تحولات عميقة تعيد تشكيل العقد الاجتماعي في الشرق الأوسط

صعود الخليج كمركز للابتكار الثقافي المتقدم يسهم في تحويل المجتمعات الخليجية وما حولها

لينا جرادات
لينا جرادات

تحولات عميقة تعيد تشكيل العقد الاجتماعي في الشرق الأوسط

يعيش الشرق الأوسط في مرحلة مفصلية من التحول الاجتماعي والثقافي، من شأنها أن ترسم ملامح مستقبل المنطقة لجيل كامل. ومع أن هذه التحولات لا تسير على نسق واحد وبوتيرة واحدة في جميع دول المنطقة، فإنها بمجموعها تمهد الطريق نحو عقد اجتماعي جديد، حيث تعيد المجتمعات تشكيل ذاتها وتتكيف مع المتغيرات السياسية والاقتصادية الجارية.

لقد ارتبطت دول الشرق الأوسط تقليديا طويلا بعقد اجتماعي تتولى فيه الحكومات توفير الرعاية الاجتماعية، وتؤمن الوظائف في القطاع العام، وتقدم الدعم المالي لمواطنيها. ولكننا نرى أن هذا النموذج يتبدل اليوم سريعا وينحو نحو نموذج آخر تقدّم فيه الدولة لمواطنيها فرصا للابتكار وريادة الأعمال. ولعل من بين أبرز ملامح هذا التحول الطفرة اللافتة في الإنتاج الثقافي والتعبير الفني والابتكار التكنولوجي، ما يعكس تحولا أعمق في الصورة الذهنية للشرق الأوسط على المستوى العالمي، والأهم من ذلك، في نظرة مجتمعاته إلى ذاتها.

صعود الابتكار الثقافي في الخليج

اليوم، تنخرط دول الخليج في صياغة عقد اجتماعي جديد طموح. فبدلا من الاعتماد على توزيع الثروة النفطية، توجّه هذه الدول جهودها نحو توفير فرص المشاركة في اقتصادات متنوعة وحيوية. ويُحفَّز الشباب على تصور ذواتهم كرواد أعمال وفنانين ومواطنين عالميين، يسهمون في تحقيق الرؤى الوطنية. ومن ثم، يتبلور الخليج كمركز إقليمي للابتكار الثقافي.

لسنوات طويلة، كانت مصر ولبنان تتصدران المشهد العربي في مجالي الموسيقى والإنتاج السمعي-البصري، ولطالما هيمن الفنانون المصريون واللبنانيون، إلى جانب السينما والمسلسلات المصرية، على ساحة الفن في عموم المنطقة. لكن التحولات الاقتصادية التي شهدها البلدان دفعت مراكز الإنتاج الترفيهي تدريجيا إلى خارج حدودهما، حتى وإن استمر تدفق المواهب منهما. واليوم، وبفضل الرؤى الوطنية الطموحة في دول الخليج، تجد هذه المواهب موئلا جديدا لها في السعودية والإمارات وقطر، حيث تتقاطع مع الطاقات المحلية في توليفة تبشر بنهضة ثقافية عربية جديدة.

تلعب الفنون دورا رئيسا في "رؤية السعودية 2030"، التي تنشد إنشاء متاحف عالمية المستوى وبيناليهات فنية

وأضحت السعودية موطنا للفعاليات الكبرى مثل مهرجان "MDLBeast Soundstorm"، الذي يُعد اليوم واحدا من بين أكبر المهرجانات الموسيقية في العالم، يستقطب منسقي أغانٍ عالميين ومحليين. كما يأتي مهرجان "Gamers8" في إطار طموح المملكة لتبوّؤ مكانة رائدة في صناعة الألعاب العالمية. ويستقطب "موسم الرياض"– وهو مهرجان ترفيهي وثقافي يمتد لأشهر– ملايين الزوار من خلال فعاليات متنوعة تشمل مسابقات الألعاب الإلكترونية والقراءات الشعرية.

وتسعى الدول الخليجية الثلاث إلى ترسيخ مكانتها كمراكز عالمية في مجالي السينما والترفيه. ففي عام 2020، أطلقت المملكة العربية السعودية مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي في جدة، بهدف دعم صنّاع الأفلام الإقليميين والدوليين. وتُعدّ مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي، المرتبطة ارتباطا وثيقا بالمهرجان، من أبرز الداعمين لصناعة السينما المحلية في السعودية، وهي تموّل إنتاجات سينمائية دولية.

أما في قطر، فتتولى مؤسسة الدوحة للأفلام دعم صنّاع الأفلام العرب المستقلين، موفّرة منصة تتيح استكشاف الهويات الناشئة. وفي الإمارات، جذبت منطقة "twofour54" الإعلامية في أبوظبي أعمالا هوليوودية ضخمة مثل أفلام "المهمة المستحيلة"، و"حرب النجوم".

