذج الأعلى للثقافة التي يريد للعالم أن ينتظم على أساسها

 لم يكن ذلك السجن كما يظهر تاريخه وسيلة إصلاح، ولا حتى عقاب، بل بُني وفق طموح بالتفوق على بشاعة الجرائم القاسية التي ارتكبها نزلاؤه، بما يتفوق عليها في الفظاعة، الى درجة أنها تُنسى وتُمحى، بينما تبقى فظاعة السجن وممارساته حية في الأذهان. لذا يمكن القول إن "الكاتراز" لم يكن معدا في أصل فكرته ومنطقه لقمع الجرائم، بل لتخليد ما يمثله من فظاعة، وبذلك كان متوجها إلى الناس والشعب والعالم والعامة أكثر مما إلى المجرمين.

AFP
سجناء في زنزاناتهم أثناء جولة لوزير الأمن الكوستاريكي جيرالد كامبوس في مركز احتجاز في تيكولوكا

 كان خطاب سلطة تعلن نفسها من بوابة المستحيل والمطلق، إذ كان الداخل إلى السجن يتحول إلى عنوان لسطوة السلطة وعنفها وقدرتها التي تتبع رمزية الفرار المستحيل والنجاة غير الممكنة، لتقول خطابا يلتقطه ترمب في حاضره ليعيد إنتاجه بشكل أكثر صخبا وضجيجا، مستفيدا من مستجدات ستين عاما من التطور التقني والبروز الهائل لوسائل التواصل وأساليب التأثير الحديثة.

وكانت السينما نظرت بعين إنسانية إلى سجن "الكاتراز" ورفضت نزع إنسانية المساجين، الذي كان عنوانا بارزا وراء نشوء السجن عام 1934، في جو مستقى من أجواء الاضطراب العام الذي كان سائدا في الفترة التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939، ومتأثرا بأجواء القرن التاسع عشر والبنية العقابية للعصور الوسطى.

 أفلام عدة تناولت السجن من زوايا مختلفة، لعب بعضها على فكرة الإثارة وسيناريوهات الهروب، وصوّر بعضها الآخر حياة مسجون معين، وذهب البعض إلى الإضاءة على طرق العيش فيه والكشف عن بنية السلطة كما يمثلها.

AP
مهاجرون يسيرون نحو شاحنة تابعة لدوريات الحدود بعد عبورهم غير الشرعي وانتظارهم تقديم طلب لجوء بين جدارين حدوديين يفصلان المكسيك عن الولايات المتحدة

اللافت أن ما يجمع القسم الأكبر من هذه الأعمال هو رفض النظر إلى "الكاتراز" كمؤسسة قانونية وشرعية  بقدر ما هي مؤسسة تُنتج العقاب للعقاب، أي أن هدفها تعميم نموذجها الخاص من العقوبة كرمز عن فعالية السلطة ولا محدوديتها. لذا رأت السينما بشكل عام في "الكاتراز" عالما ينطوي على طبقات كثيرة ومعقدة، ولا يمكن اختصارها بنظرة السلطة التي تعتبر أنها تحمي المجتمع، بينما تؤسس لمنطق تجاوز القوانين والإنسانية، الذي يمكن معه تبرير كل شيء.

"مربي الطيور في الكاتراز" (1962)

يمثل روبرت سترود، بطل فيلم المخرج جون فرانكهايمر، نموذجا بالغ الكمال للمجرم الذي يمتح النظام العقابي منه حججه. إنه القاتل المدان، الذي يرتكب كذلك جريمة قتل أخرى في السجن، مما يجعل الحكم القاسي عليه بالسجن الأبدي الانفرادي في العزلة والصمت عادلا ومستحقا.

