الشرق الأوسط والتغيّر المستمر

أ.ف.ب
أ.ف.ب
فتاة فلسطينية تنظر في منزل متضرر، في حي الصفطاوي، غرب جباليا، شمال قطاع غزة، بعد استهدافه في غارة إسرائيلية يوم 9 يونيو

الشرق الأوسط والتغيّر المستمر

لا تضاهي الشرق الأوسط منطقة أخرى في العالم، من حيث التغير المستمر الذي يحدث فيها، إلا شرق أوروبا. لم يكف الشرق الأوسط عن التغير طول أكثر من قرن، وربما أكثر. فقد عُرف مصطلح الشرق الأوسط واستُخدم للمرة الأولى في مطلع القرن العشرين، وصار متداولا في الخطابات السياسية والإعلامية والأعمال البحثية والأكاديمية، بدلا من مصطلح الشرق الأدنى الذي كان قد ظهر منذ القرن الخامس عشر خلال فترة الكشوف الجغرافية، في الوقت الذي أُطلق مصطلح الشرق الأقصى على الصين واليابان وغيرهما من بلدان شرق آسيا ووسطها.

وقد سُك مصطلح الشرق الأوسط في إطار تفاعلات سياسية كانت جديدة بُعيد الحرب العالمية الأولى. وعُرف أول استخدام سياسي له عندما أُنشئت إدارة الشرق الأوسط في وزارة المستعمرات البريطانية عام 1921 حين كان ونستون تشرشل وزيرا لها. والملاحظ أن مجال عملها اقتصر في البداية على فلسطين وشرق الأردن والعراق، قبل أن يتوسع نطاقه بعد سنوات. فمن أهم سمات هذا المصطلح أنه يفتقر إلى التحديد الدقيق لمجاله الجغرافي. فقد ضُيق أحيانا، ووُسع في أحيان أخرى، حسب مقتضيات التطورات السياسية والعسكرية، أو وفقا لخلفية من يستخدمه وأهدافه. فهو يمتد من مصر غربا إلى وسط آسيا شرقا في أوسع تحديد لمجاله الجغرافي، فيما يقتصر على مصر والمشرق والخليج العربيين في أضيق تعريف لهذا المجال.

ورغم افتقار مصطلح الشرق الأوسط إلى التحديد الدقيق، فقد ظلت المنطقة المقصودة في تعريفاته المختلفة من أكثر مناطق العالم إثارة للاهتمام السياسي والشغف العلمي، ربما لأنها مسرح لصراعات وحروب مستمرة. وهي أيضا أكثر المناطق التي يشمل الاهتمام بها محاولات لتغييرها، بعد منطقة شرق أوروبا التي استهدفتها الدول الغربية في مرحلة الحرب الباردة الدولية التي انتهت بتغييرها جذريا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي السابق، وهي الآن موضع صراع حاد ينطوي على محاولة جديدة لتغييرها، ولكن من جانب روسيا وريثة الاتحاد السوفياتي. في الوقت الذي تسعى فيه حكومة بنيامين نتنياهو في إسرائيل إلى تغيير الشرق الأوسط أيضا. فقد تحدث نتنياهو، وكرر، على مدى أكثر من عام أن حرب حكومته على قطاع غزة تُغيّر الشرق الأوسط. وكان آخر حديث له في هذا الموضوع حتى الآن يوم 28 أبريل/نيسان الماضي عندما قال أمام الكنيست: "سنُغير وجه الشرق الأوسط، وهذا ما ننفذه بالفعل الآن عبر كسر محور الشر في غزة ولبنان وسوريا ومواقع أخرى". وواضح في حديثه المتكرر أنه يقصد ليس فقط تغيير أنماط التفاعلات الإقليمية بعد كسر ما يُطَلق عليه المحور الإيراني، ولكن أيضا وضع إسرائيل في قلب الشرق الأوسط لتكون هي مركزه الرئيس.

كسر "المحور الإيراني" لم يحدث في الأساس بسبب نجاحات حققتها حكومة نتنياهو، بل نتيجة سوء تقدير قيادة "حزب الله" وجمود نظام بشار الأسد الذي لم يماثله جمود

وقد نجحت حكومة نتنياهو في كسر هذا المحور دون أن تقضي عليه أو تُقوّض أركانه بشكل كامل. ولكن نجاحها هذا لا يجعلها مركز "الشرق الأوسط الجديد" الذي تسعى إليه إسرائيل منذ تسعينات القرن الماضي عندما نشر رئيس وزرائها الأسبق شيمعون بيريز كتابه الذي يحمل هذا الاسم عام 1994، وقدم فيه تصورا للتعاون فى مختلف المجالات. ولكن على عكس بيريز الذي تطلع إلى تغيير الشرق الأوسط بواسطة السلام والتفاهم، تحاول حكومة نتنياهو إحداث هذا التغيير عن طريق حرب يقول أقطابها إن إسرائيل تخوضها على سبع جبهات.

