"داعش" في لبنان... بين التضخيم الإعلامي والخطر الحقيقي

سنوات من الرصد الأمني أحبطت المخططات الإرهابية للتنظيم

أ.ف.ب
أ.ف.ب
جنود من فوج التدخل الأول في الجيش اللبناني خلال دورية على الحدود اللبنانية السورية في منطقة سيطروا عليها من تنظيم (داعش) في جرود رأس بعلبك في 28 آب 2017

"داعش" في لبنان... بين التضخيم الإعلامي والخطر الحقيقي

في توقيت أمني وسياسي لافت، تشهد المنطقة مؤشرات مقلقة، تنذر بعودة تنظيم "داعش" إلى النشاط، فبعد أيام قليلة من التفجير الدموي، الذي استهدف كنيسة مار الياس في دمشق، في هجوم يحمل بصمات "داعش"، كشفت الأجهزة الأمنية اللبنانية عن توقيف خلايا نائمة مرتبطة بالتنظيم، كانت تخطط لتنفيذ هجمات إرهابية في لبنان. فهل عاد "داعش" فعلا إلى لبنان، أم إن هناك من يريد استحضاره إلى الداخل اللبناني في هذا التوقيت؟

في ظل الضغط الدولي الذي يمارس على لبنان، لنزع سلاح "حزب الله"، وقبل انتهاء المهلة الأميركية التي تطالب لبنان بخطة واضحة لنزع السلاح، عاد التهويل في بعض وسائل الإعلام القريبة من "حزب الله" وعلى وسائل التواصل الاجتماعي من شبح "داعش"، عبر نسج الروايات "المقلقة" والحديث عن دخول عناصر من جنسيّات مختلفة إلى لبنان، عبر الحدود السورية، وتمركزها في عدد من المناطق، بهدف تنفيذ سلسلة عمليات لنشر الفوضى في البلاد، إلاّ أنّ هذه الادعاءات غير دقيقة، وفيها الكثير من المبالغة بحسب ما أكد مصدر أمني لـ "المجلة"، وأضاف المصدر: "نعم هناك خلايا نائمة لـ(داعش)، إلا أن الكشف عنها وإحباط مخططاتها، لم يتوقف منذ نشأة هذا التنظيم".

وفي هذا الإطار أصدر الجيش اللبناني بيانا، أكّد فيه أنّ قيادة الجيش على تَواصل دائم مع السلطات السورية، وتتّخذ التدابير الأمنيّة اللازمة، لضبط الحدود والحفاظ على الاستقرار، بما في ذلك تسيير دوريات وتركيز نقاط مراقبة .ودعا بيان قيادة الجيش، وسائل الإعلام إلى: "توخّي الدقة في نقل الأخبار المتعلّقة بالوضع عند الحدود، وعدم نشر الأخبار التي قد تؤدّي إلى خلق توتّر داخلي، والعودة إلى بيانات الجيش الرسمية للحصول على المعلومات الدقيقة".

وفي هذا السياق أكّد النائب السابق مصطفى علوش لـ "المجلة" أنّه: "على مدى السنوات الماضية، ومنذ قضاء الجيش علي تنظيم (فتح الإسلام) في الشمال، لم نشهد أي نشاط مرتبط بـ (داعش) ولا بخلايا إرهابية في الشمال، والكلام عن وجود خلايا في الشمال أصبح مستهلكا، ولكن المؤكد نحن مع أي تحقيق أمني يكشف عن أي خلايا مرتبطة بمنظمات متطرفة، في أي منطقة إن كان في الشمال أو غيره، فالتوجه الطرابلسي أو الشمالي أو السني بشكل عام، مرتبط بضعف الحماية من الدولة المركزية، وكلما عززت الدولة من وجودها، وأعطت الانطباع أنها الراعية والحامية للمواطن، يخفت أي توجه للانتماء، إلى خارج البلد أو إلى أي تنظيم متطرف".

خلال السنوات الأخيرة، نجحت القوى الأمنية بلبنان في تحقيق إنجازات متتالية، عبر توقيف عشرات الخلايا النائمة، والعناصر الفردية التابعة لتنظيم "داعش"

عمليات أمنية استباقية

خلال السنوات الأخيرة، نجحت الأجهزة الأمنية بلبنان في تحقيق إنجازات متتالية، عبر توقيف عشرات الخلايا النائمة، والعناصر الفردية التابعة لتنظيم "داعش" ومنعها من تحقيق مخططاتها التخريبية- الإرهابية، عبر عمليات أمنية استباقية، وكان آخرها الأسبوع الماضي، حيث أعلن الجيش اللبناني في بيان، توقيف قائد التنظيم في لبنان، بعد سلسلة عمليات رصد ومتابعة أمنية.

