تاريخ المفاوضات السورية الإسرائيلية "المبهمة"... بين 1936 و1954https://www.majalla.com/node/325981/%D9%88%D8%AB%D8%A7%D8%A6%D9%82-%D9%88%D9%85%D8%B0%D9%83%D8%B1%D8%A7%D8%AA/%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%81%D8%A7%D9%88%D8%B6%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A8%D9%87%D9%85%D8%A9-%D8%A8%D9%8A%D9%86-1936-%D9%881954
تتجه الأنظار اليوم إلى مفاوضات السلام السورية–الإسرائيلية التي من المتوقع أن تبدأ قريبا، بعد توقف منذ سنة 2008. كانت آخر جولة محادثات غير مباشرة، بواسطة تركيا والرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، وقد فشلت بسبب تعنت بشار الأسد الذي لم يكن جديا في أمرها لكي لا يغضب حلفاءه الإيرانيين. وطبعا هناك عشر سنوات من المفاوضات سبقتها في 1990-2000، ولكن هذه الجولات معروفة للجميع وقد كتب عنها الكثير من قبل المؤرخين وعدد من المشاركين بها، منهم دينيس روس، ومارتن أنديك، ووزراء خارجية أميركيون، مثل وارن كريستوفر، ومادلين أولبرايت. أما قبلها، فهناك جولات عدة بقيت مبهمة ولم يكتب عنها إلا القليل، تعود "المجلة" إليها اليوم بعد اللقاء الأخير بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره السوري أحمد الشرع.
أول مفاوضات رسمية بين الطرفين كانت في صيف عام 1936، وتختلف فيها الروايات والأقاويل
الخلفية التاريخية
كانت الحركة الصهيونية العالمية تطمح للتواصل مع الزعماء العرب بهدف البحث عن داعمين لمشروعها المستقبلي في فلسطين، وكانت تغريهم بالوعود المالية والدعم السياسي، للتخلص من العثمانيين، أو من الفرنسيين والبريطانيين من بعدهم. وقد جاء من الوكالة اليهودية إلى دمشق في عام 1913، ومجددا في عامي 1918-1919، وفي عام 1932، الدكتور حاييم وايزمان لشراء أراضٍ زراعية خصبة في فلسطين، من مالكيها السوريين. ولكن أول مفاوضات رسمية بين الطرفين كانت في صيف عام 1936، وتختلف فيها الروايات والأقاويل. أول من نشر محاضر هذه المفاوضات كان المؤرخ الكندي نايل كابلان في كتابه المرجعي "Futile Diplomacy" الصادر سنة 2005، وقد تحدث عنها الرئيس شكري القوتلي أمام الوزير الفرنسي السابق بنوا ميشان أثناء زيارته إلى دمشق في شهر أغسطس/آب عام 1958، كما كتب عنها أمين عام الرئاسة السورية عبد الله الخاني في كتاب صدر في بيروت عام 2003، وورد ذكرها في أوراق الزعيم السوري فخري البارودي، التي كانت محفوظة في مركز الوثائق التاريخية بدمشق، ولا نعرف إن كانت النيران قد أصابتها في حريق سوق ساروجا الكبير في 16 يوليو/تموز 2023.
الجولة الأولى: 16 يوليو 1936
في شهر مارس/آذار 1936، توجه وفد من "الكتلة الوطنية" إلى باريس للتفاوض على مستقبل سوريا والمطالبة بإنهاء الانتداب الفرنسي القائم منذ سنة 1920. كان يحكم فرنسا في حينها السياسي الاشتراكي اليهودي ليون بلوم، رئيس الوزراء، فتواصل ديفيد بن غوريون مع أحد أعضاء الوفد السوري جميل مردم بك في باريس، وعرض عليه المساعدة في إنجاح المفاوضات، نظرا لما للصهاينة من تأثير على بلوم. تزامنا مع هذا الاجتماع، وصل دمشق في 17 يوليو إلياهو أبشتاين، عضو القسم العربي في الوكالة اليهودية، والذي أصبح بعد سنة 1948 أول سفير إسرائيلي في واشنطن، ومعه إلياهو ساسون، اليهودي الدمشقي الذي غادر بلاده قبل خمس سنوات للعمل مع الوكالة الصهيونية.
