ماذا لو نفذ ماكس برود وصية صديقه فرانز كافكا، وأحرق مخطوط روايته "المحاكمة"، كما طلب منه ذلك؟ في البداية، تبدو هذه هي الخيانة الوحيدة التي قد يشفع لها مجتمع القراء، ذلك أن تنفيذ الوصية كان سيحرم الناس في المائة سنة الأخيرة من مطالعة أحد أهم الأعمال الأدبية غرابة وسحرا، وهي الرواية التي يحتفل العالم اليوم بمرور مئة عام على صدورها. والمصادفة أن ثمة أكثر من عمل أدبي صدر سنة 1925، وتحل هذا العام ذكراها المئوية. وهي أعمال أدبية مفصلية وفارقة في تاريخ القصة والرواية، شكلت ولا تزال منعطفات سردية كبرى.
في هذا المقال نعيد تقليب صفحات وأوراق هذه الروايات، نعيد "محاكمة" كافكا، مثلما نجدد قراءة رواية "السيدة دالاوي" لفرجينيا وولف، ورواية "غاتسبي العظيم" لسكوت فيتزجيرالد، و"تغريبة مانهاتن" لجون دوس باسوس والمجموعة القصصية الأولى لإرنست همينغواي "في زماننا".
"محاكمة" كافكا
في الثالث من يوليو/ تموز صيفَ كل عام، تشهد مدينة براغ احتفالات رسمية كبرى، حيث يذرع الناس شوارع المدينة، في يوم الثلاثاء هذا، والمخصص للرقص والغناء. في السيرة التي وضعها راينر شتاخ لحياة فرانز "كافكا.. السنوات الأولى"، يقول المؤلف إن هذا اليوم "سوف يدون في السجلات السنوية لمدينة براغ، لسببين: سبب رسمي ظاهر، وآخر مخفي مبدئيا"، إنه يوم ميلاد فرانز كافكا، عبقري الرواية التشيكية بلا منازع.
ورغم الطابع الغرائبي لروايته "المسخ"، وجمال الصنعة الروائية في "القلعة"، تبقى روايته الكابوسية "المحاكمة" أشد أعماله قدرة على التجديد والتجريد والاختلاف. كيف لا وهي آخر ما كتب، ولم تنشر إلا بعد وفاته، حين خالف صديقه ماكس برود وصيته، وقرر نشر الرواية بعد سنة من وفاة الرجل يوم الثلاثاء 3 يونيو/ حزيران، الذي كان ولد يوم الثلاثاء 3 يوليو سنة 1883.
منذ البداية يضعنا الرقم 3، في حياة كافكا، أمام مصادفات غريبة. بدأنا بالسؤال: ماذا لو نفذ ماكس برود وصية صديقه فرانز كافكا، وأحرق روايته "المحاكمة"، كما طلب منه ذلك، ولم ينشرها؟ سوى أن السؤال الثاني سيكذّب السؤال الأول، وهو قولنا: لماذا لم يحرق كافكا نفسه روايته ويتلفها؟ هل كان المرض ليمنعه من ذلك طوال هذه المدة؟ هل أراد كافكا أن يمنح روايته شهرة خاصة من خلال هذه الوصية؟ أم أنه لا وجود لوصية أصلا، وأن القصة كلها من اختلاق صديقه ماكس برود، الذي فرض نفسه وصيا على تراث كافكا، بحثا عن الشهرة، ولأغراض مادية وسياسية ودينية توقف عندها روائي تشيكي آخر لعله الوارث الشرعي والشعري لكافكا، هو ميلان كونديرا. ففي كتابه "الستارة"، يلمح كونديرا إلى أن ماكس برود أساء كثيرا الى كافكا، مثلما أساء شرحه، ليس لأنه خالف وصيته، بل لأنه اختلق كل هذه الحكاية.
حسب كونديرا، فإن "الروايات الثلاث لفرانز كافكا هي ثلاثة تنويعات للحالة ذاتها: يدخل الإنسان في نزاع، لكن ليس مع إنسان آخر، بل مع عالم استحال إلى إدارة هائلة".