وأضاف، أن المواطن "ر.ف"، الملقب بـ"قسورة"، هو أحد أبرز قادة التنظيم، وشارك في التخطيط لعمليات أمنية، كما ضُبطت بحوزته كمية كبيرة من الأسلحة والذخائر الحربية، بالإضافة إلى أجهزة إلكترونية ومعدات لتصنيع طائرات مسيّرة.

وذكر البيان أن الموقوف كان قد تسلّم قيادة التنظيم في لبنان، بعد توقيف سلفه المواطن "م.خ" الذي عينه التنظيم "والي لبنان"، والملقب بـ"أبو سعيد الشامي"، مع عدد كبير من القادة نتيجة عملية لمديرية المخابرات في ديسمبر/كانون الأول الماضي.

رويترز
سوريون يدخلون لبنان من معبر العريضة الحدودي بين لبنان وسوريا، بعد إسقاط نظام بشار الأسد في سوريا، في 9 ديسمبر 2024

كذلك أوقف أمن الدولة في كسروان، السوري "ح.أ." لدخوله خلسة. واعترف بتلقّيه تدريبات شرعية وعسكرية بإشراف مدرّبين من جنسيات عربية، انتموا سابقًا إلى "داعش".

في هذا السياق يرى الكاتب والمحلل السياسي جوني منير في حديث مع "المجلة" أنّ: "تنظيم (داعش) دائما ما كان يشكل خطرا على لبنان، وكانت ذروة خطورته عام 2017 عندما أقدم الجيش اللبناني على عملية (فجر الجرود) وأنهى هذا الخطر، ومن ثم كان الكشف بأوقات متفاوتة عن خلايا بشكل متفرق، وقليل من الذئاب المنفردة، فكان واضحا أن وجود (داعش) في لبنان لم يعد منظما، ولم يعد هناك قرار بالتواجد في لبنان، إلا عبر حالات فردية، وكان يتم الكشف عنها لاحقا، ولكن منذ مطلع هذا العام، ظهرت (داعش) مجددا بطريقة مختلفة، حيث ظهرت وللمرة الأولى (ولاية لبنان) منذ نشأة هذا التنظيم، ففي السنوات السابقة كان لبنان يتبع ولاية الشام بالنسبة للتنظيم".

وتابع منير: "وجود (ولاية لبنان) يعني واقعا جديدا، وتنظيما جديدا، وتحضير بنك أهداف جديد، وبحسب المعطيات الأمنية، فإن العملية الأولى التي كان يخطط لها في لبنان، هي تحرير السجناء المنتمين إلى (داعش) من سجن رومية، واستهداف مراكز للجيش اللبناني، وخلية (قسورة) الأخيرة التي تم الكشف عنها أوضحت أن تواجد التنظيم، لم يعد حالات فردية، ولكن أصبح شبكة منظمة، وفق آلية جديدة، مع تعيين والي للبنان، وهذه الشبكة أظهرت أن (داعش) يحاول التحرك في لبنان".

تضخيم إعلامي

لفت منير إلى أنّ: "هناك تضخيم إعلامي كبير، نعم هناك حركة جديدة للتنظيم، ولكن ليس كما يتم تضخيمها في الإعلام، خصوصا أنّ الأجهزة الأمنية على مدى السنوات الماضية، أثبتت فعاليتها في إحباط أي مخطط لـ(داعش)، وهناك متابعة دائمة، رغم الأوضاع الصعبة في لبنان، والانهيار الاقتصادي والمعيشي، كان لبنان ينجح دائما بالمكافحة المسبقة، والدليل أن تنظيم (داعش) لم ينجح في تنفيذ أي عملية إرهابية داخل لبنان منذ سنوات".

بدوره أكّد علوش إلى أنّ: "وجود (داعش) في لبنان لم يختف كليا عبر السنوات، ولكن إعادة استخدامه كبعبع قد يكون مقصودا، وقد يكون بالصدفة، لكن بالتأكيد إحدى السرديات التي استخدمها (حزب الله) ومنظومة الممانعة على مرّ السنوات، هي مواجهتهم للتطرف المتمثل بـ(داعش). والتضخيم الذي يحصل اليوم، يمكن أن يكون في سياق هذه السرديات، ولكن علينا التأكيد، أنه لا يجب التغاضي عن مظاهر التطرف هذه، ويجب النظر بعين الحذر على أن هذه المجموعات، يمكن أن تظهر في أي لحظة".

من جهته، أكّد العميد المتقاعد جورج نادر في حديث لـ"المجلة": "أن ظهور داعش مجددا، لا يمكن أن يكون بالصدفة الأمنية، هناك عدد من الخلايا التي تم القبض عليها من قبل الجيش، وبالتالي إحباط مخططاتها، ولكن خطورة هذه الخلايا، أنها غير متصلة ببعضها البعض، المشغل واحد ولكن الخلايا النائمة لا تنسق مع بعضها البعض، أي أن القبض على خلية، لا يساعد الأجهزة الأمنية بالكشف عن الخلايا الأخرى المتواجدة في لبنان".