مزارع على الطريق بين دمشق والقدس، عام 1956
اجتمعا بنائب دمشق وزعيمها فخري البارودي في دار الأخير ببلدة دوما القريبة من دمشق، العاصمة السورية، وعرضا عليه وضع حد للهجرة اليهودية من أوروبا، تماشيا من قدرة الاستيعاب السكانية في فلسطين. كما وعدا بدعم مساعي أعضاء وفد "الكتلة الوطنية" المفاوض في فرنسا مقابل دعمهم للحركة الصهيونية في فلسطين ضد مفتي القدس الحاج أمين الحسيني، صاحب اليد العليا في الثورة المشتعلة في البلاد منذ أبريل/نيسان 1936.
أجابهم البارودي: "بذلتُ قصارى جهدي لتهدئة الأمور، وقد أراد آلاف الناس الذهاب إلى فلسطين لمساعدة إخوانهم، لكننا منعناهم وأحبطنا الكثير من محاولات تهريب الأسلحة. كما دافعنا عن اليهود السوريين من هجمات الصحافة وحشود الشارع، أما بالنسبة للاشتباكات نفسها، فلا يمكن لأي قوة في العالم أن تضع حدا لها، لأن الناس غاضبون مما تقومون به في فلسطين".
طالب البارودي بإجراءات بناء الثقة بين الطرفين، وبأن تستخدم الوكالة ما لديها من نفوذ في فرنسا لإنجاح مفاوضات باريس: "تملكون أنتم الخبرة والمال، ونحن لدينا القوة البشرية والأرض للنهوض بهذه المنطقة عندما تستقل عن الإنكليز والفرنسيين".
رغم توقيع وفد "الكتلة الوطنية" على معاهدة مع حكومة ليون بلوم في سبتمبر 1936، فإن مجلس النواب الفرنسي لم يصادق عليها وقام برفضها، وفي اعتقاد السوريين، يعود ذلك إلى عدم التعاون مع الحركة الصهيونية
الجولة الثانية: 1 أغسطس 1936
انتهت مفاوضات البارودي عند هذا الحد ولم تنتج عنها أي اتفاقية. عاد وفد من الوكالة للاجتماع به بعد أسبوعين، هذه المرة في فندق بلودان القريب من العاصمة السورية. ضم الوفد إلياهو إبشتاين ودوف هوز، مسؤول الحركة العمالية في الوكالة، ومعهم موشي شاريت، الذي أصبح أول وزير خارجية إسرائيلي بعد سنة 1948 وثاني رئيس وزراء بعد ديفيد بن غوريون. ومن الجانب السوري حضر الاجتماع فخري البارودي وشكري القوتلي ولطفي الحفار، وجميعهم من قادة الصف الأول في "الكتلة الوطنية". بدأ القوتلي بسؤال اليهود عن مدى أحقيتهم التاريخية في فلسطين، قائلا: "إن كان الأمر للتاريخ، فهل يمكننا إذن المطالبة بالأندلس؟". أجابوه: "دعونا نتكلم في الاقتصاد أولا، فهو أنفع بكثير من التاريخ والسياسة". خاطب إبشتاين مضيفيه بالقول: "عند النظر إلى هذا الصراع قد يبدو للوهلة الأولى أن مصالحنا متضاربة، وأنه لا يوجد أي مجال للتفاهم. ولكن في نظرةٍ واقعيةٍ وغير عاطفية سوف تجدون أن مصالحنا في الحقيقة متطابقة، لو أردنا لها أن تكون. كونوا على ثقة أننا لا نريد أي اتفاق معكم على حساب الفلسطينيين. على العكس، وجودنا سينفعهم كثيرا في المجالات الاقتصادية". سأله البارودي: "ما المطلوب منا بالتحديد؟". فأجابه: "يجب على الكتلة الوطنية أن تُعلن عن فهمها وتقديرها لمطالبنا، وأن تَقبل حقنا التاريخي في إنشاء وطنٍ قوميٍ لليهود في فلسطين".