على أن هذه النهضة لا تقتصر على قطاع الترفيه وحده، بل تشمل الفنون البصرية والتكنولوجيا أيضا. فقرية كتارا الثقافية في قطر تجمع بين التراث والتعبير الفني المعاصر، وتحتضن أنشطة المسرح والموسيقى والفنون البصرية. وتواصل الإمارات تنظيم فعاليات مثل "آرت دبي"، و"بينالي الشارقة"، وتحتضن متاحف تعرض الفنون المحلية والعالمية.

أما في الأدب، فتزدهر الثقافة المكتوبة من خلال مهرجانات مثل "مهرجان طيران الإمارات للآداب"، ويحقق الكتّاب الإماراتيون حضورا لافتاً على الساحة العالمية.

وتلعب الفنون دورا رئيسا في "رؤية السعودية 2030"، التي تنشد إنشاء متاحف عالمية المستوى وبيناليهات فنية. وتساهم مؤسسة "بينالي الدرعية" في ترسيخ موقع الرياض كمركز عالمي للفن المعاصر، حيث يشكّل الابتكار الثقافي محورها الرئيس. وفي يناير/كانون الثاني 2025، دشّنت المملكة "بينالي الدرعية للفنون"، ليكون أول مركز في الشرق الأوسط مخصص للإعلام الجديد والفنون الرقمية.

لا يقتصر تأثير هذه التحولات على دول الخليج فحسب، بل يمتد ليرفد الصحوة الثقافية في العالم العربي عموما

إن صعود الخليج كمركز للابتكار الثقافي المتقدم لا ينعكس على الاقتصاد فحسب، بل يسهم أيضا في تحويل المجتمعات الخليجية وما حولها. وبفضل الانتشار الواسع للإعلام الرقمي، فإن الجيل الجديد في المنطقة– وهو جيل من المواطنين الرقميين– يتمتع بارتباط وثيق بنظرائه حول العالم كما لم يحدث من قبل.

ولا يكتفي هذا الجيل باستهلاك الثقافة المنتجة في الخارج، بل يصنع محتواه الخاص، ويطمح إلى إيصال صوته والحصول على اعتراف بمواهبه على المستوى العالمي، ويرى في ذاته فاعلا أساسيا في مسيرة بناء أوطانه. وتوفّر خطط التحول الكبرى- مثل "رؤية السعودية 2030"، و"نحن الإمارات 2031"- منصات تحتضن الطموحات وتنمي المهارات. كما تسهم الاستثمارات الهائلة في القطاع الثقافي في إعادة تشكيل صورة المجتمعات العربية إقليميا ودوليا.

إحياء المشهد الثقافي

لا يقتصر تأثير هذه التحولات على دول الخليج فحسب، بل يمتد ليرفد الصحوة الثقافية في العالم العربي عموما. ويعود ذلك إلى انخراط مواطني مختلف الدول العربية في الصناعات الثقافية الخليجية، إلى جانب اتساع رقعة انتشار الابتكار الثقافي في الخليج، الذي صار نموذجا تنمويا يُحتذى في بلدان أخرى.

لينا جرادات

وتكتسب هذه الديناميكية أهمية خاصة بالنسبة لمواطني دول مثل لبنان وسوريا، الذين لم يتوقفوا عن الإبداع الثقافي والابتكار المجتمعي رغم ما مرّ به بلداهما من حروب وصراعات. ففي لبنان، شكّلت مؤسسات مثل متحف سرسق، ومساحات فنية مستقلة مثل "أشكال ألوان"، ومهرجانات موسيقية مثل بيروت وما بعدها منارات للإبداع والتجريب والمقاومة الثقافية.

وشكّلت احتجاجات عام 2019 نقطة تحول فارقة، حين رفض المواطنون النظام الطائفي التقليدي، ورفعوا مطالبهم للحصول على شفافية أعلى ومحاسبة وعدالة اقتصادية أوسع. ورغم مقاومة النخب السياسية للإصلاح البنيوي، انبثق شكل جديد من الحراك المدني القاعدي، تقوده أجيال شابة متمرسة بالتكنولوجيا. وبرزت في هذا السياق مبادرات تعليمية بديلة، وشركات ناشئة، ومجموعات إبداعية سعت لسدّ فراغات عجزت الدولة عن ملئها.

واليوم، ومع توجه الحكومة اللبنانية الجديدة إلى معالجة إخفاقات الماضي، لم يعد الفاعلون في المجتمع المدني يسعون إلى لعب دور بديل عن الدولة، بل إلى الشراكة معها من موقع المواطنة والتمكين الذاتي.

