أعادت الغارات الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت مساء الخميس خلط الأوراق في لبنان، بعد أن بدا أن البلد بدأ "يتعايش" مع السير في مسارات مختلفة وكأنه يحيا أكثر من حياة في آن معا... واحدة في الجنوب على وقع الغارات الإسرائيلية المتواصلة منذ وقف إطلاق النار في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وأخرى في بقية المناطق حيث الحياة شبه عادية مع الاستعداد لموسم سياحي بدأ الترويج بأنه سيكون واعدا. وبين هذا المسار وذاك، تسير محركات الحكم الجديد ببطء شديد، بعد خفوت الزخم العربي والدولي الذي رافق ولادته بل وكان دافعه الرئيس.
الغارات الإسرائيلية الأخيرة والتي كانت الأعنف والأوسع رقعة منذ توقيع وقف إطلاق النار- إذ دمر القصف تسعة مبانٍ تدميرا كليا، وقد تضرر جراءه 71 مبنى، و50 سيارة و177 مؤسسة- أعادت طرح الأسئلة القديمة الجديدة عن كيفية الخروج من المأزق الراهن وتحديدا لناحية مواصلة إسرائيل هجماتها في لبنان من دون أي رادع، بل هذه المرة بغطاء أميركي، كما أعلنت وسائل إعلام إسرائيلية، في وقت أن واشنطن هي "عرابة" اتفاق وقف إطلاق النار. وهذا وضع استثنائي لا يملك لبنان أي أدوات لمجابهته ووضع حد له، وفي الوقت نفسه فإن استمراره يفوق طاقة البلد المنهك اقتصاديا والمحتقن سياسيا على تحمله.
وكان لافتا اعتبار رئيس الجمهورية جوزيف عون أن الغارات الإسرائيلية هي "رسالة يوجّهها مرتكب هذه الفظاعات، إلى الولايات المتحدة الأميركية وسياساتها ومبادراتها أولاً"، بينما لوّح الجيش اللبناني إلى إمكانية تجميد التعاون مع لجنة مراقبة وقف إطلاق النار بعد أن أصرت إسرائيل على قصف ثمانية مبان في الضاحية الجنوبية رافضة دخول الجيش إليها للكشف عليها.
المهم في موقف عون، والذي جاء بعكس تسريبات الإعلام الإسرائيلي، وكذلك في موقف قيادة الجيش، ليس قراءة احتمالات التباينات الأميركية الإسرائيلية الراهنة وتأثيرها على لبنان- بالرغم من أن الفيتو الأميركي ضد مشروع قرار لوقف الحرب الأربعاء، يشكك في حدود هذه التباينات- بل المهم أن الغارات الإسرائيلية الخميس، سواء في توقيتها أو حجمها، تؤشر إلى إمكان انتقال "المواجهة" إلى مرحلة جديدة قد تبشّر بصيف "واعد"، ولكن ليس سياحيا هذه المرة بل عسكري وأمني.
فتوسيع إسرائيل لغاراتها على وقع تهديدات وزير دفاعها بـ"أنه لن يكون هناك هدوء في بيروت ولا نظام ولا استقرار في لبنان من دون أمن دولة إسرائيل"، يؤكد في هذا التوقيت الإقليمي والدولي "المرتبك" أن تل أبيب يمكن أن تستغل أي "فسحة" أميركية- أو حتى أي تباين مع واشنطن- لتكثيف هجماتها في لبنان، ولاسيما أن غارات الخميس أكدت أن الخط الأحمر الأميركي لعدم قصف إسرائيل أهدافا داخل إيران لا ينسحب على معقل "حزب الله" في بيروت. كما أكدت هذه الغارات أن قرار "تنحية" مبعوثة دونالد ترمب إلى لبنان مورغان أورتاغوس والذي لم يصدر رسيما بعد، لا يعكس تغييرا في السياسة الأميركية تجاه لبنان، وهي سياسة لم تكن واضحة أصلا، إلا في ما يخص توفير غطاء لإسرائيل لمواصلة هجماتها في لبنان. وهذا مكمن هشاشة الوضع اللبناني برمته، إذ لا ضمانة حقيقية لوقف إطلاق النار وبالتالي لا ضمانة سياسية متينة للحكم الجديد.