رفض أعضاء الكتلة إعطاء أي تعهد من هذا السبيل، وانصرف الوفد وهو خالي الوفاض.
الجولة الثالثة: 25 أغسطس 1936
في الجولة الثالثة والأخيرة مع الصهاينة قبل عام 1948، عقد الاجتماع في فندق بلودان أيضا وضم من الجانب الصهيوني أبا إيبان، الذي أصبح مندوب بلاده في الأمم المتحدة عام 1949، وشكري القوتلي الذي أصبح رئيسا عام 1943، ومعه عميد كلية الحقوق الأسبق في الجامعة السورية فائز الخوري، شقيق الرئيس فارس. طلب إيبان من القوتلي أن يضع كتابا لمفتي القدس يدعوه فيه لوقف القتال في فلسطين، ولكن الأخير رفض، فجاءه الجواب: "كم تحتاجون؟ مليون جنيه إسترليني؟ نحن جاهزون. وإن أردتم خمسة ملايين جنيه أو عشرة ملايين، أو حتى 100 مليون، نحن جاهزون".
أجابهم: دعني أسأل، كم عددكم أنتم اليهود في بريطانيا وفي فرنسا؟
قالوا له: ما يقارب نصف مليون في كل منهما.
القوتلي: "نصف مليون في بريطانيا وتسيطرون على أكبر إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، ونصف مليون في فرنسا... ثاني أكبر إمبراطورية... وتريدون أن تأتوا بأربعة ملايين أو خمسة ملايين أو عشرة ملايين يهودي إلى فلسطين وتساعدوننا لإقامة دولة عربية واحدة من 8 ملايين فقير جاهل لتسيطروا عليهم؟ أؤكد لكم أننا في خلاف تام معكم، وهذا الأمر محسوم من قبلنا".
وعندها جاء عرض أبا إيبان: "سمعنا أن وفدا من طرفكم سافر مؤخرا إلى باريس لإجراء مفاوضات مع الحكومة الفرنسية. نحن على أتم استعداد لمساعدتكم في هذه المفاوضات لأن ليون بلوم، كما تعرفون جيدا، هو يهودي، ويمكننا أن نطلب منه أن يوقع على معاهدة تضمن لكم الاستقلال والسيادة الكاملة في سوريا".
انتهى الاجتماع دون التوصل إلى اتفاق، وعلى الرغم من توقيع وفد "الكتلة الوطنية" على معاهدة مع حكومة ليون بلوم في سبتمبر 1936، فإن مجلس النواب الفرنسي لم يصادق عليها وقام برفضها، وفي اعتقاد السوريين، يعود ذلك إلى عدم التعاون مع الحركة الصهيونية. ويقول الدكتور منير العجلاني سنة 1999، وكان عضوا شابا في "الكتلة الوطنية" عام 1936، بأنه سمع من الحاج أمين الحسيني بأن أدولف هتلر قال له حرفيا: "عندما دخلت قواتنا وزارة الخارجية الفرنسية بعد احتلال باريس، وجدنا وثائق من الوكالة الصهيونية تطلب من الحكومة الفرنسية عدم تمرير المعاهدة السورية في المجلس الوطني (البرلمان) إلا بعد إبرام اتفاق بين اليهود والسوريين".
