الحرب الإسرائيلية – الإيرانية ودور قاعدة التنف الأميركية

الهدف الحقيقي هو الحد من قدرة إيران على البقاء مصدر تهديد لإسرائيل

US Army
US Army
جنديان اميركيان في قاعدة التنف في سوريا في 12 مارس

الحرب الإسرائيلية – الإيرانية ودور قاعدة التنف الأميركية

تدخل الحرب الإيرانية–الإسرائيلية أسبوعها الثاني وسط مؤشرات توحي بأنها سلكت مسار اللاعودة إلى نقطة "الحرب الباردة" التي كانت عليها قبل الثالث عشر من الشهر الحالي. فالحرب، التي كان الطرفان يتوقعانها أصلا، تختلف في عقيدتها العسكرية والقتالية عن سواها من الحروب المباشرة وغير المباشرة التي شهدتها المنطقة اعتبارا من السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، إذ إنها تنشب هذه المرة بين دولتين وليس بين فصائل مقاومة وإسرائيل.

ومن المعروف أن أي حرب بين دولتين تنتهي بانتصار إحداهما على الأخرى، إذا لم يتوافر وسيط يعمل على وقفها، أو مبادرة أممية تفرض على الدولتين "ستاتيكو" معينا كما حصل مؤخرا بين باكستان والهند ودخول الوسيط الأميركي على خط التسوية بينهما وسحب فتيل التوتر الذي كان يهدد الاستقرار العالمي برمته.

بالعودة إلى الظروف السياسية والدبلوماسية المحيطة بهذه الحرب نجد أنها بدأت في خضم المفاوضات الأميركية-الإيرانية حول الملف النووي الإيراني في كل من روما ومسقط، ولم تكن المؤشرات حينها توحي بأن هذه المفاوضات قد وصلت إلى طريق مسدود، من دون أن يعني ذلك أنها كانت تسير بخطى متسارعة وتحقق إنجازات نوعية ولافتة. ورأى المحللون في هذه المفاوضات رغبة أميركية تنسجم مع السياسة التي يسلكها الرئيس ترمب منذ انتخابه وهي سحب فتيل التوتر في المنطقة، وعدم الشروع في تدخل عسكري مباشر أو غير مباشر، والتفرغ إلى جبهة أخرى وهي معالجة الخطر الاقتصادي المتمثل في الصين.

تم التمهيد للحرب بإعلان وكالة الطاقة الذرية قبل يوم على بدء الحرب أن إيران لا تمتثل لالتزاماتها المتعلقة بمنع الانتشار النووي، وصوَّت 19 عضوا لصالح هذا الإعلان وعارضته ثلاث دول وامتنعت 11 دولة عن التصويت. مما اعتبر تفويضا دوليا مسبقا لإسرائيل لضرب القدرة النووية الإيرانية، لأن الوقت الفاصل بين قرار الوكالة وبدء الهجوم الإسرائيلي ليس كافيا وفق المعادلات العسكرية للتحضير لهجوم من دولة على دولة أخرى.

لم تغب عبارة الخارطة الجديدة للشرق الأوسط عن الخطابين السياسي والعسكري الإسرائيلي منذ بدء التطورات العسكرية في المنطقة أواخر عام 2023، وأصبحت هذه العبارة ذات دلالات ميدانية بعد سقوط النظام السوري وتحييد سوريا نهائيا عن الساحة الإقليمية، وكذلك تحييد الجبهتين اللبنانية والعراقية. الأمر الذي وجد فيه نتنياهو فرصة للقضاء على رأس المحور الممانع مستفيدا من تعثر المفاوضات الأميركية–الإيرانية في الملف النووي، وموحيا للإدارة الأميركية بأنه إذا مارس ضغطا عسكريا على إيران فذلك من شأنه أن يدفع بها إلى تقديم تنازلات في هذا الملف، لكن الهدف الحقيقي هو الحد من قدرة إيران على البقاء مصدر تهديد لإسرائيل، وقد أكد نتنياهو نفسه هذا الأمر عندما قال إن هذه الحرب ستغير وجه العالم.

