لبنان... تمارين جديدة على الدوران في الحلقة المفرغة

سؤال عن مدى قدرة "الشرعية الخارجية" على تأمين أدوات معالجة المآزق الداخلية

أ.ب
أ.ب
رجل يدلي بصوته في مركز اقتراع خلال الانتخابات البلدية في بيروت، لبنان، 18 مايو

لبنان... تمارين جديدة على الدوران في الحلقة المفرغة

أسئلة كثيرة تطرح حول الانتخابات البلدية في لبنان والتي تجري آخر دوراتها في الجنوب السبت المقبل. لعل أبرز هذه الأسئلة هو عن الغاية من إجرائها في هذا الظرف تحديدا ما دام لبنان لم يسلك بعد مسار معالجة التداعيات الكارثية للحرب الأخيرة، خصوصا أن نحو 50 قرية حدودية مدمرة تدميرا كاملا أو جزئيا وأهلها مهجرون.

كذلك فإن إسرائيل لم تتوقف بعد عن قصف الأراضي اللبنانية، وهناك سؤال الآن عما إذا كانت ستترك الجنوبيين ينتخبون بأمان أم إنها ستعكر صفو "العرس الانتخابي"، علما أن الوساطات في هذا الشأن، عبر اللجنة المشرفة على وقف إطلاق النار، يبدو أنها لم تسفر عن نتائج مضمونة. وهنا يدخل منطق "وطني" مفاده أن مجرد إجراء الانتخابات هو تأكيد على الصمود في وجه إسرائيل، لكنّ الوساطات لثني إسرائيل عن التشويش على الانتخابات يضعف هذه الحجة، وهو ما يؤكد أن "الحضور الإسرائيلي" هو الآن جزء من المشهد العام في لبنان ومن الحياة اليومية لاسيما في الجنوب.

ولا شك أن قوى عديدة تقاطعت على إجراء الانتخابات وفي مقدمتها السلطة الجديدة وبالأخص رئيس الجمهورية جوزيف عون الذي استطاع حتى الآن البروز أكثر من رئيس الحكومة نواف سلام، وذلك عائد لأسباب عدة، أهمها أن ثنائي "أمل"-"حزب الله" يميل الآن إلى التعاون مع رئيس الجمهورية الذي يبدي هو الآخر استعدادا لمثل هذا التعاون وبالأخص مع رئيس البرلمان نبيه بري. ذلك بالرغم من أن انتخاب الرئيس عون كان إيذانا ببدء مرحلة جديدة في لبنان على أنقاض "محور حزب الله"، وهي مرحلة مدفوعة أساسا بعجلات أميركية، خصوصا أن واشنطن هي الراعي الرئيس لاتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل و"حزب الله" الموقع في 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، والذي يعتبر المدماك الرئيس للمرحلة الجديدة في لبنان.

ما يجدر التوقف عنده هنا هو أن هذه الانتخابات ما كانت لتحصل لولا موافقة "حزب الله" على إجرائها، لأن رئيس الجمهورية لن يعاكس "الحزب" في مسألة حيوية كهذه، في الوقت الذي يحاول فيه أن يدير المرحلة بشكل لا يؤدي إلى وقوف "الحزب" في وجهه. وربما أن "حزب الله" ماشى إرادة الرئيس بإجراء الانتخابات في محاولة لتمتين العلاقة معه أكثر فأكثر، بالرغم من التوتر الذي سادها غداة انتخابه لكن سرعان ما بدا أن هذا التوتر قد تبدد وأن العلاقة بين الطرفين دخلت مرحلة اختبار جديدة لا يعرف كيف ستنتهي بحسب تطورات الأوضاع، في وقت أن ملف حصر السلاح بيد الدولة والذي يرفع لواءه الرئيس عون تراجع حضوره سياسا وإعلاميا، وقد تقدمت عليه الانتخابات البلدية بكل ما يعنيه حصر السياسة في زواريب المدن والقرى وكأنها مناسبة لتأجيل الملفات الملحة، كمسألة السلاح مثلا والتي لا ينفك الأميركيون يضغطون بشأنها وصولا حتى إلى التلويح بحرب جديدة ضد لبنان في حال لم يفكك "حزب الله" كامل ترسانته كما قالت المبعوثة الأميركية مورغان أورتاغوس أخيرا.

بيد أن الموقف الأميركي عالي السقف يتحول تدريجيا إلى مجرد أداة ضغط على الوضع اللبناني من دون أن تكون له مفاعيل مباشرة على قدرة السلطة الجديدة على معالجة مسألة السلاح، وهو ما يدفعها للتأقلم معه ومداراته، إلا أن لا شيء حاسما في موضوع السلاح، سواء الفلسطيني (حتى بعد زيارة الرئيس محمود عباس) أو اللبناني، ولا في القدرة على الذهاب بعيدا في المسارات الإقليمية الجديدة، لاسيما أن تلك المسارات لم تتضج بعد، وبالأخص مسار التطبيع مع إسرائيل.