تجفيف مياه الحولة
كانت هذه المحادثات الفنية تدور على خلفية توتر أمني ناجم عن رغبة إسرائيل في تجفيف مياه سهل الحولة في الزاوية الشمالية الشرقية من فلسطين. في وسط السهل كانت تقع بحيرة الحولة المحاطة بمستنقعات في قسمها الشرقي، عمقها لا يتجاوز الستة أمتار، طولها 26 كيلومترا وعرضها في أوسع نقطة ثمانية كيلومترات فقط. قررت إسرائيل تجفيف مياه البحيرة وسحبها إلى صحراء النقب لزيادة مخزون الثروة المائية والاستفادة من أرض الحولة الخصبة. قانونيا، تسلحت إسرائيل في قرارها بمناقصة قديمة لتجفيف البحيرة أعطيت لرئيس بلدية بيروت عمر بيهم والوجيه ميشال سرسق عام 1914، ولكنها لم تنفذ بسبب اندلاع الحرب العالمية الأولى. بيع الامتياز للحكومة العثمانية وورثته حكومة الانتداب الفرنسي عام 1920، ليتم بيعه مجددا لإحدى أذرع الوكالة الصهيونية المسؤولة عن شراء الأراضي الفلسطينية عام 1934، مقابل مبلغ 192 ألف جنيه إسترليني.
كان الشيشكلي حاد الذكاء، وقال لنظيره الإسرائيلي: "السلام بالنسبة لي لا يعني تطبيع العلاقات، ولا يعني أي تبادل تجاري أو ثقافي، أو حتى رفع علم إسرائيل في دمشق. هو مجرد وقف للأعمال القتالية
في صباح يوم 12 فبراير/شباط 1951 بدأت الجرافات الإسرائيلية بالعمل على بعد أربعة كيلومترات من بحيرة الحولة، دون الرجوع طبعا لا إلى الأمم المتحدة ولا إلى الحكومة السورية. قدمت دمشق اعتراضا رسميا للأمم المتحدة، ونقل الاعتراض السوري إلى لجنة الهدنة بحضور وسطاء دوليين وجميع أعضاء الوفدين السوري والإسرائيلي.
في عرضه للموقف السوري، تحدث غسان جديد قائلا: "حكومة بلادكم تقول إنها حصلت على مشروع تجفيف المياه من حكومة الانتداب الفرنسي، المنتهية صلاحيتها منذ قرابة خمس سنوات. نحن اليوم حكومة شرعية ومستقلة لها سيادة كاملة، فلا تستطيعون التطاول على أراضيها وحقوق مواطنيها بهذا الشكل. نحن في سوريا لا نعترف بحق هذا الامتياز والذي مضى عليه قرابة الأربعين سنة، وحتى لو ثبتت شرعيته، فهو لا يتضمن التجريف والتجفيف في المنطقة المنزوعة السلاح، ولا يحق لإسرائيل دخول تلك المنطقة المتفق عليها دولياً كما نصت المادة الخامسة من اتفاقية الهدنة المبرمة بيننا وبينكم".
رد رئيس الجانب الإسرائيلي بأن الامتياز المذكور أعطي قانونيا للوكالة اليهودية عام 1934، أي قبل الاتفاق على المنطقة المنزوعة السلاح بخمسة عشر سنة، وبذلك فلا علاقة له باتفاقية الهدنة أو بأي صراع قائم اليوم بين سوريا وإسرائيل. توقفت الجرافات لمدة شهر كامل ثم عادت للعمل دون سابق إنذار يوم 13 مارس 1951، فطلب غسان جديد اجتماعا مستعجلا وخاطب نظيره الإسرائيلي قائلا: "الجرافات عادت إلى العمل مجددا هذا الصباح، وإن لم تتوقف فورا فسوف ترد سوريا بما تراه مناسبا".
تدخلت الأمم المتحدة في الساعة الرابعة عصرا ومنعت الجرافات الإسرائيلية من العودة إلى البحيرة، فوافقت إسرائيل على إيقاف الأعمال على ضفتي البحيرة لمدة أسبوع، اعتبارا من 14 مارس. قالت إنها لن تعاود العمل قبل أن تحصل على موافقة خطية وقانونية من مالكي الأراضي الفلسطينيين والسوريين، ووعدت بدفع مبلغ مالي لتعويض المتضررين منهم من تلك الأعمال. يبدو أن هذا القرار اتخذ من قبل وزير الخارجية موشي شاريت دون التشاور مع رئيس الحكومة ديفيد بن غوريون، الذي تجاهله تماما وأمر الجرافات بالعودة إلى العمل في الحولة في صباح 14 مارس.
