"حكاية" حزب "العمال الكردستاني" و"الكفاح المسلح"... هل انتهت؟

الأسئلة الأمنية والسياسية والتشريعية بشأن الخطوات القادمة غامضة للغاية

أ.ف.ب
أ.ف.ب
مقاتلو حزب العمال الكردستاني يحضرون دورة تدريبية في 20 يونيو 2007 في منطقة أميديا ​​شمال العراق، على بُعد 10 كيلومترات من الحدود التركية

"حكاية" حزب "العمال الكردستاني" و"الكفاح المسلح"... هل انتهت؟

بعد مسيرة امتدت لقرابة نصف قرن، أعلن حزب العمال الكردستاني "حل نفسه" و"إنهاء الكفاح المسلح". ففي مؤتمر استثنائي عُقد في معسكر الحزب بجبال قنديل الواقع في المثلث الحدودي بين تركيا والعراق وإيران، بين 5-7 من الشهر الجاري، استجابة لدعوة زعيمه المُعتقل عبد الله أوجلان، ضمن سياق الدعوة التي وجهها زعيم الحركة القومية التركية دولت بهجلي أواخر العام الماضي، والتي تمهد حسب المراقبين إلى إيجاد "حلول سياسية" للمسألة الكردية في تركيا، استباقا لما تصنفه أوساط "الدولة العميقة" في تركيا تحولات إقليمية جذرية في المنطقة.

جدال داخلي

إعلان "حزب العمال الكردستاني" جاء عقب أسابيع من المداولات السياسية الصاخبة التي شهدتها تركيا. ففي الأول من شهر أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي تقدم زعيم الحركة القومية التركية بهجلي من كتلة حزب "ديمقراطية الشعوب" المؤيد للحقوق الكردية ضمن البرلمان التركي وصافح أعضاء الحزب، بعد سنوات كثيرة من المقاطعة الجذرية والصراع المحتدم بين الحزبين، ما اعتبره المراقبون دلالة على تحول سياسي جوهري في البلاد. وبعد أيام قليلة، وجه رئيس الحركة القومية التركية نداء إلى زعيم حزب "العمال" عبد الله أوجلان، مطالبا إياه بالقدوم إلى البرلمان وإعلان حلّ الحزب وإيقاف الكفاح المسلح.

أحدث التصريح "زلزالا" سياسيا في تركيا. فالحكومة والرئيس أردوغان أظهرا تحفظات متتالية على دعوة بهجلي، لكن الأخير، وبصفته "ممثلا عن الدولة العميقة في تركيا" كما هو متداول، أكد أن مسألة العلاقة مع "العمال الكردستاني" تتعلق بـ"الدولة التركية وليس الحكومة". على أثر ذلك تشكلت لجنة من حزب "الشعوب الديمقراطية" المؤيد لحقوق الأكراد، واجتمعت مع زعيم الكردستاني أكثر من مرة، وقالت الأنباء إنها سافرت إلى جبال قنديل واجتمعت بالقيادة الميدانية لـ"الكردستاني".

اللافت في نتائج مؤتمر "العمال الكردستاني" هو إيحاؤه بالملمح الكلي لما يحاول التوصل إليه من معالجات سياسية/دستورية في المستقبل، بعد ترك الكفاح المسلح

وفي التاسع من شهر مارس/آذار المنصرم أصدر أوجلان نداء إلى قادة حزبه، داعيا إياهم للاجتماع وإعلان إنهاء الكفاح المسلح وحل الحزب. قادة "الكردستاني" أبدوا تحفظات تجاه النداء، مطالبين بمزيد من الضمانات، بما في ذلك لقاء أوجلان. زعيم الحركة القومية التركية طالب الحزب بعقد مؤتمره داخل تركيا، تحديدا في مدينة "ملاذكرد" بولاية موش شرقي البلاد، في إشارة ضمنية إلى التحالف التاريخي الذي جمع الأكراد والأتراك، انطلاقا من تلك المعركة الشهيرة التي حدثت عام 1071.