ومثلما لم يفلح السلام في بناء "الشرق الأوسط الجديد" الذي تريده إسرائيل لأنه ظل سلاما منقوصا ومنزوعا منه جوهره وهو حل قضية فلسطين، لا يوجد ما يدل على أن الحرب ستُمكّن حكومة نتنياهو من الوصول إلى هذا المبتغى، بل ربما تبعد إسرائيل عنه أكثر من أي وقت مضى منذ آخر سبعينات القرن الماضي. فلم تكن إسرائيل معزولة في المنطقة منذ ذلك الوقت كما هي الآن، وحتى علاقتها السلمية الممتدة منذ 1979 مع مصر يشوبها الآن توتر متزايد وغير مسبوق منذ أربعة عقود ونصف العقد. كما أن عزلتها الدولية النسبية تبدو بدورها غير مسبوقة في تاريخها بعد أن غيَّرت جرائم الحرب المتوالية في قطاع غزة صورتها التي كانت قد نجحت في تسويقها، أو أظهرتها على حقيقتها في رأي خصومها.

أ.ف.ب
دبابة إسرائيلية تقف عند الحدود مع قطاع غزة، في 11 يونيو

كما أن كسر "المحور الإيراني" لم يحدث في الأساس بسبب نجاحات حققتها حكومة نتنياهو، بل نتيجة سوء تقدير قيادة "حزب الله" وجمود نظام بشار الأسد الذي لم يماثله جمود. وتتحمل قيادة "حزب الله" المسؤولية الأولى عن إضعاف "المحور الإيراني" عندما أعلنت شن ما سمتها "حرب إسناد المقاومة" في قطاع غزة دون تدبر أو استبصار. ولو أنها لم تقدم على هذه الحرب ما أصبح "حزب الله" في حالة الضعف التي يعاني منها الآن.

لقد أُسقط نظام بشار الأسد بسبب إنكاره ومعاندته الواقع، وإصراره على عدم التقدم خطوة واحدة باتجاه حل سياسي في سوريا، علاوة على تجاهله نصائح عربية تلقاها منذ أن بُدئ في محاولة تعويمه إقليميا وإعادته إلى جامعة الدول العربية قبل أكثر من عام من إسقاطه.

ربما لم يتصور نتنياهو، في أية مرة تحدث فيها عن هذا التغيير، أنه سيقوي دور المملكة العربية السعودية الذي كان قويا أصلا، وسيضعها هي وليس إسرائيل في مركز الشرق الأوسط

لا يعود لإسرائيل، إذن، الفضل الأول في التغيير الذي حدث في "المحور الإيراني". فقد حصل نتيجة تداعيات الأحداث منذ هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. والمهم هنا أن إضعاف "المحور الإيراني" لم يؤد إلى تقوية دور إسرائيل الإقليمي، ناهيك عن أن يضعها في مركز الشرق الأوسط ويكفل لها قيادته وفق ما تسعى إليه.

وربما لم يتصور نتنياهو، في أية مرة تحدث فيها عن هذا التغيير، أنه سيقوي دور المملكة العربية السعودية الذي كان قويا أصلا، وسيضعها هي وليس إسرائيل في مركز الشرق الأوسط. وكانت زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى المنطقة في منتصف مايو/أيار الماضي شاهدا على هذا التطور. فقد أظهرت المكانة التي تتمتع بها الرياض في الشرق الأوسط، جنبا إلى جنب مع تنامي دورها في حل النزاعات الدولية. فلا ينظر ناظر إلى الشرق الأوسط اليوم إلا وجد الرياض في قلبه، فيما تفقد إسرائيل كل يوم المكاسب الإقليمية التى كانت قد حققتها في إطار ما أُطلق عليه "اتفاقات إبراهيم" وغيرها من التطورات التي كانت تشي بدور متزايد لها في المنطقة.

الشرق الأوسط يتغير إذن ومجددا. لم يبلغ هذا التغير نهايته بعد، ولم تتضح بشكل كامل الصورة التي ستكون عليها المنطقة في السنوات المقبلة. ولكن بات واضحا أن إسرائيل لن تكون هي مركز الشرق الأوسط، وأن حلمها بقيادة المنطقة يتبدد مرة جديدة.

font change