خلال توقيع معاهدة التحالف الفرنسية السورية، في مقرّ وزارة الخارجية الفرنسية من قبل ممثلين عن البلدين، في 9 أكتوبر 1936
وفي التاسعة والنصف صباحا، تعرضت الورشات الإسرائيلية لإطلاق نار بأسلحة خفيفة من قبل مدنيين موجودين قرب البحيرة، أصاب إحدى الجرافات وعطلها. اعترضت إسرائيل، وقالت إن مصدر النيران كان جنودا سوريين متنكرين بلباس مدني. وُجهت أصابع الاتهام إلى غسان جديد، بصفته قائد كتيبة المشاة الثامنة الموجودة مقابل المنطقة المنزوعة السلاح. رد جديد على هذا الاتهام: "لا يمكن تحميل الحكومة السورية مسؤولية أي أعمال فردية يقوم بها أصحاب الأراضي العربية في سهل الحولة، ردا على عمليات استفزازية تقوم بها إسرائيل على أراضيهم".
بعدها بأيام دخلت سوريا في أزمة وزارية دامت ثمانية عشر يوما، قامت خلالها إسرائيل بمعاودة الأعمال على بحيرة الحولة. عرضت الأمم المتحدة عقد اجتماع عسكري للتوصل إلى اتفاق يزيل عوامل هذا التوتر، وقد جاءت الموافقة من دمشق على إرسال العقيد الشيشكلي، نائب رئيس أركان الجيش وصاحب اليد العليا في البلاد منذ انقلابه على اللواء سامي الحناوي في نهاية عام 1949، وأرسلت إسرائيل نظيره الشاب، الكولونيل موردخاي ماكليف، إلى هذا الاجتماع الذي عقد في مبنى الجمارك السورية على الحدود الفلسطينية يوم 29 مارس 1951.
مفاوضات الشيشكلي ماكليف
كان الشيشكلي حاد الذكاء، وقد قال لنظيره الإسرائيلي: "السلام بالنسبة لي لا يعني تطبيع العلاقات بيننا وبينكم، ولا يعني كذلك أي تبادل تجاري أو ثقافي، أو حتى رفع علم إسرائيلي في دمشق. هو مجرد وقف للأعمال القتالية، ولا مانع لدي من ذلك لأنني أخشى أن يستمر هذا الصراع العسكري طويلا لو لم نضع حدا له الآن، وأن يأتي أشخاص من بعدنا يستخدمون هذا الصراع لتحقيق أغراض مالية أو سياسية، ويتاجرون به على حساب استقلال سوريا".
في أعقاب الانقلاب الأول الذي جرى في سوريا يوم 29 مارس/آذار 1949، دخل حسني الزعيم في مفاوضات سرية مع دولة إسرائيل وبالتوازي، في مفاوضات رسمية وعلنية للتوقيع على اتفاقية الهدنة
أعرب الشيشكلي عن استعداده لتجميد الصراع مع إسرائيل قائلا: "أتمنى هذا كرامة للأجيال القادمة، لكي ينعموا ببلد آمن وسالم، تعود خيراته لبناء المدارس والجامعات بدلا من الثكنات العسكرية".
كان الشيشكلي هو من وزع السلاح على الفلاحين السوريين– بواسطة غسان جديد- لكي يضربوا بها الجرافات الإسرائيلية، دون أن تتحمل الحكومة السورية تبعات ذلك الهجوم. قال له المفاوض الإسرائيلي: "إن تجفيف مياه الحولة أمر مصيري بالنسبة لنا، وهو لن يتوقف أبدا.
اقترب منه الشيشكلي وسأله: "كم عمرك يا كولونيل؟".
استغرب ماكليف وأجاب: 31 سنة.
- الشيشكلي: هل أتيت من أوروبا إلى هذه البلاد؟
- ماكليف: لا، أنا ولدت هنا في قرية صغيرة قريبة من القدس عام 1920.
- الشيشكلي: وأهلك هل ولدوا في نفس القرية؟
- ماكليف: لا... لقد جاءوا من أوروبا.
