"بيركشاير هاثاواي" بين يدي غريغ آبل

وارن بافيت الأسطورة يترجل عن صهوة الاستثمار... فمن اختار لخلافته؟

منى ينغ ومايكل ميسنر
منى ينغ ومايكل ميسنر

"بيركشاير هاثاواي" بين يدي غريغ آبل

وارن بافيت، الملقّب بـ"عرّاف أوماها" أو"حكيم أوماها"، هو أحد أعظم المستثمرين في التاريخ، وقد حول شركة "بيركشاير هاثاواي" من مصنع نسيج متعثر إلى إمبراطورية استثمارية بقيمة سوقية تتجاوز 1,2 تريليون دولار. في مايو/ أيار 2025، أعلن بافيت، البالغ من العمر 94 عاما، تنحيه عن منصب الرئيس التنفيذي مع نهاية السنة الجارية، بعد 60 عاما من إدارة الشركة، موصيا بتعيين غريغ آبل خلفا له.

إعلان بافيت تقاعده ربما فاجأ الناس، إلا أن هوية خليفة أسطورة الاستثمار لم تكن مفاجئة. ففي عام 2021، أكد بافيت أن نائب رئيس العمليات غير التأمينية غريغ آبل، سيتولى في نهاية المطاف منصب الرئيس التنفيذي لقطاع الاستثمار لدى تقاعده. وعاد فأكد هذا الاختيار خلال الاجتماع السنوي لمساهمي الشركة عام 2024، حين قال: "سأترك تخصيص رأس المال لغريغ، فهو يفهم الأعمال التجارية جيدا. إذا فهمتَ الأعمال التجارية، فستفهم الأسهم العادية". ولن يبيع بافيت سهما واحدا من أسهمه في "بيركشاير" خلال فترة انتقال قيادة الشركة إلى آبل، مشيرا الى أن "قرار الاحتفاظ بالأسهم قرار اقتصادي، لأنني أعتقد أن آفاق 'بيركشاير' ستكون أفضل تحت إدارة غريغ من آفاقي". في المقابل، أكد آبل للمساهمين أنه، كرئيس تنفيذي، "سيحافظ على سمعة بيركشاير"، مع اتباع الفلسفة الاستثمارية لبافيت خلال الستين عاما المنصرمة.

وصوّت مجلس إدارة "بيركشاير" بالإجماع على تعيين آبل رئيسا ومديرا تنفيذيا للشركة اعتبارا من الأول من يناير/ كانون الثاني 2026، مع بقاء بافيت رئيسا لمجلس إدارتها.

بافيت، الذي تبلغ ثروته الصافية نحو 160 مليار دولار، يُعرف باستراتيجيته الطويلة الأجل وتركيزه على الشركات ذات القيمة الجوهرية العالية

قبل الخوض في بروفايل الخلف، لا بد من التوقف قليلا عند "أيقونة الاستثمار" وارن بافيت الذي ولد في 30 أغسطس/ آب 1930 في أوماها، نبراسكا، وهو ابن عضو الكونغرس هوارد بافيت. أظهر منذ صغره شغفا بالاستثمار، حيث اشترى أول أسهمه في سن 11 عاما. تخرج من جامعة نبراسكا وتأثر بفلسفة الاستثمار القيمي لمعلمه بنجامين غراهام.

بافيت: التعريفات الجمركية "عمل حربي"

في عام 1962، بدأ بافيت شراء أسهم "بيركشاير هاثاواي"، واستحوذ عليها بالكامل في حلول عام 1965. منذ ذلك الحين، قاد الشركة لتحقيق عائد تراكمي مذهل على أسهمها الفئة "أ" بنسبة 5,5 ملايين في المئة من 1964 إلى 2024، أي أن استثمار 1000 دولار عام 1964 أصبح يساوي أكثر من 55 مليون دولار اليوم.

بافيت، الذي تبلغ ثروته الصافية نحو 160 مليار دولار، يُعرف باستراتيجيته الطويلة الأجل وتركيزه على الشركات ذات القيمة الجوهرية العالية. كما أنه فاعل خير بارز، حيث تعهد بالتبرع بـ99 في المئة من ثروته، وقد تبرع بأكثر من 57 مليار دولار منذ 2006، معظمها لمؤسسة "بيل وميليندا غيتس".

منى ينغ ومايكل ميسنر

في يوم إعلانه تنحيه، قال بافيت: "إذا كنت لا تعتقد أن الولايات المتحدة قد تغيرت منذ ولادتي عام 1930، فأنت لا تنتبه". وتابع "لقد مررنا بتجارب متنوعة، ركود اقتصادي كبير وحروب عالمية وتطوير القنبلة الذرية، لم نحلم بها أبدا عندما ولدت. لذلك لن أشعر بالإحباط من حقيقة أننا لم نحل جميع المشاكل التي واجهتنا".

