الحرب الإسرائيلية -الإيرانية... الدروس الروسية المستفادة

كسر الضجيج حول الروايات الإعلامية المضللة

رويترز
رويترز
أعلام إيرانية وتبدو من خلفها النيران والدخان في منشأة نفطية في طهران، قصفتها الطائرات الإسرائيلية، 15 يونيو 2025

الحرب الإسرائيلية -الإيرانية... الدروس الروسية المستفادة

من الخطأ أن يُفترض، بعد الحرب الإسرائيلية-الإيرانية الأخيرة، أن الجهات المنخرطة مباشرة في الصراع وحدها ستُجري تحليلات لفعالية قراراتها، أو تقييما لنشاط العدو، أو مراجعة لقدراتها العسكرية، أو ضبطا لتوقعاتها، بشأن أي تصعيد محتمل، بالاستناد إلى ما توفره مصادرها الاستخباراتية.

تأخذ دول عديدة في الحسبان، التبعات السياسية والعسكرية المحتملة، إذا اندلعت حرب جديدة في الشرق الأوسط. ومع ذلك، لا يُمكن الجزم بما إذا كانت إسرائيل أو إيران أو الولايات المتحدة، ستُعدّل سياساتها أو خططها العسكرية عقب مراجعة ما جرى، إذ كثيرا ما تظل النقاشات المعمقة، حول الدروس المستفادة محصورة في نطاق التغطيات الإعلامية، بفعل عوامل متعددة، منها التحيز المسبق في تدقيق المعلومات، والتنافس بين الوكالات على النفوذ، وغياب الإرادة السياسية، فضلا عن الجمود البيروقراطي.

مع ذلك، يظل من الضروري إطلاق نقاشات عامة ومؤسساتية رزينة، بشأن هذه القضايا الساخنة، ولو على سبيل المساهمة في تفادي "فشل الخيال" عند تصور سيناريوهات غير مألوفة وخطيرة، وكسر الضجيج المعلوماتي، الذي يفضي إلى إنتاج روايات مشوهة في السياسة الدولية.

وغالبا ما يجد المسؤولون أنفسهم أسرى لتصريحاتهم وأنشطتهم الإعلامية المعلنة، التي تهدف إلى إظهار وجود تنسيق استراتيجي، فعلى سبيل المثال، انكبّ السياسيون الروس على الترويج لأهمية معاهدة الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين روسيا وإيران، التي وقعها الطرفان في 17 يناير/كانون الثاني 2025، إلى حد خلق انطباع مضلل، بأنها تنطوي على التزامات ملزمة بين حليفين، بينما هي لا تشتمل في واقع الأمر على مثل هذه التعهدات.

غير أن المحللين الروس لا يشكّون في أن الكرملين، حتى لو توافرت لديه الموارد اللازمة، وحتى في حال لم يكن منشغلا بالحرب في أوكرانيا، لكان اقتصر على تقديم الدعم اللفظي لإيران في نزاعها مع إسرائيل والولايات المتحدة، مع "تربيتة على الكتف" لا أكثر، بالنظر إلى هشاشة الثقة بين الطرفين في هذا التحالف التكتيكي المؤقت، لكن رد موسكو الفعلي، ربما يُسهم في وضع حد للادعاءات المتداولة، سواء في الغرب أو داخل روسيا نفسها، بشأن ولادة "محور مقاومة" يضم روسيا وإيران والصين وكوريا الشمالية.

ماذا تعلمت موسكو من التجربة الإيرانية؟

استخلصت موسكو دروسا قاسية من أخطائها عقب غزو أوكرانيا، فقد كشفت هذه الحرب عن خلل في تقديراتها للأوضاع السياسية والعسكرية، على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وأظهرت أن النجاحات العسكرية الأوكرانية لم تكن مجرد دعاية، بل اعتمدت على بناء حقيقي وممنهج، وتسعى موسكو حاليا إلى تجاوز الجمود المزمن في نظامها السياسي العسكري البيروقراطي لتصحيح هذه الإخفاقات.

ومع ذلك، يبقى من غير الواضح إلى أي مدى ستأخذ القيادة الروسية بالتجربة الإيرانية الراهنة، في تعاملها مع الغارات الجوية الإسرائيلية والأميركية، فلم تُستخلص، حتى الآن، سوى استنتاجات سياسية معلنة، دون أن تُطرح خلاصات ذات طابع عسكري، وتشير هذه الاستنتاجات، في مجملها، إلى أن الأزمة النووية، سواء تعلقت بإيران أم بغيرها، لا بد أن تُعالج عبر مسار سياسي ودبلوماسي واحد.