بعد الضربات الجوية والصاروخية الأميركية على المنشآت النووية الإيرانية، بدا واضحا أن الولايات المتحدة معنية أيضا بعدم إطالة أمد الحرب

أما في المعطيات العسكرية، فإن إسرائيل تدرك أنه لم يكن ممكنا لأميركا أن تقف على الحياد في حرب تشنها إسرائيل على إيران. ففي الحروب التي شنتها في كل من لبنان وغزة واليمن والعراق كان الدعم الأميركي يقوم على الإمداد بالعتاد والذخائر والمعلومات الاستخباراتية والدعم التقني والسياسي، أما اليوم فأميركا تبدو معنية مباشرة بهذه الحرب ونتائجها، وتدل على ذلك تصريحات الرئيس الأميركي الذي ذهب أبعد من الأهداف التي وضعتها إسرائيل في بداية الحرب، إذ دعا النظام الإيراني إلى الاستسلام، وهذا في المفهوم العسكري يعني خضوع إيران كليا للشروط الأميركية. ووجد الرئيس الأميركي نفسه معنيا أكثر بالتدخل في هذه الحرب لأن الحروب التي تخوضها إسرائيل على جبهتي لبنان وغزة لم تصل إلى الخواتيم التي تريدها إسرائيل، وهي القضاء على أي وجود عسكري معاد لها، فجبهة غزة تشهد من حين لآخر عمليات عسكرية متبادلة، ولم يتم التوصل إلى أي تسوية من شأنها وقف الحرب، والإفراج عن الرهائن، ورفع الحصار الإنساني عن أهالي غزة. وعلى الجبهة اللبنانية لا تزال إسرائيل، ومن خلفها الولايات المتحدة والمجتمع الدولي، يضغطون على الدولة اللبنانية لتنفيذ الشق المتعلق بها في ما يخص نزع سلاح "حزب الله". وربما راهن الإسرائيليون على أن ضرب إيران من شأنه أولا أن يغير خارطة النفوذ السياسي والعسكري في المنطقة، وثانيا التأثير على حركية الجبهات الأخرى بغض النظر عن فاعليتها ومستوى التهديد الذي تمثله بالنسبة لإسرائيل.

 أ ف ب
رسالة شكر للرئيس الاميركي دونالد ترمب في تل أبيب بعد قصف المنشآت النووية الايرانية في 22 يونيو

وبعد الضربات الجوية والصاروخية الأميركية على المنشآت النووية الإيرانية، بدا واضحا أن الولايات المتحدة معنية أيضا بعدم إطالة أمد الحرب، لسببين: الأول هو أنها لا تريد الوقوع في مستنقع حرب استنزاف ستصرفها عن الاهتمام بملفات أخرى في العالم تؤثر على الشأن الداخلي الأميركي أكثر مما يؤثر فيه الملف النووي الإيراني، والثاني هو أن استمرار الحرب لفترة طويلة من شأنه أيضا استنزاف قدرات إسرائيل العسكرية والمدنية، فالصور التي يتم تسريبها من الداخل الإسرائيلي تشير بوضوح إلى أن المجتمع الإسرائيلي، والمدني تحديدا، لن يكون بمقدوره طويلا تحمل النتائج الميدانية التي يخلفها سقوط الصواريخ الإيرانية. فضلا عن الخسائر الاقتصادية التي كان الاقتصاد الإسرائيلي يعاني منها أصلا من حوالي السنتين. وهذا لا يعني التقليل من حجم الاستهدافات الإسرائيلية للعمق والمنشآت الإيرانية العسكرية والمدنية، لكن الفارق الجوهري بين الدولتين أن المنشآت الإيرانية تتوزع على مساحات متباعدة تفرضها طبيعة الأراضي الإيرانية الشاسعة، بخلاف الوضع في إسرائيل التي تتجمع كل مرافقها الحيوية، المدنية والعسكرية والاقتصادية، في بقعة محدودة جغرافيا مما يجعل من أي منها هدفا سهلا لأي هجوم صاروخي إيراني.