ملصق Birdman of Alcatraz (1962)

كيف يمكن أن تجعل من مثل هذه الشخصية بطلا لفيلم، وخصوصا أن كل التفاصيل التي تستغرق وقتا طويلا منه تكشف أن سترود لا يشعر بالذنب، وأنه يتبنى القسوة ويحياها بشكل يجعله متطابقا مع جريمته وغير قادر على الاستقلال عنها؟

رأت السينما بشكل عام في "الكاتراز" عالما ينطوي على طبقات كثيرة ومعقدة، ولا يمكن اختصارها بنظرة السلطة التي تعتبر أنها تحمي المجتمع

التحول الذي ينسج بعناية وبصبر يسرد تحولا بطيئا هادئا وشفافا ومنسوجا بتمهل يحاكي صمت السجن وعزلته، حتى يبدو خطابا خارجيا ينمو بهدوء ليصبح ممثلا لتجدد شخصية المجرم وإعادة إنتاجها وتحوله إلى عالم طيور يقوم بتربيتها والعناية بها، ليولد من جديد على هيئة كائن رقيق لا تختصره جريمته، بل يبحث عن أفق جديد.

لكن الجدلية التي تمثل بصمة الفيلم الخاصة، تكمن في أن ذلك التحول لم ينتجه السجن نفسه، ولا كان نتيجة لنمط العقاب الذي تتبناه والذي تدافع من خلاله عن سلطة ترى في نزع الإنسانية وسيلة لحفظ النظام والأمن، بل جاء من الخارج، من الطبيعة التي تمثل الحرية والرحابة. لم يصبح سترود شخصا آخر بفضل السجن أو بسببه، بل لأنه استطاع الخروج منه رمزيا وصار خارجه عبر الطيور. لقد استغرقت رحلة وصوله إلى "الكاتراز" ساعتين من مدة الفيلم الذي يبلغ طوله نحو 147 دقيقة، ونعلم أنه لم يُسمح له بتربية الطيور فيه، ولكن اللقب لحقه وصار عنوانه ووجهه الذي استبدل ذلك الوجه النهائي الذي رسمه له النظام العقابي، وصار لديه ما يدافع عنه ويحيا من خلاله.

مشهد من فيلم Birdman of Alcatraz (1962)

 لم يعد كائن الجريمة وابنها، بل صار شيئا آخر، ولكنه بقي غير مستحق لإعادة النظر في عقابه، على الرغم من قضائه أكثر من 40 عاما في السجن، مما يعني وفق الخلاصة التي يطرحها الفيلم أن الإنجازات الكبيرة التي قام بها وتحوله إلى عالم طيور بقيت في نظر الدولة أقل من الجريمة، وكأن الهدف من العقاب المطلق والمفتوح والأبدي هو جعل الجريمة غير قابلة للمحو، كما هو حال الإقامة الأبدية في السجن الذي صُمم ليكون مكانا نهائيا، أي قبرا يلعب المساجين فيه دور الشهود على جبروت السلطات.

"الهروب من الكاتراز" (1979)

احتل فيلم "الهروب من الكاتراز" من إخراج دون سيغل وسيناريو ريتشارد توغل، وبطولة كلينت إيستوود وباتريك مكغوهن وفريد وارد وجاك ثيبو، مكانة استثنائية في تاريخ السينما، تُربط باعتماده على قصة هروب شهيرة من السجن حدثت عام 1962، وأنه صُوّر في موقع سجن "الكاتراز" الفعلي في خليج سان فرانسيسكو، وهو أمر لم يكن سائدا في تلك الفترة.

الجدلية التي تمثل بصمة الفيلم الخاصة تكمن في أن ذلك التحول لم ينتجه السجن نفسه، بل جاء من الخارج، من الطبيعة التي تمثل الحرية والرحابة

ولكن شهرة الفيلم التي جعلته أحد كلاسيكيات السينما العابرة للأزمان، تعود إلى طريقة معالجته موضوع السجن والهروب، حيث لا يعمد إلى بناء قصة هروب تقليدية تعتمد على التشويق والإثارة، بل لأنه جعل قصة الهروب التي تشكل عنوان الفيلم ومادته الأساسية خلفية لعنوان آخر وأبرز يتعلق بالحياة اليومية في السجن التي تنطوي على قسوة عارمة، تهدف إلى تحطيم الذات البشرية عبر العزلة والقمع والصمت.