ولفت نادر: "لكن الملاحظ أن هذا التنظيم لا يظهر إلا عندما يكون هناك استحقاق جدي في لبنان، واليوم هناك استحقاق تسليم سلاح (حزب الله) الذي يناقش بشكل جدي للمرة الأولى، ولصرف الأنظار عن هذا الاستحقاق، تعمد بعض وسائل الإعلام على تضخيم وجود (داعش)، والحديث عن دخول مجموعات تمركزت في لبنان، ولكن الأكيد أنّه لا يوجد خطر كبير كما يشاع، وهذا لا يعني أن (داعش) غير موجود في لبنان، نعم هناك خلايا نائمة، ولكن حتى لو حاولت تنفيذ مخططات إرهابية، لن تشكل خطرا على السلم الأهلي، لأنّ ليس لديها بيئة حاضنة، فالسنة في لبنان لم يكونوا يوما بيئة حاضنة لأي تنظيم إرهابي. والاطمئنان نابع أيضا من عمل الأجهزة الأمنية التي تقوم بعمليات استباقية لإحباط أي محاولة من قبل تنظيم (داعش)".

هل هناك ارتباط بين تفجير الكنيسة في سوريا، وارتفاع وتيرة تحرك "داعش" في لبنان؟

ولكن هل هناك ارتباط بين تفجير الكنيسة في سوريا، وارتفاع وتيرة تحرك "داعش" في لبنان؟ يقول منير: "بعد سلسلة عمليات ناجحة لإحباط عمليات (داعش) قبل تنفيذها من قبل الأجهزة الأمنية اللبنانية، خفض التنظيم تحركه في لبنان، ولكن يبدو أننا اليوم في مرحلة جديدة. في المرحلة السابقة بعد تمكن الأجهزة اللبنانية من إحباط عمليات (داعش)، خفف (داعش) تحركه في لبنان، مع إبقاء الرقابة الأمنية المتشددة، ومكافحة أي خطر وشيك، فهنالك توقيت ما واضح، وترافق مع تفجير الكنيسة، الذي حصل في سوريا، الذي لم يحصل بالصدفة أيضا، (داعش) هي مجموعات مفككة مترابطة فقط عبر الإنترنت، لا أحد يعلم من هو رئيسها، ومن وراءها، جزء منها يعمل لقوى إقليمية مختلفة، ولأجندات دول مختلفة، البعض يقول إنها تعمل لصالح إسرائيل بجزء منها، والآخر لصالح إيران.. التوقيت بالطبع سياسي مرتبط بالتطورات في المنطقة، وله استثماره من القوى الكبرى الموجودة".

مخاطر تنظيم "داعش" لا تقتصر على الهجمات الدموية، بل تمتد إلى تهديد النسيج الاجتماعي، وتغذية الخطاب الطائفي، واستقطاب الفئات المهمّشة، ما يجعله عامل تفجير داخلي

هل لبنان بيئة حاضنة للتنظيمات المتطرفة؟

منذ إعلان تنظيم "داعش" في العراق وسوريا عن قيام "الخلافة الإسلامية" في العام 2014، لم يكن لبنان بمنأى عن هذا الخطر الإرهابي، فاستغل التنظيم هشاشة الحدود والاضطراب السياسي والأمني في لبنان، وكانت أولى بصماته في بلدة عرسال الحدودية، حيث نفّذ أولى عملياته ضد الجيش اللبناني في أغسطس/آب من العام نفسه، مُعلنا بذلك دخوله العنيف إلى المشهد اللبناني. فمخاطر هذا التنظيم لا تقتصر على الهجمات الدموية، بل تمتد إلى تهديد النسيج الاجتماعي، وتغذية الخطاب الطائفي، واستقطاب الفئات المهمّشة، ما يجعله عامل تفجير داخلي، يتزامن ظهوره أو تصاعد تحركات خلاياه مع لحظات فراغ دستوري أو اضطراب سياسي كبير.

وقد خاض لبنان معركتين كبيرتين ضد التنظيم المتطرف، الذي اتخذ من جرود لبنان الشرقية- الحدودية مع سوريا، مركزا له حتى العام 2017، بعدما نجح الجيش اللبناني في تحقيق انتصارات ميدانية ضد التنظيم، واستطاع تحرير الجرود من قبضته.