- الشيشكلي: ولكن من يطلقون النيران عليكم– هؤلاء الفلاحون– آباؤهم ولدوا هنا، وكذلك أجدادهم.
وفد إسرائيل محاط بمؤيديه في الأمم المتحدة، آبا إيبان، مندوب إسرائيل لدى الأمم المتحدة، وعلى اليسار وزير الخارجية موشيه شاريت، رئيس وزراء إسرائيل المستقبلي
- ماكليف: أنا أعرفك جيدا يا أديب، تماما كما تعرفني أنت. أتذكر الحرب الأخيرة، يوم كنت أنا قائدا لفرقة عسكرية في الجليل، وأنت تحاربنا مع عصابات العميل النازي فوزي القاوقجي؟ لدينا معلومات كاملة عنك وأنت تعرف كل شيء عني، لذلك دعنا ندخل في صميم الأزمة الحالية. أريد أن أعرف شيئا واحدا فقط، وهو مصدر النار الذي أصاب آلياتنا في الحولة اليوم؟
- الشيشكلي: مصدره سكان المنطقة المنزوعة السلاح.
- ماكليف: لدينا معلومات استخباراتية دقيقة تؤكد أن مصدر النيران كان قوات الجيش السوري، أو من يعمل لصالحه، فلا يمكن لأحد أن يدخل تلك المنطقة إلا بموافقة رسمية من هيئة الأركان في دمشق، والتي تعمل أنت فيها اليوم.
- الشيشكلي: لو كان هذا الكلام صحيحا، ولو ثبت أنه جندي سوري أعدك أنه سيعاقب. لا نستطيع التحكم بتصرفات الناس، وجميع أفراد الشعب السوري غاضبون منكم ومن تجاوزاتكم. أغلب الظن أن الفاعل هو أحد مالكي تلك الأراضي في سهل الحولة. لو وافق أهالي الحولة على ما تقومون به من أعمال، فلا مانع لدينا من استكمال الحفريات، شرط أن تتم فقط على الضفة الغربية من البحيرة.
استمر الاجتماع خمس ساعات متواصلة، وخرج الطرفان منه دون أي اتفاق. استكملت إسرائيل الأعمال في بحيرة الحولة بشكل أوسع نطاقا وأعلنت أن المنطقة منزوعة السلاح هي منطقة إسرائيلية بالكامل، لا سلطة لحكومة دمشق عليها. وبعدها أمرت بإخلاء قريتين عربيتين في الحولة ودمرتهما بشكل كامل.
أثار هذا الأمر غضب أديب الشيشكلي ورئيس الوزراء خالد العظم، فجاء الرد السوري هذه المرة بإطلاق نار مجهول على دورية شرطة إسرائيلية بالقرب من قرية الحمة يوم 4 أبريل 1951.
في اليوم التالي، قامت أربع طائرات إسرائيلية بقصف مركز شرطة الحمة ومواقع سورية قرب السكة الحديد، وأفيد بمقتل امرأتين وإصابة ستة أشخاص. وفي 2 مايو/أيار 1951 فتحت القوات السورية النار على جنود إسرائيليين، ردا على العدوان، وتوقف التصعيد عند هذا الحد.
أصدر مدير مكتب الشيشكلي الصحافي قدري القلعجي كتابا بعنوان "عدو إسرائيل رقم واحد"، وصارت الصحف السورية تطلق عليه هذه التسمية عند تغطية أخباره على صفحاتها الأولى.
مفاوضات عام 1952
في أعقاب الانقلاب الأول الذي جرى في سوريا يوم 29 مارس/آذار 1949، دخل حسني الزعيم في مفاوضات سرية مع دولة إسرائيل وبالتوازي، في مفاوضات رسمية وعلنية للتوقيع على اتفاقية الهدنة. وفي بعض الأحيان، كانت الخطوط تتشابك وقد طلب من أحد أعضاء لجنة الهدنة، المقدم غسان جديد، تمرير رسائل إلى الجانب الإسرائيلي الممثل في هذه المباحثات الجانبية بشابتاي روزين، المستشار القانوني في وزارة الخارجية الإسرائيلية. كانت الجلسة الأولى في 20 يوليو 1949، والثانية في أول أغسطس من العام نفسه، قبل أسبوعين من الإطاحة بالزعيم ومقتله.