لكن نقاشات واجتماعات سياسية مطولة، أجراها وفد حزب "ديمقراطية الشعوب" بين أوجلان وقيادة "الكردستاني" والرئيس أردوغان وزعيم "الحركة القومية"، سمحت بتقادم تلك العملية ببطء، إلى أن وصلت لهذه النتيجة النهائية.

غموض مُقلق

البيان الختامي للمؤتمر الاستثنائي لحزب "العمال لكردستاني" تضمن تلخيصا بيوغرافيا للسيرة السياسية والأيديولوجية للحزب، معتبرا معاهدة لوزان ودستور عام 1924 اللذين أنكرا وجود الشعب الكردي جذر المسألة الكردية في تُركيا، حيث رُد عليها بكفاح مستمر من الانتفاضات الكردية، كانت تجربة حزب "العمال الكردستاني" آخرها، ودامت 52 عاما، حسب مضمون بيان المؤتمر.

أ.ف.ب
عائلات انضم أبناؤهم إلى حزب العمال الكردستاني، يحملون صورهم وهم يجلسون أمام مقر منظمة المساواة والعدالة بعد إعلان حزب العمال الكردستاني حلَّه، في مدينة ديار بكر ذات الأغلبية الكردية، غرب تركيا، في 12 مايو

لكنه فسّر حل الحزب وإنهاء الكفاح المسلح كخطوة في سبيل "حل قضية الكرد في الوطن المشترك والمواطنة المتساوية... من خلال إعادة تنظيم العلاقات الكردية- التركية، والنضال الديمقراطي وصولا إلى بناء المجتمع الديمقراطي"، وليس كأي استسلام أو خضوع لمطالب وضغوط الدولة التركية.

لكن اللافت في نتائج مؤتمر "العمال الكردستاني" هو إيحاؤه بالملمح الكلي لما يحاول التوصل إليه من معالجات سياسية/دستورية في المستقبل، بعد ترك الكفاح المسلح "من الضروري أن يشكل شعبنا، بقيادة النساء والشباب، منظماته الذاتية في كل مجالات الحياة، وأن ينظم ذاته على أساس الاكتفاء الذاتي بلغته، وهويته، وثقافته، وأن يصبح قادرا على الدفاع عن نفسه ضد الهجمات، وأن يبني المجتمع الديمقراطي الجماعي بروح التعبئة. وبهذا الأساس، نؤمن بأن الأحزاب السياسية الكردية، والمنظمات الديمقراطية، ورواد الرأي سينجزون مسؤولياتهم في تطوير الديمقراطية الكردية وتحقيق الأمة الديمقراطية الكردية".

ومع تلك التحديدات، وما لاقاها من تصريحات حكومية وسياسية تركية نظيرة، والتي قالت في مجملها إن حل "العمال الكردستاني" لنفسه وإنهاء الكفاح المسلح سيفتح الباب أمام مزيد من "الانفتاح السياسي"، تبقى الأسئلة الأمنية والسياسية والتشريعية بشأن الخطوات القادمة غامضة للغاية، خلا بعض التوقعات التي يتم تداولها من قِبل مقربين من الطرفين.

المستقبل السياسي والقانوني لآلاف مقاتلي "الكردستاني" وساسته سيكون أصعب من تفكيك البنية العسكرية. فهل سيحق لهؤلاء الدخول في بنية العمل السياسي من خلال الحزب المؤيد للأكراد، أو حتى تأسيس حزب غيره؟