المعركة الأولى كانت في أغسطس 2014، والتي عرفت بمعركة "عرسال"، حيث هاجم مسلحون بلدة عرسال الحدودية، في عملية مشتركة بين تنظيمي "داعش" و "جبهة النصرة" عقب توقيف أحد حواجز الجيش في جرود منطقة عرسال، قيادي تابع لـ"جبهة النصرة". استمرت المواجهات أسبوعا كاملا، تمكن خلالها الجيش من استعادة السيطرة على البلدة، رغم الخسائر، واختطاف 36 عسكريا من قبل التنظيمين، منهم ثلاثة أعدمهم "داعش" بوحشية.

أ.ف.ب
عناصر من الجيش اللبناني بعد عودتهم من معركة "فجر الجرود" في بلدة رأس بعلبك الشرقية، في 21 أغسطس 2017

تكررت محاولات "داعش" لإحداث الفوضى في الداخل اللبناني، أبرزها عبر تفجيرات طالت برج البراجنة، في الضاحية الجنوبية عام 2015 وأوقعت أكثر من 40 قتيلًا، وتفجيرات القاع في 2016، التي نفّذها انتحاريون استهدفوا البلدة المسيحية الحدودية. كما أعلنت الأجهزة الأمنية عن تفكيك عشرات الخلايا النائمة في مختلف المناطق، من الشمال إلى البقاع وحتى العاصمة بيروت، وكانت تخطط لهجمات انتحارية أو اغتيالات.

وفي صيف 2017، شن الجيش عملية عسكرية واسعة تحت اسم "فجر الجرود"، استمرت عدة أسابيع، استهدف خلالها معاقل "داعش" في جرود رأس بعلبك والقاع. حقق الجيش خلالها انتصارات استراتيجية مهمة، استعاد خلالها مساحات واسعة، ووجه ضربة قاصمة لقدرة التنظيم العسكرية، وعثر على رفات العسكريين المخطوفين منذ 2014.

حاول تنظيم "داعش" عبر السنوات الماضية تفجير الداخل اللبناني، وخلق بيئة حاضنة، عبر استغلال تدخل "حزب الله" في الحرب السورية، ورفع منسوب الخطاب الطائفي، ولكن بالإضافة إلى نجاح الأجهزة الأمنية في صد خطر التنظيم، اصطدمت "داعش" أيضا بعدم القدرة على خلق بيئة حاضنة في المجتمع اللبناني، وذلك بحسب ما يؤكد الكاتب والمحلل السياسي طارق أبو زينب.

وأضاف أبو زينب لـ "المجلة": "السنّة في لبنان ينبذون هذه التنظيمات الإرهابية تاريخيا، فالطائفة السنية في لبنان معتدلة، وهناك شهادة اعتدال قالها رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري (المسيحي المعتدل أقرب إلي من المسلم المتطرف)، وهذه الشهادة يتمسك بها السنة في لبنان، لأنّهم يعتبرون أنّ الاعتدال الإسلامي هو مدخل للعبور إلى دولة مؤسسات وقانون، وهنا أقف عند خطاب مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان الذي قال إنه لا يجوز تهميش الطائفة السنية كي لا تكون خارج النسيج الوطني اللبناني، الطائفة السنية هي طائفة وطنية تتمسك بمؤسسات الدولة وتتمسك بقيامة لبنان".

أضاف: "والآن لدينا فرصة تاريخية بوجود رئيس الجمهورية جوزيف عون، وخطاب القسم الجامع لكل اللبنانيين، ومضمون هذا الخطاب هو وحدة لبنان، والحفاظ على لبنان ومؤسساته، ولكي لا يتحول لبنان ساحة لتصفية حسابات من مجموعات متطرفة، تخدم أجندات خارجية، علينا التمسك بخطاب القسم والتمسك بمؤسسات الدولة، وعدم تخوين المؤسسات الأمنية، التي تحمي لبنان من مخططات هذه التنظيمات، لذلك نريد فقط من القوى الأمنية أن تتولى محاربة هذه التنظيمات، ولبنان لم ولن يكن ساحة لهذه التنظيمات الإرهابية، فالمجتمع اللبناني يختلف عن باقي الدول المجاورة، فبالإضافة إلى عدم وجود بيئة حاضنة، أيضا مساحة لبنان صغيرة لا يمكن أن تكون حركة التنظيم فيه سلسة".

وختم أبو زينب: "طبعا الخطر على لبنان من هذه التنظيمات الإرهابية موجود، نحن نعلم أن هذه التنظيمات الإرهابية الموجودة في المنطقة وتتحرك ضمن أجندات خارجية، عندما تكون هناك فوضى سياسية وأمنية، وفي لبنان هناك تحديات وفوضى كبيرة، خاصة أن لبنان تحت ضغط دولي لتطبيق القرار 1701، بالتالي لبنان معرض لتحرك  هذه التنظيمات، ولكن لا شك أن القوى الأمنية، استطاعت أن تقوم بإنجازات مهمة جدا في الكشف عن خلايا (داعش)".

font change