وكان الحديث عن الإصلاح وحصر السلاح بيد الدولة قد تراجع خلال الأسابيع الماضية لصالح الحديث عن الخلاف بين "حزب الله" ورئيس الحكومة نواف سلام، وعن التجاذبات بين الأخير ورئيس الجمهورية. بالتالي فإذا كان من المتوقع أن لا تدوم "سكرة" الإصلاح طويلا فإنها جاءت أقصر مما كان متوقعا.
هذا لا يعني أن لبنان لن يشهد تحسنا في أداء الحكم والإدارة بالقياس إلى المرحلة السابقة لكن ذلك كله يبقى دون الإصلاح الذي يعيد تركيب الحياة السياسية والاقتصادية فيه بما يجعله بلدا يتحقق فيه أعلى قدر ممكن من المساواة والعدالة الاجتماعية، بحيث لا يبقى الاقتصاد محصورا بدائرة ضيقة ولا تبقى السياسة محصورة أيضا بدائرة ضيقة على ما بين هاتين الدائرتين من صلات وثيقة ومحكمة. بالتالي فإن أي إصلاح حقيقي هو ذلك الذي يكسر هاتين الدائرتين أو يفتحهما بالحد الأدنى أمام لاعبين جدد ومن "تحت". وهذا مستحيل من دون إعادة تركيب البلد من جديد، نظاما ودولة ومجتمعا ومنظومة قيم، وهو ما يعد خطا أحمر إقليميا ودوليا في المرحلة الراهنة وليس داخليا وحسب. كما أن النظم الاقتصادية السائدة راهنا تجعل من المستحيل تحقيق إصلاح اقتصادي يتمحور حول تأمين الحقوق الأساسية للمواطن الفرد.
بيد أن المشكلة الرئيسة أن سقف الإصلاح المنخفض يقابله سقف مرتفع جدا من التوقعات والوعود والآمال بشأن بناء الدولة والنهوض بلبنان، وهو ما يجعل الإصلاح أداة بيد السلطة التي تحتكر تعريفه وليس عنوان اشتباك بينها وبين المجتمع الذي يفترض أن يكون شريكا في عملية الإصلاح من خلال الضغط على السلطة والأخذ منها ومطالبتها بالمزيد. فالإصلاح لا يكون من طرف واحد، أي من طرف السلطة التي تمثل حقلا واسعا من المصالح لا تنطبق بالضرورة مع مصالح المجتمع ككل، بل هي في بلد كلبنان ضدّ المجتمع بالضرورة.
ولا ريب أن الاستعاضة عن مفردة الإصلاح بمفردة الإصلاحات- استخدمها النائب محمد رعد بعد لقائه سلام الأربعاء- هي دليل إلى أن الإصلاح كمفهوم جذري غير مطروح وبعيد المنال، بينما الإصلاحات مفهوم فضفاض وجزئي يطال قطاعات معينة فتبقى دون الإصلاح بمعناه الواسع والمشروط بقيام اشتباك حقيقي بين القوى الاجتماعية المتضررة من أداء القوى السياسية المهيمنة ونظامها الاقتصادي. وهو اشتباك غائب في ظل تدجين القوى الاجتماعية تلك، كالحركة العمالية والنقابية والطالبية، أو إنهاكها على مدى سنوات طويلة من الحروب والانهيارات الاقتصادية والمالية وتشوهات البنى الاجتماعية وقيمها.
فعندما تكون سردية الإصلاح حكرا على أطياف الحكم وعنوانا للاشتباك بينها وبين بعضها البعض، لا بينها وبين القوى الاجتماعية، يبتعد الإصلاح أكثر فأكثر ويتحول إلى فقاعة خطابية تستخدمها القوى النافذة ضد بعضها البعض في ظل غياب أي مساءلة أو محاسبة حقيقية من قبل المجتمع المقموع إن لم يكن بأدوات السيطرة المادية فبأدوات الدعاية السياسية والسردية الرسمية المهيمنة. وهذا مسار لم يبدأ مع السلطة الجديدة ولكنه أصبح أكثر وضوحا على اعتبار أنه كلما ابتعدنا عن لحظة "17 تشرين" 2019، أي عن لحظة الانتفاضة الشعبية، اقتربنا أكثر من العودة إلى ما قبل هذه اللحظة لناحية إعادة إنتاج أدوات التحكم السياسية والاقتصادية نفسها.