المحادثات الروسية -الأوكرانية... تقدم طفيف

أ.ف.ب
أ.ف.ب
الوفدان الأوكراني والروسي خلال الجولة الثانية من محادثات السلام في إسطنبول

المحادثات الروسية -الأوكرانية... تقدم طفيف

عُقدت الجولة الثانية من المحادثات بين روسيا وأوكرانيا في قصر "جراغان" التاريخي المطل على مضيق البوسفور في إسطنبول، بعد نحو أسبوعين من الاجتماع الأول الذي عُقد في 16 مايو/أيار.

وترأس الوفد الروسي فلاديمير ميدينسكي، مستشار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أما الوفد الأوكراني فكان برئاسة وزير الدفاع رستم عمروف. وجاءت هذه الجولة على خلفية المساعي التركية الحثيثة وجهودها الدبلوماسية للتوسط بين روسيا وأوكرانيا بهدف التوصل إلى اتفاق. ففي الأسبوع الماضي، أجرى وزير الخارجية التركي هاكان فيدان سلسلة من اللقاءات رفيعة المستوى، بدأها بلقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو، تلاه لقاء مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في كييف. وقد أسفرت هذه الجهود عن موافقة الطرفين على إرسال وفديهما إلى إسطنبول للمشاركة في الجولة الثانية من المحادثات.

وعلى غرار الجولة الأولى، تولى هاكان فيدان رئاسة الاجتماع الثاني، الذي استمر لأكثر من ساعة بقليل. وخلال الاجتماع، شدد فيدان على أن إحلال السلام المستدام سيسهم في حل الكثير من القضايا العالمية، مثل أمن الطاقة والغذاء والنقل، مؤكدا استعداد بلاده لبذل كل ما في وسعها لتيسير هذا المسار ودفعه قدما.

وكان من المفترض أن يقدّم الجانبان، الروسي والأوكراني، "مذكرة سلام" تتضمن مواقف كل طرف تمهيدا لمناقشتها خلال الاجتماع. وقد التزمت أوكرانيا بالموعد المحدد وقدّمت مذكرتها مسبقا، بينما قدّمت روسيا وثيقتها أثناء انعقاد الاجتماع، ما حال دون تمكّن الوفد الأوكراني من دراسة المقترح الروسي والرد عليه على نحو وافٍ.

وتصدّرت خارطة الطريق الأوكرانية دعوة إلى وقف شامل وغير مشروط لإطلاق النار، باعتباره الخطوة الأولى نحو التوصل إلى اتفاق سلام. كما تضمنت المطالب الأوكرانية تبادل أسرى الحرب، وإعادة الأطفال الذين اختطفتهم روسيا، إضافة إلى الإفراج عن جميع المدنيين المحتجزين.

واقترحت أوكرانيا كذلك عقد اجتماع رفيع المستوى بين قادة الدول بنهاية الشهر الجاري، مؤكدة تمسكها بسياستها الاستراتيجية الرامية إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، ومشددة في الوقت ذاته على ضرورة الحصول على ضمانات أمنية تحول دون أي هجوم روسي مستقبلي.

تواصل روسيا تحركاتها في ملف تبادل الأسرى، إلا أنها وصفت الادعاءات الأوكرانية بشأن اختطاف الأطفال بأنها "كاذبة"

في المقابل، طرحت روسيا مقترحا لوقف جزئي لإطلاق النار، يقتصر على مناطق محددة من خطوط الجبهة، وربطت التوصل إلى وقف شامل بانسحاب القوات الأوكرانية من دونتسك ولوهانسك وزابوروجيا وخيرسون، والاعتراف الدولي بالمناطق التي تسيطر عليها منذ عام 2014، بما في ذلك شبه جزيرة القرم. كما اشترطت وقف الدعم العسكري والاستخباري الذي تتلقاه أوكرانيا من الغرب، إلى جانب رفع حالة الطوارئ داخل البلاد، وإجراء انتخابات قبل توقيع أي اتفاق سلام.

وتواصل روسيا تحركاتها في ملف تبادل الأسرى، إلا أنها وصفت الادعاءات الأوكرانية بشأن اختطاف الأطفال بأنها "كاذبة". وعلى الرغم من هذا التباين، توصّل الطرفان إلى اتفاق على تنفيذ أوسع عملية تبادل أسرى منذ اندلاع الحرب.

أ.ف.ب
رئيس الوفد الروسي فلاديمير ميدينسكي، يدلي ببيان بعد الجولة الثانية من المحادثات المباشرة بين الوفدين الأوكراني والروسي في إسطنبول، في 2 يونيو

وتعتزم روسيا تسليم جثامين ستة آلاف جندي أوكراني خلال الأسبوع المقبل، بالتوازي مع عمليات تبادل للجرحى والمرضى من كلا الجانبين. ومن المقرر تشكيل لجنة مشتركة بين موسكو وكييف لتنسيق تبادل الجنود الذين تعرضوا لإصابات خطيرة، بعيدا عن أي حسابات سياسية، إلى جانب تنظيم عملية تبادل متزامنة للعسكريين الذين تقل أعمارهم عن 25 عاما.

كما اقترحت روسيا "هدنة محددة" تمتد ليوميْن أو ثلاثة في بعض مناطق الجبهة، فيما اتفق الجانبان على هدنة جزئية لتيسير تسلّم قادة الوحدات جثث الجنود القتلى.