وبينما لم ينتقد بافيت إدارة ترمب صراحة، إلا أنه حذّر من فرض التعريفات الجمركية قائلا إن مثل هذه السياسة التجارية قد تُعتبر "عملا حربيا". وقال: "لا أعتقد أنها صواب وليست حكيمة. كلما ازداد ازدهار بقية العالم لن يكون ذلك على حسابنا، بل سنزداد ازدهارا وسنشعر نحن وأطفالكم بأمان أكبر يوما ما".

تنبع معظم ثروة آبل من عائدات إعادة شراء أسهم عام 2022، حيث اشترت "بيركشاير" حصته البالغة 870 مليون دولار في شركة "بيركشاير هاثاواي" للطاقة

وكشف بافيت، في مقابلة مع صحيفة "وول ستريت جورنال"، عن قرار تنحيه، مشيرا إلى أن السبب هو الآثار الجسدية للشيخوخة التي يعاني منها، وقال: "لم أبدأ بالتقدم في السن حقا، لسببٍ غريب، إلا بعد أن بلغت التسعين تقريبا، ولكن عندما تبدأ بالتقدم في السن، يصبح الأمر لا رجعة فيه". وكشف أنه بدأ يفقد توازنه أحيانا، ويواجه صعوبة في تذكر أسماء الآخرين، كما أصبحت رؤيته أقل وضوحا عند قراءة الصحف.

غريغ آبل: الإداري الشغوف والمبتكر

انضم غريغ آبل، الرجل البالغ من العمر 62 عاما، الذي اختاره بافيت لقيادة "بيركشاير هاثاواي" بعد تنحيه في نهاية 2025، إلى الشركة عام 1998، وعمل إلى جانب بافيت لأكثر من عقدين، حيث أثبت كفاءته في إدارة الأعمال المعقدة، خصوصا في قطاع الطاقة. في عام 2007، رشحه ديفيد سوكول، الرئيس التنفيذي السابق لأعمال الطاقة لتولي منصبه، مشيدا بقدراته في التفاوض وإتمام الصفقات الكبرى، مثل شراء خطوط الغاز الطبيعي بعد انهيار شركة "إنرون".

رويترز
غريغ آبل، نائب رئيس مجلس إدارة شركة "بيركشاير هاثاواي"، في الاجتماع السنوي للمساهمين في أوماها، الولايات المتحدة الأميركية، 2 مايو 2025

آبل، الذي بنى ثروة شخصية خلال فترة عمله في شركة "بيركشاير هاثاواي"، يمتلك أسهما في الشركة بقيمة 175 مليون دولار فقط، أي ما يعادل 18 في المئة تقريبا من صافي ثروته البالغة مليار دولار وفقا لمؤشر "بلومبيرغ" للمليارديرات. وعلى عكس المستثمر الأسطوري، أو حتى الداعمين الأوائل الذين حققوا ثراء مذهلا على مدار ستة عقود، فإن القليل نسبيا من ثروة آبل مستثمر في أسهم الشركة، حيث تبلغ نحو واحد على ألف من قيمة حصة بافيت البالغة 160 مليار دولار وهو يملك 38,4 في المئة من أسهم التصويت. وتنبع معظم ثروة آبل من عائدات إعادة شراء أسهم عام 2022، حيث اشترت "بيركشاير" حصته البالغة 870 مليون دولار في شركة "بيركشاير هاثاواي" للطاقة.

يُعرف آبل بأسلوبه الإداري الدقيق وتركيزه على الكفاءة التشغيلية، وهو ما يجعله مرشحا مثاليا للحفاظ على ثقافة "بيركشاير" التي تقوم على البساطة والشفافية. كما أشار بافيت إلى أن ابنه هوارد بافيت سيتولى منصب رئيس مجلس الإدارة غير التنفيذي لضمان استمرارية هذه الثقافة.

وُلد آبل في إدمونتون، كندا، حيث نشأ في حيّ للطبقة العاملة، وخلال نشأته، كسب المال من خلال وظائف مؤقتة، مثل توزيع المنشورات الإعلانية وملء مطافي الحريق لشركة "ليفيت سيفتي" التي كان يعمل بها والده، وفقا لصحيفة "ذا غلوب آند ميل".

في عام 2016، حصل آبل على تعويض قدره 41 مليون دولار نتيجة مكافأة تحفيزية مرتبطة بأرباح شركة "بيركشاير هاثاواي للطاقة"

تخرج من جامعة ألبرتا عام 1984 حاصلا على بكالوريوس تجارة في المحاسبة، وعمل محاسبا بعد التخرج في شركة "برايس ووترهاوس كوبرز"، ثم في شركة "كال إنرجي" للكهرباء، التي أصبحت في ما بعد شركة "ميد أميريكان إنرجي". قال لصحيفة "نيو تريل" الصادرة عن جامعة ألبرتا عام 2013: "استحوذت المحاسبة على اهتمامي عندما أدركتُ أهمية فهم أمور مثل بيانات الدخل والتدفقات النقدية".