طلب المفاوض الإسرائيلي من غسان جديد السماح ليهود سوريا بزيارة أقربائهم في إسرائيل، ولكنه رفض، ثم اجتمع الطرفان داخل سوريا لمناقشة سبل مكافحة الجراد في الحقول المتشابكة بين سوريا وإسرائيل
بعد مقتل حسني الزعيم، حافظت إسرائيل على هذا الخط، وقررت أن تكون مباحثاتها المقبلة مع غسان جديد ذات طابع فني في العلن، وسياسي في الباطن، على أمل أن يؤدي ذلك إلى خلق جو من التعاون الإيجابي مع دمشق. لتكون المحادثات مرنة من دون تكليف، لم تُدعَ الأمم المتحدة إليها، ومحاضرها اليوم موجودة في الأرشيف الوطني الإسرائيلي وفي مكتب مراقبة الهدنة في دمشق.
جرى اللقاء الأول بتاريخ 9 يناير/كانون الثاني 1952، بحضور غسان جديد والكولونيل أريه فرايدلاندر. اجتمع الوفدان ثمانية عشر مرة في عام 1952، وثلاث مرات عام 1953، ومرتين عام 1954. وقد حذر الجانب السوري من ضرورة إبقاء هذه المفاوضات سرية وعدم تسريبها إلى وسائل الإعلام، وكانت الجلسة الأولى مخصصة لقضية صيادي السمك السوريين في بحيرة طبريا. في اللقاء الثاني يوم 22 يناير 1952، طرح موضوع تبادل الأسرى بين الطرفين وفي 10 أبريل تمت مناقشة موضوع الحواجز العسكرية التي كانت إسرائيل قد نصبتها مقابل قرية الدرباشية على حدود بحيرة الحولة. ثم طرح موضوع الفلاحين السوريين الذين حرموا من أرضهم، واتفق الطرفان على السماح لهم بدخولها للعمل فقط وليس للإقامة، شرط أن تكون ضمن مساحة كيلومتر واحد من الحدود.
تطرق غسان جديد إلى معاناة أهالي قريتي كراد البقارة، وكراد الغنامة، مشيرا إلى أنهم عالقون على الجانب الإسرائيلي من الحدود ولا يمكنهم دخول الأراضي السورية. سمحت إسرائيل لهم بالزيارة، شرط أن يكون رب الأسرة موجودا في سوريا وأن يتعهد بعودة أفراد أسرته بعد إتمام الزيارة.
طلب المفاوض الإسرائيلي من غسان جديد السماح ليهود سوريا بزيارة أقربائهم في إسرائيل، ولكنه رفض ذلك. وفي 24 أبريل اجتمع الطرفان داخل الأراضي السورية لمناقشة سبل مكافحة الجراد في الحقول المتشابكة بين سوريا وإسرائيل، وإمكانية مد خط هاتف عسكري للطوارئ. سأل فرايدلاندر عن إمكانية التعاون في حال الهبوط الاضطراري لأي طائرة إسرائيلية في مطار دمشق، أو أي طائرة سورية في تل أبيب، فقال غسان جديد إنه قابل للدراسة ولكن على مستوى الزوارق فقط وليس الطائرات، وبالفعل تم السماح لعدد من الزوارق بدخول المياه الإسرائيلية خلال فترات الضباب الشديد والعواصف. كما توصل الطرفان إلى اتفاق شفهي حول المواشي العالقة خلف الحدود منذ عام 1948، يقضي إما بتبادلهم بشكل سلمي أو بالتعويض عنها ماديا في حال فناء تلك الحيوانات، وتحديدا الأبقار الهولندية التي صادرتها القوات السورية من مستعمرة عكوش خلال الحرب الفلسطينية.