معاينة الظواهر الاجتماعية والسياسية التي ستفرزها هذه الانتخابات تبقى دون النتيجة السياسية التي يريدها "حزب الله" منها، والتي يبدو أنه يستطيع تحقيقها حتى الآن

لكن أيا يكن من أمر، سواء أراد "حزب الله" مسايرة رئيس الجمهورية في إجراء الانتخابات البلدية أو أنه منذ الأساس كان مهتما بإجرائها والحث عليها، فإنه سرعان ما حاول الاستفادة من هذه الانتخابات على اعتبار أنها فرصته الرئيسة والأولى بعد الحرب للدخول في صلب اللعبة السياسية ومحاولة تعويم نفسه فيها، ومن ذلك محاولة التبريد مع السلطة الجديدة وعلى رأسها رئيس الجمهورية. ولذلك سرعان ما عزل "حزب الله" هذه الانتخابات عن مطالباته للدولة اللبنانية بإعادة الإعمار وإجبار إسرائيل على الانسحاب من النقاط الحدودية الخمس التي لا تزال تحتلها، ووقف قصفها داخل الأراضي اللبنانية.

كل ذلك غاب عن مقاربة "الحزب" للانتخابات البلدية، وكأنه فصل بين الدولة التي تنظّم الانتخابات وتلك التي عليها معالجة تداعيات الحرب. بمعنى أن "حزب الله" لم يُدخل الانتخابات البلدية في حقل سجاله المتواصل مع الدولة، أي إنه لم يخضها بعناوين سياسية ضدّ السلطة الجديدة ولم يوظفها في "معركته" معها، وهذا دليل على سعيه إلى تبريد المناخ السياسي والإفادة من فرصة الانتخابات البلدية.

أ ف ب
قوات الأمن اللبنانية تتفقد موقع غارة جوية إسرائيلية في بعورتا، قرب بلدة الدامور الساحلية، على بُعد حوالي 20 كيلومترًا جنوب بيروت، في 22 أبريل

لذلك فإن معاينة الظواهر الاجتماعية والسياسية التي ستفرزها هذه الانتخابات تبقى دون النتيجة السياسية التي يريدها "حزب الله" منها، والتي يبدو أنه يستطيع تحقيقها حتى الآن، خصوصا في بيروت والبقاع حيث استطاع "الحزب" أن يعيد تأكيد حضوره الشعبي وقدرته على ضمان التزام "بيئته" بموقفه، وهذا هدف رئيس كان يبتغيه من وراء إجراء هذه الانتخابات. لكن لا شك أن الاستحقاق الرئيس بالنسبة لـ"الحزب" يبقى في الجنوب حيث فاز بالتزكية بنحو 60 مجلسا بلديا من أصل 144 حتى الآن، بينما يحشد "الثنائي" للفوز في العدد الأقصى من البلديات، مع الأخذ في الاعتبار تأثيرات العامل العائلي في الانتخابات المحلية والتي تجعل الخلاصات السياسية أصعب. لكن ما هو مؤكد أن هوامش الحركة السياسية-الأهلية اتسعت في الجنوب بعد الحرب وهو ما ظهر في ترشيحات المستقلين وحتى في تزكية المجالس البلدية، إذ كان للمستقلين دور في ذلك كما حصل في عيتا الشعب، إحدى أكبر القرى الحدودية المدمرة بشكل كامل.

تصرف "حزب الله" في بيروت لناحية تأمين المناصفة في المجلس البلدي لا يحمل دلالات لبنانية وحسب- خصوصا بعد سقوط كل المرشحين المسيحيين في مدينة طرابلس ذات الغالبية السنية- بل دلالات سورية أيضا

لكن اللافت أكثر كان ما فعله "حزب الله" في بيروت حيث تحالف مع خصومه، وبالأخص "القوات اللبنانية"، في لائحة واحدة استطاعت أن تفوز بـ23 مقعدا من أصل 24، وذلك تحت عنوان تحقيق المناصفة بين الأعضاء المسيحيين والمسلمين في المجلس البلدي للعاصمة. وهي مناصفة غير منصوص عليها في القانون ولكنها تحوّلت عرفا تمسك به الرئيس الراحل رفيق الحريري وعدّه أحد أبرز إنجازاته لتأكيد مظاهر العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين. وهو أمر استمر مع "تيار المستقبل" من بعده، وإن بزخم أقل، خصوصا بعد انهيار حركة "14 آذار" التي كانت تجمع "المستقبل" والأحزاب التقليدية المسيحية وأبرزها "الكتائب" و"القوات". أما الآن فقد انتقل "إرث" حفظ المناصفة إلى "حزب الله" في ظل انكفاء "تيار المستقبل" عن الانتخابات.