في منتصف التسعينات، انتقل آبل إلى المملكة المتحدة لإدارة استحواذ شركة "كال إنرجي" على شركة بريطانية. وهناك، أثار إعجاب والتر سكوت الإبن، أحد المساهمين في "كال إنرجي" وعضو مجلس إدارة "بيركشاير". قال سكوت عن آبل في مقابلة أجريت معه عام 2011 مع مجلة "فورتشن": "غريغ من الأشخاص الذين يبادرون بالتنفيذ كلما طُلب منهم ذلك".

ديانا استيفانيا روبيو

انضم آبل إلى "بيركشاير هاثاواي" عندما استحوذت الشركة على حصة مسيطرة في "ميد أميريكان إنرجي" عام 1999، وكان آبل حينها رئيسا لشركة الطاقة. أصبح الرئيس التنفيذي لشركة "ميد أميريكان" عام 2008، وغيرت الشركة اسمها لاحقا إلى "بيركشاير هاثاواي للطاقة".

يختلف راتب آبل بين عام وآخر. بلغ راتبه الأساس 21 مليون دولار في عام 2024، وحصل على مكافآت كبيرة في السنوات المنصرمة، بما في ذلك 3 ملايين دولار في عام 2022، وفقا لإيداعات "بيركشاير" لدى هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية. في عام 2016، حصل على تعويض قدره 41 مليون دولار نتيجة مكافأة تحفيزية مرتبطة بأرباح شركة "بيركشاير هاثاواي للطاقة"، التي ارتفعت بشكل كبير في ذلك العام.

أراد بافيت أن يكون خليفته "شخصا ثريا للغاية بالفعل، ولا يهتم حقا بما إذا كان لديه عشرة أضعاف أو 100 ضعف ما يحتاجه هو وأسرته"، كما قال في الاجتماع السنوي لشركة "بيركشاير" عام 2017.

تقليص حصص استثمارات "بيركشاير هاثاواي" في كل من "بنك أوف أميركا" و"كابيتال وان"، يثير تساؤلات حول النظرة المستقبلية لأحد أبرز المستثمرين في العالم، إلى القطاع المصرفي وأسهم هذين المصرفين تحديدا

وصفت صحيفة "وول ستريت جورنال" آبل بأنه "صانع صفقات ماهر". وقال بافيت عام 2013: "أخصص دائما وقتا لغريغ عندما يتصل بي، لأنه يقدم لي أفكارا رائعة، وهو مبتكر حقا في تفكيره ومنهجه التجاري".

بعد عقود من مسيرته المهنية، صرّح آبل بأنه لا يزال شغوفا: "أريد أن أترك أثرا. أريد أن أبذل قصارى جهدي وأن أشارك بفاعلية في إنجاح شركتنا"، هذا ما قاله لجمعية "هوراشيو ألجر" (Horatio Alger) عام 2018. وأضاف: "أعتقد أن العمل الجاد يؤدي إلى نتائج جيدة". "في دراستي، وفي الرياضة، وفي مناصبي في مجال الأعمال، تعلمت أنه إذا بذلتُ الكثير من العمل وكنتُ مستعدا جيدا، فستكون فرص النجاح أكبر".

تحركات مفاجئة من بافيت... ما سرها؟

مؤخرا باع وارن بافيت حصته بالكامل في شركة "نوبانك" البرازيلية المقرضة للعملات الرقمية. وكان أشار إلى الـ"بيتكوين" على أنها "سم فئران" ورفض باستمرار عرض قيمتها. وعززت تعليقاته العلنية وأفعاله الأخيرة فكرة أن أي ارتباط بين وارن بافيت والـ"بيتكوين" غير مرحب به. وقد تصادم دعم "نوبانك" لتداول الـ"بيتكوين" و"الإيثريوم" مع مبادئ بافيت الاستثمارية. وتحول هذا الخلاف الآن إلى قطيعة كاملة.

رويترز

وفي خطوة لافتة من بافيت، قامت "بيركشاير هاثاواي" بإجراء تغييرات مهمة في استثماراتها في القطاع المصرفي، بالتخلص من كامل حصتها في مجموعة "سيتي غروب"، وتقليص حصص استثماراتها في كل من "بنك أوف أميركا" و"كابيتال وان". هذه التحركات لأحد أبرز المستثمرين في العالم، تثير تساؤلات حول نظرته المستقبلية إلى القطاع المصرفي أو إلى أسهم هذين المصرفين تحديدا.