ملصق Escape from Alcatraz (1979)

انعكس ذلك الجو في بنية حوار تقشفية ومحدودة، تعكس نظام منع الكلام بوصفه تعذيبا نفسيا، وفي عرض المكان وسلوك الحراس بشكل يظهر التنفيذ الآلي والصارم للتعليمات كنسق محكم من الوحشية المنظمة والواثقة والباردة، والتي تعكس نسقا شموليا لا يدعم فكرة العدالة، بل يتبنى العقاب كشكل لإدارة العلاقة، ليس مع المساجين وحسب، بل مع المجتمع كذلك.

اعتُبر الفيلم نقديا من أفضل أفلام السجون التزاما بالقصة الفعلية، وصار يُدرس أكاديميا بوصفه أبرز مادة فنية عالجت فكرة الاحتجاز وآثارها، ولكنه جبه كذلك بنقد أمني اعتبر أنه يمجد المجرمين، وذلك على الرغم من نهايته المفتوحة التي لا تعطي جوابا واضحا حول نجاح عملية الهروب أو فشلها، ولا تبدو مهتمة بهذه الجدلية بقدر اهتمامها بطرح معادلة القمع اللاإنساني والحق في العدالة والحرية. لم يقل الفيلم عن المجرمين إنهم أبطال، ولكنه لم يقبل كذلك أن يكون منطق "الكاتراز" الإذلالي والقمعي عنوانا للعدالة والإصلاح، بل دافع عن الحق في الكرامة والحرية.

"الصخرة" (1996)

يبني فيلم "الصخرة" The Rock موضوعه انطلاقا من التطرفات المتوازية التي يصنع أحدها الآخر وينتجه على الرغم من الصراع القائم بينها. يلعب على تطرف موقع سجن "الكاتراز" وذاكرته التي تشكل ميدان الحدث، ويلفت إلى تطرف الإهمال المؤسساتي وتطرف إهمالها وتهميشها لمجموعة جنود قضوا في مهمة سرية، والذي ينتج بدوره تمردا يقوده الجنرال فرانك هاميل (يؤدي دوره إد هاريس) قائد المجموعة الذي يهدد بقصف مدينة أميركية بأسلحة كيميائية انتقاما من ذلك التهميش.

وسط هذا الجو المضطرب تبرز شخصية جون ماسون، السجين السابق في "الكاتراز" (شون كونري)، وهو عميل بريطاني سجن لاطلاعه على أسرار أميركية خطيرة، ليلعب دور المنقذ والشاهد. وتظهر كذلك شخصية ستانلي غودسبيد (نيكولاس كيج) خبير الأسلحة الكيميائية المدني الذي يجد نفسه مجبرا على التعامل مع شبكة من الأسرار والمؤامرات والجنون والتطرف.

لم يقل الفيلم عن المجرمين إنهم أبطال، ولكنه لم يقبل كذلك أن يكون منطق "الكاتراز" الإذلالي والقمعي عنوانا للعدالة

وعلى الرغم من حرص المخرج مايكل باي على استيفاء شروط الأكشن والإثارة في الفيلم، فإنه من ناحية أخرى حمّله بذكاء مجموعة من الرسائل جعلت أبطاله خارج ثنائية الطيب والشرير التقليدية الساذجة، إذ أن الشخصيات عموما تبحث عن ترميم جرح أو عن استعادة موقع أو عن تجنب كارثة.

ملصق The Rock (1996)

يتخذ "الكاتراز"، في ظل هذه المعادلات، موقع تاريخ التطرف المؤسساتي العقابي، ويحضر في الفيلم كمنتج خفي للحدث ومؤسس له، وكأن السلوكات الجنونية الخارجة على كل القواعد، والتي تصل إلى حدود محاولة ترميم جرح الإهمال والتهميش بالإبادة، ليست سوى امتداد لما كان الفكر العقابي الأميركي تبناه في "الكاتراز"، والذي يظهر هذا السلوك كنتيجة له وأثر من آثاره.