فعمليا استطاع "حزب الله" تجيير أصواته في بيروت لصالح تأمين هذه المناصفة، ولو كان ذلك سيؤدي إلى فوز مرشحي حزب "القوات اللبنانية" الخصم الرئيس لـ"الحزب" في الانقسام السياسي-الإعلامي في البلد. مع العلم أن التحالف بينهما اقتصر على بيروت بينما حافظا على خصومتهما وأدبياتها في سائر المناطق حيث لديهما تداخل ديموغرافي كما حصل في مدينة زحلة البقاعية التي فاز فيها "القوات".

لكن فوز "القوات" اللافت في الكثير من المناطق، على نحو يكرسه القوة الانتخابية والسياسية الأولى في الوسط المسيحي حاليا، لا يمكن تحميله معاني سياسية أكثر مما يحتمل، كما لو أن "القوات" حل محل "حزب الله" في تسيّد المشهد السياسي، أو كما لو أن فوز "القوات" هو دليل على دخول لبنان مرحلة سياسية جديدة بعد الحرب الأخيرة.

أ.ب
ناخبون ينتظرون في مركز اقتراع للإدلاء بأصواتهم خلال الانتخابات البلدية في بيروت، لبنان، 18 مايو

ففوز "القوات" يبقى محصور الدلائل وذا خصائص مسيحية بالدرجة الأولى، إذا ما قيس على المشهد العام في البلد ولاسيما أن حضور "القوات" في "الدولة العميقة" لا يقارن بحضور "حزب الله" و"أمل" فيها قبل الحرب وحتى بعدها، وإذا ما قيس أيضا بارتباط الوضع اللبناني بالوضع السوري حيث يخفت حضور "القوات" بينما يبقى "حزب الله" حاضرا بحكم موقفه العدائي للنظام الجديد وبحكم أنه ومعه إيران لم يسلما بخسارتهما دمشق.

بالتالي فإنّ تصرف "حزب الله" في بيروت لناحية تأمين المناصفة في المجلس البلدي لا يحمل دلالات لبنانية وحسب- خصوصا بعد سقوط كل المرشحين المسيحيين في مدينة طرابلس ذات الغالبية السنية- بل دلالات سورية أيضا وبالتراكم، على اعتبار أنّ "الحزب" يوجه رسالة للمسيحيين وسائر "الأقليات" في سوريا ولبنان مفادها أنه حريص على "العيش المشترك"، خصوصا في ظل التشكيك في مقاربة الحكم الجديد في سوريا لـ"مسألة الأقليات"، ولا سيما بعد مجازر الساحل في مارس/آذار الماضي، واشتباكه مع الدروز في أبريل/نيسان الماضي.

لعل مجرد تقديم "الشرعية الخارجية"- التي لا يمكن التشكيك في ضرورتها بالنظر إلى طبيعة المآزق الاقتصادية والسياسية والأمنية- يؤسس لتسويات على حساب الإصلاح السياسي والاقتصادي

لكن أخذ المشهد الانتخابي بمجمله، في بيروت وسائر المناطق، يؤكد دوران لبنان في الحلقة المفرغة، إذ إن كل شعارات الإصلاح السياسي والاقتصادي لم تسلك طريقها إلى التنفيذ بشكل جدي، في ظل طغيان الاعتبارات الطائفية، حتى عند حفظ "المناصفة" في بيروت، إذ إن وظائف حفظها كانت وظائف طائفية ومن قبل قوى تنمو بالديناميات الطائفية والمذهبية. وهذا سبب إضافي للسؤال عن أفق الإصلاح السياسي في لبنان ما دامت الغاية من إجراء أول استحقاق انتخابي في ظلّ السلطة الجديدة هو مجرد إجراؤها وليس تضمينها أي مضمون إصلاحي، وذلك لإعطاء انطباع للداخل والخارج بأن عجلة الدولة بدأت بالدوران. وهو ما يطرح سؤالا عن مدى قدرة "الشرعية الخارجية" على تأمين أدوات معالجة المآزق الداخلية، وهذا ينطبق على لبنان وسوريا معا.

ولعل مجرد تقديم "الشرعية الخارجية"- التي لا يمكن التشكيك في ضرورتها بالنظر إلى طبيعة المآزق الاقتصادية والسياسية والأمنية- يؤسس لتسويات على حساب الإصلاح السياسي والاقتصادي، خصوصا في ظل غياب قوى اجتماعية وسياسية وازنة تدفع في اتجاه التغيير، وهو ما دلت عليه الانتخابات الأخيرة. ولا ريب أن السمة الأبرز للمرحلة الراهنة سواء في سوريا أو لبنان، هي أن قطار "الشرعية الخارجية" أسرع من قطار "الشرعية الداخلية"، والتي لن تحقق في لبنان من دون إصلاح سياسي واقتصادي جدي يتيح تمثيل مصالح الفئات المهمشة ويعيد انتاج قنوات الوصول إلى السلطة سواء المحلية أو العامة.

font change