ويمكن تفسير بناء هذا الاحتياطي النقدي الهائل على أنه تحوُّط ضد أخطار عدة: التضخم المستمر، تشديد السياسة النقدية، عدم استقرار البنية التحتية المصرفية، والتوترات الجيوسياسية. إذ لطالما فضّل بافيت الاحتفاظ بسيولة كبيرة خلال فترات الحماسة السوقية أو الأخطار الهيكلية.

مستقبل "بيركشاير هاثاواي" تحت قيادة آبل

"بيركشاير هاثاواي" هي شركة قابضة مقرها أوماها، تمتلك حصصا في عشرات الشركات عبر قطاعات متنوعة مثل التأمين (Geico)، السكك الحديد (BNSF)، الطاقة، والتجزئة. بدأت كشركة نسيج في القرن التاسع عشر، لكن بافيت حولها إلى مركز استثماري عالمي منذ استحواذه عليها. في حلول 2024، سجلت الشركة أرباحا تشغيلية بلغت 47,4 مليار دولار، مع سيولة نقدية قياسية وصلت إلى 347,7 مليار دولار.

يرى بعض المحللين أن غياب شخصية بافيت الكاريزمية قد يؤثر على ثقة المساهمين، خاصة مع التحديات الاقتصادية العالمية المحتملة. كما أن حجم السيولة النقدية الهائل يضع ضغطا على آبل لإيجاد استثمارات مربحة في سوق تنافسية

من أبرز استثمارات "بيركشاير  هاثاواي" حصتها في شركة "أبل" (Apple)، التي وصفها بافيت بأنها استثمار  رئيس. ومع ذلك، فاجأ بافيت الأسواق في عام 2024 ببيع نحو نصف حصته في "أبل"، مما رفع سيولة الشركة إلى 325,2 مليار دولار، في خطوة اعتبرها المحللون دفاعية بسبب مخاوف من تقييمات السوق المرتفعة أو تباطؤ الاقتصاد الأميركي. تمتلك "بيركشاير" أيضا حصصا كبيرة في شركات مثل "كوكا كولا"، "أميركان إكسبرس"، و"جي. بي. مورغان تشايس"، مما يعكس تنوع محفظتها.

مع سيولة نقدية ضخمة ومحفظة استثمارية متنوعة، تواجه "بيركشاير هاثاواي" فرصا وتحديات في عهد آبل. من المتوقع أن يواصل استراتيجيا بافيت الطويلة الأجل، مع التركيز على الاستثمارات ذات القيمة العالية. ومع ذلك، يرى بعض المحللين أن غياب شخصية بافيت الكاريزمية قد يؤثر على ثقة المساهمين، خاصة مع التحديات الاقتصادية العالمية المحتملة. كما أن حجم السيولة النقدية الهائل يضع ضغطا على آبل لإيجاد استثمارات مربحة في سوق تنافسية.

الإرث الثقيل

يتساءل متابعو "بيركشاير" عما إذا كان آبل سيجري تغييرات عند توليه منصبه، بدءا من توسيع هيكل الإدارة التنفيذية للشركة، وصولا إلى إعادة هيكلة قطاعات الأعمال. وقد تثير حصته الصغيرة نسبيا تساؤلات حول ما إذا كان سيغير هيكل رواتب الإدارة العليا في "بيركشاير" أو هيكل أسهم الشركة ذا الفئتين.

رويترز
المقر الرئيس لشركة "بيركشاير هاثاواي"، في أوماها، نبراسكا، الولايات المتحدة الأميركية، 3 مايو 2025

قد يحصل آبل أيضا على موافقة المساهمين ومجلس إدارة "بيركشاير"، الذين قد يترددون في تغيير هيكل الرواتب الذي حقق عوائد متميزة باستمرار لعقود. "لماذا يحاولون الآن، لمجرد رحيل وارن، إيجاد طريقة لفرض أنفسهم على هيكل رواتب قد لا يكون مناسبا للشركات الأخرى؟"، يقول دان والتر، مستشار التعويضات في شركة "أليانت هيومان كابيتال" الاستشارية. "إذا كان مساهموك يحققون عوائد ممتازة، فإنهم نادرا ما يكترثون بحجم رواتب الأشخاص الذين يحققون هذه العوائد".

بخبرته الطويلة ودعم بافيت، يبدو غريغ آبل جاهزا لتحمل المسؤولية، لكنه يواجه تحدي ملء فراغ أسطورة استثمارية. فوارن بافيت ليس مجرد مستثمر، بل رمز للحكمة المالية والصبر الاستراتيجي. وبعد 60 عاما من قيادة "بيركشاير هاثاواي"، يترك إرثا يصعب تكراره.

font change