انكبّ السياسيون الروس على الترويج لأهمية معاهدة الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين روسيا وإيران، إلى حد خلق انطباع مضلل، بأنها تنطوي على التزامات ملزمة بين حليفين، بينما هي لا تشتمل في واقع الأمر على مثل هذه التعهدات

ورغم ذلك، فإن من المنطقي أن تسعى القيادة الروسية، التي أعلنت رسميا أنها لا تخوض حربا ضد الجيش الأوكراني، بقدر ما تخوضها ضد "حلف شمال الأطلسي" (الناتو) في أوكرانيا، إلى استخلاص العبر من الحرب الدائرة في الشرق الأوسط، ويؤكد فلاديمير دينيسوف، ضابط الاستخبارات الروسية المخضرم، ونائب الأمين العام السابق لمجلس الأمن الروسي، أن أنظمة الدفاع الجوي الروسية، لم تُظهر قط درجة الكثافة التي أبدتها الأنظمة الإيرانية في مواجهة الغارات الإسرائيلية والأميركية، ولا في مواجهة عدو يمتلك قدراتهما، خلال صراع امتد اثني عشر يوما.

وقبيل غزو أوكرانيا، ناقش الخبراء العسكريون الروس باستمرار، احتمال تنفيذ الولايات المتحدة "ضربة عالمية سريعة" ضد روسيا، دون استخدام رؤوس نووية، وقد أظهر سلاح الجو الإسرائيلي، إلى حد كبير، قدرة على تنفيذ هذا المفهوم، ضد نظام الدفاع الجوي الإيراني. ومع ذلك، من المهم التنويه إلى أن إيران لم تلجأ إلى استخدام طائراتها المقاتلة في التصدي لسلاح الجو الإسرائيلي، ويُعزى ذلك جزئيا إلى تقادم أسطولها الجوي، وافتقاره إلى الجاهزية التقنية.

AFP
لوحة إعلانية تصور صواريخ باليستية إيرانية قيد الخدمة، مع نص باللغة الفارسية يقول "إسرائيل أضعف من شبكة العنكبوت" في وسط طهران في 15 أبريل 2024

كما يُلاحظ أن إيران لم تستخدم فعليا قواعدها الصاروخية الساحلية، القادرة على استهداف مواقع عسكرية إسرائيلية، أثناء تنفيذها هجمات صاروخية جماعية ضد إسرائيل، ويُفسر ذلك بأن تلك القواعد صُممت أساسا لضرب أهداف في دول الخليج العربي، بما في ذلك القواعد الأميركية، في حال تدخلت واشنطن عسكريا على نحو شامل، ومن المفيد هنا أيضا عقد مقارنة بين التخطيط الإيراني، ووضعية المنشآت الصاروخية الروسية، التي انتُشرت في شرق البلاد، استعدادا لاحتمال اندلاع صراع عالمي مع الولايات المتحدة وحلفائها في منطقة آسيا.

على القيادة العسكرية والسياسية الروسية أن تعيد النظر في كثير من الأمور، نظرا لما تحمله عملية "الأسد الصاعد" الإسرائيلية من تفاصيل، حتى أن بعض المحللين الغربيين يصفها بأنها نوع جديد من العمليات العسكرية، ولو أن البعض الآخر يشكك في أن إجراءات جيش الدفاع الإسرائيلي في إيران، ينبغي أن توصف بهذه الطريقة، بدلا من ذلك، أظهرت إسرائيل قدرتها على الجمع بين الضربات الدقيقة والصواريخ الموجهة بدقة، والتخريب الذي مارسه الجيش والموساد في عمق الأراضي الإيرانية لتدمير أنظمة الدفاع الجوي بسرعة.

تشكل هذه التجربة بالنسبة لموسكو، تجربة مهمة للغاية، إذا أخذنا في الحسبان معرفة أجهزة الاستخبارات الغربية ببدء الغزو في فبراير/شباط 2022، وحجم التسريبات العسكرية التي رافقت بدء الحرب، وضعف القاذفات الاستراتيجية في المطار أمام المسيرات الأوكرانية، كما اتضح ذلك من "عملية شبكة العنكبوت". كما تشكل عمليات التخريب هذه أيضا خطرا، على سبيل المثال، على الصواريخ، في مرحلة منتصف المسار، نظرا لاعتماد الجيوش المتزايد على التكنولوجيا المتقدمة.

 يضاف إلى ذلك أن العملية الإسرائيلية، وفرت لموسكو حججا إضافية في الدفاع عن أولوياتها في الصراع الأوكراني، وفي الحوار مع الغرب بشأن البنية الأمنية الأوروبية الجديدة. وبنظر المحللين الروس، فالحجة القانونية الدولية الوحيدة، التي بررت بها إسرائيل ضرباتها على إيران ومنشآتها النووية، كانت حجة الحق في الدفاع عن النفس، مع أن هذا التبرير ينتهك المادة 2 (4) من ميثاق الأمم المتحدة. ويرى فلاديسلاف تولستيخ، الباحث البارز في "المعهد الروسي للدراسات الشرقية" التابع لـ "الأكاديمية الروسية للعلوم"، أن تصرفات إسرائيل والولايات المتحدة تعيد إحياء السردية، بأن بعض الدول لها الحق في استخدام القوة، فقط لأنها تعد نفسها متحضرة، بينما يحكم على الآخرين بأن يوصفوا بالدول المارقة. وسيستغل الكرملين بلا شك موضوعات المعايير المزدوجة، وتفسير إسرائيل الفضفاض للحق في الدفاع عن النفس، لتبرير حملته العسكرية في أوكرانيا.