إذ ليس واضحا إن كان أي اتفاق سياسي بين زعيم الحزب المعتقل والدولة التركية قد حدث. فهذه الأخيرة تنفي وجود أي شيء من ذلك القبيل، لكن المصادر الكردية تصر على استحالة استجابة أوجلان لمثل هذه الدعوة دون ضمانات أولية وواضحة من ذلك القبيل، خصوصا في مسائل مثل مستقبل الاعتراف بالأكراد دستورياً وتوسيع التعليم باللغة الكردية. ويُردف مناصرو "الكردستاني" أن ذلك كان مستحيلا في أزمنة سابقة، حينما كان الحزب في أضعف أوضاعه الجيوسياسية وأكثرها حرجا، فكيف به الآن، والمنطقة كلها مُقدمة على تحولات جذرية؟

المسألة الأخرى تتعلق بآلية تنفيذ عملية تفكيك البنية المسلحة للحزب، سواء في القواعد الثابتة المتمركزة على قوس جبلي يتجاوز طوله 400 كيلومتر، أو نوعية الأسلحة الفتاكة التي بيد المقاتلين، أو حتى تنظيماته العسكرية المحلية، في المدن الداخلية لتركيا. مصدر سياسي كردي كشف في حديث مع "المجلة" عما أسماه التوافق المبدئي بشأن ذلك التفصيل، والمتضمن تشكيل لجنة ثلاثية، وربما رباعية، مؤلفة من تركيا والعراق (متضمنا إقليم كردستان) و"العمال الكردستاني"، مع وجود غير رسمي للولايات المتحدة، تشرف على آلية ضبط عشرات الآلاف من قطع السلاح وتجميعها، وتفكيك البنية الجبلية العسكرية المعقدة، التي شيدها الحزب خلال نصف قرن كامل، وفي أكثر المناطق الجبلية وعورة.

المصدر أضاف في حديثه مع "المجلة" قائلا: "المستقبل السياسي والقانوني لآلاف مقاتلي (الكردستاني) وساسته سيكون أصعب من تفكيك البنية العسكرية. فهل سيحق لهؤلاء الدخول في بنية العمل السياسي من خلال الحزب المؤيد للأكراد، أو حتى تأسيس حزب غيره؟. وهل سيبقى هؤلاء المقاتلون محل نبذ سياسي وقانوني من مؤسسات الدولة والقوى السياسية، أم ستصدر تشريعات حامية لهم. الأمر نفسه ينطبق على القراءة المشتركة والرسمية التي سيتفق عليها الطرفان بشأن ما حدث خلال نصف قرن كامل مضى: فهل كانت مواجهة بين الدولة التركية ومنظمة إرهابية، كما تقول الدعاية التركية منذ سنوات؟! أم كان كفاحا مسلحا خاضه (العمال الكردستاني) لنيل الاعتراف والحقوق الطبيعية للكُرد في تركيا؟ فهذا التفصيل سوف يبنى عليه كل ما هو لاحق من سياقات".

أ.ف.ب
رئيس حزب العمال الكردستاني مراد قرايلان وهو يعلن حل الحزب خلال المؤتمر الحزبي الثاني عشر الذي عقد في مكان غير معلن في شمال العراق في 12 مايو

تعقيبا على قرار "الكردستاني"، قال مسؤول دائرة الاتصال في الرئاسة التركية: "سيتم اتخاذ التدابير اللازمة لضمان مضي عملية حل حزب (العمال الكردستاني) بشكل سلس". فيما رحب رئيس إقليم كردستان العراق نيجيرفان بارزاني بالحدث، واعتبره "خطوة مصيرية تفتح صفحة جديدة في المنطقة، ويعكس نضجا سياسيا ويمهد الطريق لحوار حقيقي، فهذه الخطوة تنهي عقودا من العنف والمعاناة وتقود المنطقة نحو آفاق جديدة من التقدم، وتعبر عن استعدادنا الكامل للاستمرار في تقديم أي مساعدة ودعم لإنجاح هذه الفرصة التاريخية". ومن المتوقع أن تصدر الكثير من الجهات الدولية والإقليمية ترحيبا بالموضوع، تحديدا الولايات المتحدة والدول الأوروبية، مثلما فعلت أثناء توجيه أوجلان لندائه.

