سوريا... هل يتسلل "داعش" من هذه الثغرة؟

يبدو الاستخفاف بالتهديد الذي يشكله سوء تقدير فادح

أ.ب
أ.ب
عناصر من قوات الأمن السورية ينتشرون خلال عملية على أطراف بلدة الشرايا، جنوب دمشق، 30 أبريل

سوريا... هل يتسلل "داعش" من هذه الثغرة؟

اعتُبر اللقاء الأخير بين الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع والرئيس الأميركي دونالد ترمب في المملكة العربية السعودية خطوة تاريخية بارزة نحو إنهاء العزلة الطويلة التي عانت منها سوريا، وتمهيد الطريق لاستقرارها. غير أن الإسلاميين المتشددين، داخل البلاد وخارجها، رأوا في هذا اللقاء خيانة وانحرافا عن "النقاء العقائدي"، ورضوخا لقوى "كافرة". وقد ذهب رجل الدين الجهادي البارز، أبو محمد المقدسي، إلى حد إصدار فتوى تُكفر الشرع وتصفه بالمرتد. وسارع تنظيم "داعش" إلى استغلال هذا الاستياء. إذ غذى التنظيم مخاوف المقاتلين الأجانب من أن تؤدي الانفتاحات الدولية إلى خيانة أو اعتقال أو ترحيل، مستثمرا هذه الهواجس في دفع الانشقاقات واستقطاب مجندين جدد.

وقد تزامنت هذه الحملة الدعائية مع تصاعد ملحوظ في نشاط "داعش" داخل المناطق الواقعة تحت سلطة الحكومة الانتقالية. إن تلاقي الغضب الأيديولوجي، وحملات التضليل الاستراتيجي، وتجدد النشاط العسكري، يشير إلى ما هو أبعد من مجرد دعاية: إنه محاولة مدروسة من قبل "داعش" لإعادة التموضع في لحظة وطنية هشة. فبدلا من التركيز الحصري على استعادة الأراضي، بات التنظيم يستغل مشاعر الإحباط والخوف والسخط السياسي للحفاظ على حضوره وتأثيره. وفي هذا المنعطف الحرج، لا يكمن الخطر في تحركات "داعش" وحدها، بل في قدرة سوريا– أو عجزها– عن الاستجابة الفعالة.

عودة التجنيد إلى الحياة

لطالما نظرت "داعش" إلى "هيئة تحرير الشام" بوصفها منافسا مباشرا لها، غير أن العداء بين الطرفين ازداد حدة بشكل ملحوظ منذ انهيار نظام الأسد في ديسمبر/كانون الأول. ففي الأشهر التي أعقبت السقوط، دأب التنظيم على استخدام نشرته الأسبوعية "النبأ" لمهاجمة السلطات الجديدة، واصفا إياها تارة بالمرتدة، وتارة أخرى مشبها حكمها بطغيان أنظمة عربية أخرى.

واليوم، تبدو ملامح استراتيجية جديدة آخذة في التشكل، إذ بدأ التنظيم يوجه دعواته مباشرة إلى المقاتلين الأجانب في سوريا، حاثا إياهم على الانسلاخ من انتماءاتهم الحالية والانضمام إلى صفوفه. فعلى الرغم من أن "داعش" ظل في صراع محتدم تاريخيا مع الفصائل الجهادية الأخرى في سوريا، فإن الإدانات الواسعة التي أطلقها الإسلاميون المتشددون تجاه الانفتاح الدبلوماسي الأخير للرئيس أحمد الشرع على القادة الغربيين، أفسحت له المجال لاستغلال حالة القلق المتصاعد.

"داعش"، أكثر من أي جهة أخرى، هو المستفيد الأكبر من حالة الخوف وفقدان الثقة

وفي إطار ما يُعد أوضح جهود التنظيم في مجال التجنيد منذ سنوات، وجهت صحيفة "النبأ" دعوة صريحة للمقاتلين الأجانب– بمن فيهم عناصر "هيئة تحرير الشام" الذين شعروا بالإحباط– للالتحاق بالتنظيم، مستغلة مخاوفهم من أن تقوم الحكومة الانتقالية بتهميشهم أو خيانتهم، خاصة في سياق سعيها إلى نيل الشرعية الدولية.

ومن خلال تقديم نفسه بوصفه "الحارس الأمين" للجهادية العقائدية، يسعى تنظيم "داعش" إلى استعادة مكانته عبر طرح نفسه كخيار بديل يقدم نقاءً أيديولوجياً، وأمانا، وهدفا جديدا لأولئك الذين وجدوا أنفسهم معزولين بسبب التحولات السياسية الأخيرة.

حملات التضليل

لم يتردد تنظيم "داعش" أيضا في استغلال وسائل التواصل الاجتماعي لبث تحذيرات موجهة إلى المقاتلين الأجانب، محذرا من أن الشرع سيقوم في نهاية المطاف بخيانتهم من أجل كسب ود المجتمع الدولي. وقد تزامنت هذه التحذيرات مع تداول مزاعم على الإنترنت تفيد بأن السلطات الانتقالية أطلقت حملة أمنية تستهدف المقاتلين الأجانب.

ورغم أن الدور المباشر للتنظيم في نشر هذه المزاعم لا يزال غير مؤكد، فإن تزامن الروايات وتكرارها لا يوحي بالصدفة. فـ"داعش"، أكثر من أي جهة أخرى، هو المستفيد الأكبر من حالة الخوف وفقدان الثقة التي تولدها هذه الحملات.