من جانبه، وصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الاجتماع بأنه "جيد للغاية"، معربا عن رغبته في استضافة لقاء يجمع بين الرئيسين فلاديمير بوتين وفولوديمير زيلينسكي في إسطنبول أو أنقرة خلال الفترة المقبلة، مشيرا إلى إمكانية إشراك الرئيس الأميركي دونالد ترمب أيضا. وفي هذا السياق، أكدت المتحدثة باسم البيت الأبيض أن ترمب منفتح على المشاركة في مثل هذا الاجتماع، إذا ما عُقد بالفعل.

وجاء اجتماع إسطنبول بعد يوم واحد فقط من تنفيذ أوكرانيا سلسلة هجمات بطائرات مسيّرة استهدفت عمق الأراضي الروسية، وُصفت بأنها الأعنف منذ اندلاع الحرب في عام 2022.

وتُعد هذه الهجمات امتدادا لعمليات نوعية نفذتها أوكرانيا في مراحل سابقة، من أبرزها: إغراق السفينة "موسكفا"، الرائدة في أسطول البحر الأسود الروسي، عام 2022، وتفجير جسر كيرتش الاستراتيجي؛ إلى جانب توغل القوات الأوكرانية في منطقة كورسك داخل الأراضي الروسية عام 2024، وسيطرتها على مساحات واسعة منها. كما نُفذت سلسلة من عمليات الاغتيال التي استهدفت ضباطا روسيين رفيعي المستوى داخل روسيا، ونُسبت إلى جهات مجهولة.

وفي إطار عملية "شبكة العنكبوت"، أطلقت أوكرانيا أعدادا كبيرة من الطائرات المسيّرة المخبأة داخل الأراضي الروسية، مستهدفة قواعد عسكرية في أنحاء البلاد على بُعد آلاف الكيلومترات من الحدود الأوكرانية الروسية.

أ.ف.ب
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي خلال لقائه مع وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في كييف في 30 مايو

وشملت الأهداف قاعدة بيلايا في منطقة إيركوتسك قرب حدود منغوليا في سيبيريا، وقاعدة أولينيا ضمن الدائرة القطبية في مورمانسك شمال غربي روسيا، وقاعدة ديجيلفو بمنطقة ريازان، وقاعدة إيفانوفو بوسط البلاد. وتتراوح المسافات بين هذه المنشآت العسكرية والحدود الأوكرانية من 500 إلى 4500 كيلومتر.

وأفادت أوكرانيا بأنها استخدمت 117 طائرة مسيّرة في تنفيذ هذه الهجمات، مؤكدة أنها نجحت في تدمير أكثر من 30 في المئة من ناقلات الصواريخ الاستراتيجية الروسية، وما يزيد على 41 طائرة حربية، وقدّرت حجم الخسائر الروسية الناتجة عن هذه الضربات بنحو سبعة مليارات دولار.

رغم استمرار المسار الدبلوماسي واحتمال تنفيذ اتفاقات جزئية، فإن من يعرفون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يرون أن الرد على العملية الأوكرانية المدوية قادم لا محالة

وفي المقابل، وصفت وزارة الدفاع الروسية هذه العمليات بأنها "هجمات إرهابية"، موضحة أنها استهدفت مناطق عدة، وهي مورمانسك، إيركوتسك، إيفانوفو، ريازان وأمور. وأضافت أن معظم هذه الهجمات جرى "صدها"، وأنه جرى اعتقال أشخاص يُشتبه بتورطهم في تنفيذها.

وقال الرئيس الأوكراني زيلينسكي إن العناصر السرية التي نظّمت هذه العمليات غادرت روسيا بأمان.

وتسيطر روسيا حاليا على نحو 20 في المئة من الأراضي الأوكرانية، بما في ذلك شبه جزيرة القرم التي ضمّتها عام 2014 وأجزاء من شرق البلاد.

لم تُفضِ الجولة الثانية من المحادثات إلى اتفاق سلام، وهو ما لم يكن متوقعا في هذه المرحلة. ومع ذلك، يمكن النظر إلى محادثات إسطنبول بوصفها خطوات أولية إيجابية على الطريق الصحيح، بينما يبقى القرار النهائي بشأن السلام رهينا بإرادة القادة.

أ.ف.ب
قصر سراغان قبل الاجتماع الثاني لمحادثات السلام بين الوفدين الروسي والأوكراني في إسطنبول، في 2 يونيو

وفي الوقت الذي يختبر فيه الطرفان المتحاربان نوايا بعضهما البعض، ينجحان في التوصل إلى تفاهمات محدودة، كاتفاقات تبادل الأسرى واستعادة الجثث، ما يعكس وجود هامش للدبلوماسية. إلا أن القضايا الجوهرية، وعلى رأسها مسألة الأراضي والضمانات الأمنية، ما زالت تُشكل عوائق حقيقية، إذ لا يظهر أي من الجانبين استعدادا للتراجع أو تقديم تنازلات.

ولطالما اعتُبرت روسيا الطرف الأقوى ميدانيا في هذه الحرب، غير أن عملية "شبكة العنكبوت" كشفت عن قدرات أوكرانيا القتالية وإمكانياتها في توجيه ضربات موجعة داخل العمق الروسي، ما يعني أن كييف لم تدخل محادثات إسطنبول بوصفها الطرف الأضعف.

ورغم استمرار المسار الدبلوماسي واحتمال تنفيذ اتفاقات جزئية، فإن من يعرفون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يرون أن الرد على العملية الأوكرانية المدوية قادم لا محالة. بالنسبة لهم، السؤال لم يعد إن كان سيرد، بل متى سيرد؟ ومع ذلك، يُتوقَّع أن يعود الطرفان إلى طاولة الحوار مجددا، في محاولة أخرى لإيجاد حل نهائي.

font change