في تتبع سيرة حزب "العمال الكردستاني"، يبدو واضحا أن الكفاح المسلح لم يكن خيارا أوليا وجذريا مطلقا بالنسبة له

هل انتهت "حكاية السلاح"؟

لا يُظهر المراقبون الأكراد تفاؤلا مفتوحا بالمجريات الحالية، وغالبيتهم تميل للحذر من الخطوات المستقبلية، التي قد تطيح بكل شيء، وتُرجع الأمور "أسوأ" مما كانت عليها، كما يشرح الباحث في مركز الفرات للدراسات وليد جليلي في حديثه مع "المجلة". ويضيف: "لا يتطلب الأمر الكثير من الحصافة للقول إن المسألة الكردية في تركيا هي من أنتجت الصراع المسلح، وليس العكس. أي إن إنهاء الصراع المسلح لن يعني بالضرورة نهاية القضية الكردية، أو حتى إمكانية اندلاعها بعنف وجذرية أكبر. فالشهور القادمة، ستُظهر إن كانت الدولة العميقة في تركيا، ممثلة راهنا بتحالف حزبي (العدالة والتنمية) و(الحركة القومية) مع المحفلين العسكري والاستخباراتي، هل ستكون قادرة على ملاقاة مبادرة (الكردستاني) سياسيا وتشريعيا أم لا. لأن عدم حدوث ذلك، سيفتح الأبواب واسعة أمام خيبة أمل متجددة في الأوساط الكردية، وهؤلاء بعشرات الملايين في الداخل التركي، وقد يتسبب ذلك بعنف من أشكال مختلفة، مدني وشعبي على الأغلب".

أ ف ب
أكراد سوريون يلوحون بأعلام تحمل صور مؤسس حزب "العمال الكردستاني" عبد الله أوجلان، أثناء تجمعهم في مدينة القامشلي ذات الغالبية الكردية في شمال شرق سوريا للاستماع إلى رسالة من الزعيم المسجون في 27 فبراير 2025

ويضيف الباحث وليد الجليلي المختص بالشؤون الأمنية: "في تتبع سيرة حزب (العمال الكردستاني)، يبدو واضحا أن الكفاح المسلح لم يكن خيارا أوليا وجذريا مطلقا بالنسبة له. فمنذ تأسيسه في عام 1978 وحتى عام 1984 لم يمارس الحزب أي نشاط مسلح، بل كان يستند إلى وعي سياسي ثوري/ماركسي، يؤمن بأن الانتفاضات الشعبية قادرة على إجبار السلطات الحاكمة على القبول بالتفاوض ومنح الحقوق. وحتى مع مرحلة الصراع المسلح المفتوحة (1984-1999)، أي إلى حين اعتقال زعيم (العمال الكردستاني)، فإنه أعلن وقفا لإطلاق النار من طرف واحد لعشرات المرات، ولم يحدث أن انزاح لأي وهمٍ بأن المسألة الكردية يُمكن حلها من خلال العنف والقسر، بل كان يؤكد أن هذه الأخيرة هي للدفع والتأثير ليس إلا، على الرغم من فظاعة الانتهاكات التي طالت مقاتليه أو قواعده الاجتماعية. منذ عام 1999، لم يمارس (العمال الكردستاني) الهجمات المسلحة إلا نادرا، وبغرض التذكير بوجود المسألة الكردية ضمن النقاش السياسي العام في البلاد ليس إلا. كذلك غيّر جذريا من طبيعة أيديولوجيته ونزعاته السياسية، من تنظيم سياسي كان يطالب بتقسيم تركيا وتأسيس دولة كردستان الكبرى، وصولا للقبول بتشكيل دولة ديمقراطية تعترف بالكرد في تركيا. هذه التحولات التي آن للدولة التركية ملاقاتها، ولو قبل منتصف الطريق بمسافة طويلة، ولو لم يحدث، فإن الحكاية ستبدأ من جديد".

font change