وعلى الرغم من أن طهران تبدو مهزومة في نهاية الصراع، إلا أنه لا يمكن عدها خاسرة على نحو جلي

من جهة ثانية، ينبغي أن يدفع الصراع الذي استمر 12 يوما، القيادة الإيرانية– السياسية والدينية والعسكرية– إلى إعادة النظر في نظام الردع السابق ومراجعته، وعلى الرغم من أن طهران تبدو مهزومة في نهاية الصراع، إلا أنه لا يمكن عدها خاسرة على نحو جلي. فرغم أن إسرائيل سارعت إلى قمع نظام الدفاع الجوي الإيراني، وتأمين سيطرتها على المجال الجوي الإيراني، إلا أن عملية تعتمد فقط على سلاح الجو، وعلى مجموعات التخريب، دون غزو بري، لم يكن بوسعها من حيث المبدأ أن تؤدي إلى تدمير البرنامج النووي الإيراني.

علاوة على ذلك، وعلى الرغم من الخسائر التي تكبدتها إيران في المعدات والقوى العاملة، فضلا عن رغبة إسرائيل في كسر سلسلة القيادة، فقد استجابت طهران للصراع بطريقة محسوبة ومحددة. وقد ضربت إسرائيل، وفقا لحسابات الخبراء الروس، حوالي 40 منصة إطلاق للصواريخ من بين أكثر من 400 منصة متاحة، واحتفظت طهران بأكثر من 90 في المئة من منصات الصواريخ متوسطة المدى.

لقد امتنعت طهران عموما عن ضرب أهداف واضحة، مثل مطارات جيش الدفاع الإسرائيلي وطائرات التزود بالوقود جوا. وقد وفرت الطائرات للقوات الجوية الإسرائيلية القدرة على العمل في أقصى نطاقها. في الوقت نفسه، يثير خطاب "النصر" الذي تعلنه القيادة الإيرانية، الشكوك فيما إن كانت طهران تدرك حساباتها السياسية والعسكرية الخاطئة. وبالتالي، بدلا من اللعب مع ترمب، الذي لم تستبعد بعد مؤسسة الحكم الإيرانية التوصل إلى اتفاق معه، شرع الإيرانيون يتحدثون عن سلامة أجهزة الطرد المركزي، وسلامة منشآت تخزين الوقود النووي المستهلك، مما زاد من احتمال شن إسرائيل عملية جديدة.

لكن في الوقت نفسه، انهارت تماما أنظمة الردع الإيرانية غير النووية ضد إسرائيل والولايات المتحدة. ولا يتعلق الأمر بأعمال وكلاء إيران، بقدر ما يتعلق بفشل رهان الجنرالات الإيرانيين على "الجسر السوري المتقدم" للردع والمعلومات، في حين أن الدفاعات الجوية والرادارات الإيرانية المنتشرة في مناطق مختلفة، في عهد الأسد، لم تعمل فقط على الحد من نطاق عمليات جيش الدفاع الإسرائيلي، بل أيضا من عامل المفاجأة في حالة الغارات الضخمة.

يمكن للكرملين أيضا أن يتعلم من هذا الأمر درسا، وإن كان غير واضح إلى حد ما، عن المدى الذي يمكنه فيه أن يعتمد فعليا على شركائه الظرفيين أو التكتيكيين، عند التخطيط العسكري لخلق مشاكل للغرب على الحدود البعيدة.

ومن الناحية السياسية، تتوافق الإجراءات التي تتخذها إيران لمكافحة التجسس مع الإجراءات الرسمية التي يتخذها الكرملين، في مكافحته لشبكة عملاء أوكرانيا الواسعة، العاملة داخل روسيا، بما في ذلك بين اللاجئين الأوكرانيين، وأقاربهم المقيمين في البلاد. ومع ذلك، فإن إغلاق البلاد، والحد من تواصل العلماء مع زملائهم سلاح ذو حدين، كما أثبتت حرب الأيام الاثني عشر. وكما أشار الخبير الروسي فلاديمير دينيسوف، فقد تجلى التخلف التكنولوجي لجميع أنظمة الأسلحة الإيرانية تقريبا بوضوح، خلال الصراع الإسرائيلي الإيراني. وهذا بلا شك نتيجة للعقوبات، وبطبيعة الحال، تظهر بعض أوجه الشبه مع روسيا في هذا المجال.

font change