أعمال أخرى

وكانت أفلام ومسلسلات حديثة تناولت سجن "الكاتراز" بشكل مباشر ورمزي ووثائقي، وكانت بارزة رغبة السينمائيين وصناع المسلسلات والوثائقيات في الاستفادة من المكان لإثارة نقاشات حول العدالة والتعذيب ومساءلة البنية العقابية والسلطوية عن آليات عملها.

يقارب فيلم "جريمة قتل من الدرجة الأولى" الصادر عام 1995 للمخرج مارك روكو موضوع "الكاتراز" بواقعية حسية عبر تغطية قصة السجين هنري يونغ، الذي تعرض لتعذيب عنيف دمّر صحته النفسية والعقلية. ومع أن الفيلم لم يُصوّر في الموقع الفعلي للسجن، فإنه اعتمد على وثائق لمحاكمات حقيقية ليقدم نقدا شرسا لأشكال العقوبة في السجون الأميركية في القرن العشرين، حيث تدمر السلطة القانون.

يتخذ "الكاتراز"، في ظل هذه المعادلات، موقع تاريخ التطرف المؤسساتي العقابي، ويحضر في الفيلم كمنتج خفي للحدث

وظهر في عام 2012 مسلسل "الكاتراز" المنتمي إلى فئة الخيال العلمي، والذي أنتجه جي جي أبرامز، ويروي حكاية خيالية عن اختفاء 300 حارس وسجين عام 1963 قبل أن يعاودوا الظهور في الحاضر من دون أن تظهر عليهم علامات الشيخوخة. صُوّر المسلسل في فانكوفر، وصُوّرت مشاهد قليلة منه في سان فرانسيسكو، وكان اللافت فيه توظيف غموض حكايات الهروب من السجن والحكايات التي سادت حولها كخلفية لتركيب قصة تلامس هموم الحاضر.

ملصق Alcatraz (2012)

وصدر في عام 2018 الفيلم الوثائقي "الهروب من الكاتراز: الأدلة المفقودة" الذي أنتجته قناة "هيستوري"، ويعمد إلى إعادة فتح التحقيق في عملية الهروب الشهيرة التي حدثت عام 1962، عبر إظهار صور وبيانات لم يسبق عرضها، حيث تم العمل على السجن مباشرة وتوظيفه كمكان تاريخي، واستعراض سجلات ووثائق من قلب الجزيرة نفسها، بهدف إعادة كتابة تاريخ السجن بعين توثيقية علمية دقيقة.

وكانت بعض الأفلام استخدمته بشكل رمزي ومجازي، مثل فيلم "رجال إكس: المواجهة الأخيرة" الصادر عام 2006، حيث الإحالة إلى المكان الذي يستحيل الهروب منه كمقر لتطوير علاج للمتحولين المختلفين عن العاديين والطبيعيين.

ملصق Alcatraz (2018)

ويوظف الفيلم الوثائقي للمخرجة شيريل هينز "آي ويوي: مع خالص المحبة"، الذي ينطوي على عرض لأعمال الفنان الصيني آي ويوي، أُقيم داخل سجن "الكاتراز" لإطلاق رسائل تضامن من الزوار من داخل المعرض إلى سجناء الرأي حول العالم، في إطار حقوقي إنساني.

ويستعمل فيلم ناشيونال جيوغرافيك "كشف خفايا الكاتراز" الصادر عام 2017 تقنيات تصوير متطورة ثلاثية الأبعاد للكشف عن البنية الهندسية للجزيرة التي يقوم عليها السجن، وتحليل إمكان الهرب منها بإطار يجمع بين التفاصيل التقنية والسرد.

font change

مقالات ذات صلة