هذا التحول في طبيعة العقد الاجتماعي أتاح ازدهار الابتكار المجتمعي. ففي أعقاب انفجار مرفأ بيروت عام 2020، سارعت شبكات تطوعية مثل "عيش حب بيروت" إلى تعبئة الموارد والخبرات لإعادة إعمار المنازل وإغاثة العائلات المتضررة وتفعيل الإبداع الفني والثقافي في خدمة التماسك المجتمعي. ومع تطلع لبنان إلى الخروج من نفق النزاعات، تبدو فرصته في تعزيز موقعه كمركز ثقافي نابض واعدة أكثر فأكثر.

على الرغم من خصوصية التحديات التي تواجهها كل دولة على حدة، فإن مجمل التحولات في المنطقة تعكس إعادة تشكيل عميقة لهوية الشرق الأوسط واقتصاده وتطلعاته

وتدرك الحكومة اللبنانية الجديدة أهمية الثقافة كمحرك اقتصادي وأداة تمكين اجتماعي. ويبعث هذا التوافق المستجد بين رؤية الدولة وطموحات المواطنين أملا في نهضة مستدامة للقطاع الثقافي، بما يعزز الاقتصاد الإبداعي ويعزز من التلاحم بين مكونات المجتمع اللبناني، لا سيما بعد ما خلفته الحروب المتعاقبة من تصدعات اجتماعية.

وينسحب هذا الواقع على سوريا أيضا، حيث أدى عقد من الحرب إلى انهيار العقد الاجتماعي التقليدي الذي كان يرتكز على مركزية الدولة. ورغم أن ما تبقى على الأرض عقب الإطاحة بنظام بشار الأسد لم يكن سوى فسيفساء من المبادرات المجتمعية، فإن السوريين– داخل البلاد وفي الشتات– لم يتخلوا عن محاولات إعادة تشكيل الهوية السورية عبر الثقافة وريادة الأعمال.

وتعمل مبادرات مثل "الفهرس الثقافي السوري"، و"ذاكرة الإبداع للثورة السورية"، على توثيق الفنون والأدب والموسيقى السورية. وفي المنفى، أسهم الفنانون السوريون في إثراء المشهد الثقافي الأوروبي والأميركي عبر معارض وأعمال مسرحية وسينمائية توثق الكلفة الإنسانية للحرب. وتمتلك سوريا اليوم فرصة حقيقية لصياغة عقد اجتماعي جديد يقوم على احتضان الإبداع كقوة جامعة للمجتمع.

منطقة في حالة تحول

يظل كل من لبنان وسوريا محكومين بتسلسلات هرمية تقليدية في الهوية والانتماء، تواجه اليوم تحديات عميقة بفعل الحراك الثقافي والتنموي المتسارع في المنطقة. ويشعر أنصار النظام القديم بالتهديد أمام تصاعد مشاعر الانتماء الوطني المرتكز إلى قيم المواطنة العالمية، والتعبير الحر، والطموح الريادي. ويتجلى هذا الصراع بأوضح صوره في ما يتعلق بدور الشباب ومكانة المرأة في المجال العام، فالحرس القديم يسعى إلى استيعاب الشباب وتهميش المرأة.

غير أن الشباب في مختلف أرجاء المنطقة باتوا يرون أنفسهم ليس كمستفيدين سلبيين من عطايا الدولة، بل كفاعلين في رسم مصائرهم. أما مشاركة المرأة، فهي في ازدياد مستمر. ففي السعودية، تتصدر النساء نسب خريجي الجامعات، وهنّ يؤسسن مشاريعهن الخاصة بوتيرة غير مسبوقة. وفي سوريا، ورغم تعيين امرأة واحدة فقط في الحكومة الجديدة، تواصل النساء دورهن الريادي في ميادين متعددة كالفنون والهندسة وريادة الأعمال. وفي لبنان، أصبحت مشاركة النساء أكثر حضورا في الحياة العامة.

وباختصار، على الرغم من خصوصية التحديات التي تواجهها كل دولة على حدة، فإن مجمل التحولات في المنطقة تعكس إعادة تشكيل عميقة لهوية الشرق الأوسط واقتصاده وتطلعاته. وما يتبلور اليوم هو شرق أوسط أكثر تنوعا وترابطا وحيوية، تُتاح فيه فسحة لتعدد الروايات وتباين الرؤى. ورغم جسامة التحديات– من التفاوت الاقتصادي إلى النزاعات المسلحة– فإن الفرص المتاحة للإبداع والتجديد الثقافي لم تكن بهذا الاتساع منذ عقود.

font change

مقالات ذات صلة