تجد القيادة الإيرانية نفسها أمام حرب يضع الأميركيون والإسرائيليون لها هدفا واحدا هو إسقاط النظام، والإيرانيون يعملون عسكريا للحؤول دون ذلك

في المقابل تجد القيادة الإيرانية نفسها أمام حرب يضع الأميركيون والإسرائيليون لها هدفا واحدا هو إسقاط النظام، والإيرانيون يعملون عسكريا للحؤول دون ذلك. وهم يعرفون كما الإسرائيليين، أن لا دور للوسطاء في هذه الحرب، والتي لو طالت ولم تؤدِ إلى سقوط النظام فمن غير المستبعد أن يقبل الطرفان بتسوية لم تتبين بعد شخصية عرّابيها، تقول إسرائيل بموجبها أنها حدت من الخطر النووي الإيراني، وهو السبب الذي تدعي أنه دعاها لبدء الحرب، وتتراجع عن الأهداف الأخرى ذات السقوف العالية كما فعلت في لبنان وغزة. وفي المقابل تقول إيران في نتيجة هذه التسوية أنها أحبطت المشروع الإسرائيلي بإسقاط النظام، وكبدت إسرائيل خسائر لم تعهدها من قبل.
لكن هذه الحرب إذا انتهت وفق هذا السيناريو فإنها ستفضي إلى نتيجتين أساسيتين: الأولى أن القدرات الصاروخية الاعتراضية الموزعة على أربعة مستويات على كامل الأراضي المحتلة، لم تحل دون استهداف العمق الإسرائيلي ومنشآته الحيوية، رغم التفوق الجوي. والثانية أن إيران ستتصرف وكأنها في خطر وجودي، أو كأنها ستبقى دائما في خطر داهم، مما سيدفعها إلى تطوير قدراتها النووية على اعتبار أن المستهدف ليس البرنامج النووي بل نظام الحكم برمته، مع معطى دولي جديد يتمثل في معارضة واسعة من قبل المجتمع الدولي لهذا البرنامج، وعدم اتخاذ موقف عملي مساند من الحلفاء المفترضين للنظام أي روسيا والصين وباكستان.
إن حظوظ هذا السيناريو ليست منظورة حتى الآن، وفق ما تشير المعطيات الميدانية، مما فتح الباب على التدخل الأميركي المباشر، الذي يرمي وفق وجهة النظر الأميركية إلى منع حرب طويلة الأمد لن تكون في صالح جميع الأطراف، بما فيها الولايات المتحدة، الأمر الذي قد يدفع الأخيرة إلى تغيير قواعد الاشتباك، واستخدام القواعد العسكرية الأميركية في سوريا، دون سواها، كمنطلق للهجمات التي يراهن عليها الأميركيون لتعديل موازين القوى، والتي قد يكون من أبرز نتائجها الحد من استهداف العمق الإسرائيلي، ودفع إيران إلى القبول بتسوية، برعاية دولية، تضع الملف النووي خارج استخداماته العسكرية، وتعيد الاعتبار إلى إسرائيل بعد الخسائر التي أصابت بناها العسكرية والمدنية.
أما استخدام القواعد العسكرية في سوريا فيحكمه الموقع الجغرافي لكل قاعدة، فالقواعد التي تقوم قرب حقول النفط والغاز في شمال شرقي سوريا، مثل حقل العمر وحقل كونيكو، لن تستخدم في الحرب خشية تعرضها للقصف الصاروخي، وهي أهداف سهلة بحكم قربها من إيران، مما يجعل قاعدة التنف، والتي تقع على بعد 24 كيلومترا غرب معبر التنف الحدودي مع العراق، نقطة انطلاق الهجمات الأميركية، لسبب رئيس وهو أن هذه القاعدة خاصة بالتحالف الدولي ولا يقتصر الوجود العسكري فيها على القوات الأميركية وحدها، وبالتالي فإن أي استهداف لها سيؤدي إلى نزاع مسلح مع أكثر من دولة في الوقت نفسه.

رويترز
عمال انقاذ في مكان انفجار صاروخ ايراني في تل ابيب في 22 يونيو

ما يبرر هذا الاحتمال أيضا استبعاد زج القواعد العسكرية الأميركية في الخليج في هذه الحرب، فالموقف السياسي لدول الخليج يعارض تماما الحرب على إيران، وقد أعلنت هذه الدول موقفا استباقيا للحؤول دون توريطها في الحرب، واستعمال أراضيها لاستهداف إيران، وحتى لا يؤدي تدخلها إلى الضرر بعلاقاتها مع دول أخرى كالصين وروسيا.
مَن سيلوي ذراع مَن؟ ومن لديه القدرة على تحمل الضربات أكثر؟ الإجابة تحدد مآل الحرب الدائرة وتاريخ انتهائها.

font change