أ.ف.ب
لوحة إعلانية تحمل صورة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس الأميركي دونالد ترمب، مع شعار يشكر المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة، في دمشق، 14 مايو

ولا يزال من الصعب قياس مدى تأثير هذه الرسائل على المقاتلين الأجانب داخل سوريا. ومع ذلك، فإن إصدار وزارة الداخلية السورية بيانا عاما تنفي فيه وجود أي حملة اعتقال من هذا النوع، يشير إلى أن الشائعات أُخذت على محمل الجد، وتم التعامل معها باعتبارها تهديدا يستوجب الرد الرسمي.

العودة الميدانية

لم تظهر هذه الجهود الإعلامية من العدم، بل رافقها تزايد ملحوظ في نشاط "داعش" في المناطق الخاضعة لسيطرة السلطات الجديدة. ووفقا لمصادر ميدانية، بدأ عناصر التنظيم في بادية حمص بالتسلل إلى المناطق الحضرية، وهو ما يتوافق مع نمط التنظيم المتكرر في استغلال الثغرات في الفترات الانتقالية لاستعادة موطئ قدم له.

لا يحتاج "داعش" إلى استعادة المدن كي يستعيد مكانته. ففي دولة تعاني من آثار حرب امتدت لأكثر من عشر سنين، يعد انعدام الاستقرار هو الأكسجين الذي يمده بالقدرة على الاستمرار

وعلى الرغم من عدم التحقق من هذا التحرك بشكل مستقل، فإنه ينسجم مع تقارير عن اعتقال السلطات الجديدة لخلايا تابعة لـ"داعش" في كل من درعا وحلب وإدلب. وتزعم السلطات أيضا أنها أحبطت هجمات كانت مخططة، بما فيها مؤامرات استهدفت مقام السيدة زينب وإحدى كنائس معلولا. ورغم كل تلك الجهود، نجح التنظيم في تنفيذ تفجير مدمر بسيارة مفخخة على موقع أمني في الميادين بدير الزور يوم 18 مايو/أيار، مما أسفر عن مقتل خمسة من عناصر قوات الأمن السورية. وفي الآونة الأخيرة، اتهمت السلطات الانتقالية خلية تابعة لتنظيم "داعش" بتنظيم سلسلة من الاغتيالات استهدفت عناصر من الأمن العام في إدلب. والإثنين، 26 مايو أعلن قائد الأمن الداخلي في ريف دمشق حسام الطحان، القبض على عدد من أفراد تنظيم "داعش"، وضبط كميات من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة، ومنها قواعد صواريخ وعبوات ناسفة وسترات انتحارية.

انتقال هش

لم يستعد تنظيم "داعش" مكانته وقوته السابقتين ولم يشتد عوده بعد، ومع ذلك يبدو الاستخفاف بالتهديد الذي يشكله سوء تقدير فادح، فقلة تواتر هجماته لا يمثل مقياسا دقيقا للخطر المحتمل، إذ كثيرا ما انتهج التنظيم أسلوب الصمت التكتيكي حيث يلجأ إلى فترات من الكمون الظاهري، يعيد خلالها بناء صفوفه بهدوء، ويرسخ خلاياه النائمة، وينتظر اللحظة المناسبة للانقضاض.

إن هشاشة المرحلة الانتقالية في سوريا هي التي تجعل من تنظيم "داعش" خطرا حقيقيا في هذه اللحظات الحرجة. ففي ظل انقسام البلاد على أسس أيديولوجية وطائفية وسياسية، حتى العمليات الصغيرة أو حملات التضليل الإعلامية قد تفضي إلى عواقب وخيمة. يدرك "داعش" هذا الأمر، ويعمل على تكييف استراتيجيته وفقا لذلك؛ فها هو يضخم المخاوف، ويستغل حالة عدم الرضا، ويقدم نفسه كبديل مخلص لأولئك الذين خاب أملهم.

رويترز
مقاتلون إسلاميون متشددون يشاركون في عرض عسكري في شوارع محافظة الرقة شمال سوريا، 30 يونيو 2014

إن تداول تسجيل مزيف مؤخرا يحرض على العنف ضد الدروز ليس سوى مثال واحد على الكيفية التي تستطيع بها الجماعة تسليح الوعي الجمعي بنفس الفعالية التي استخدمت فيها القوة في السابق.

لا يحتاج تنظيم "داعش" إلى استعادة المدن كي يستعيد مكانته. ففي دولة لا تزال تعاني من آثار حرب امتدت لأكثر من عشر سنين، يعد انعدام الاستقرار هو الأكسجين الذي يمده بالقدرة على الاستمرار، وللأسف فهواء البلاد مشبع به.

ولكي تتمكن سوريا من المضي قدما، يتعين على الحكومة الانتقالية أن تسعى إلى ما هو أبعد من الاستهداف المباشر لعناصر "داعش"، إذ يتحتم عليها معالجة الأسباب الجذرية من ظلم منهجي، ومظالم لم تعالج، وإقصاء سياسي... وكلها عوامل تغذي التطرف. وفشل الحكومة في الاضطلاع بهذا الدور سوف يمنح "داعش" ما تسعى إليه بالتحديد: طريق العودة من الظلال.

font change

مقالات ذات صلة