الجرح المفتوح بين الريف والمدينة في "الناصرية وكوخ القصب"

فوارق لا تستدعي الإدانة بل الفهم

FACEBOOK
FACEBOOK
غلاف الكتاب

الجرح المفتوح بين الريف والمدينة في "الناصرية وكوخ القصب"

ليس من السهل أن تكتب عن جرح لم يلتئم، لأنك ستكتشف عند كل محاولة أن السكين لا يزال مغروسا في اللحم. أحمد عبد الستار، في كتابه "الناصرية وكوخ القصب" الصادر عن دار "المسار" 2025، يفتح هذا الجرح: العلاقة المعقدة، بل المتوترة، بين أبناء المدينة وأبناء الريف – دون تأنق لغوي أو حياد أكاديمي. منذ البداية، يعلن انحيازه للسؤال، لا للإجابة، ويبدأ بطفولته: كان شاهدا على نظرات الاحتقار، على الكلمات الثقيلة التي يرمي بها "المتمدنون" أبناء الريف، حتى إنه – كما يعترف – تبنى تلك النظرة فترة من حياته، قبل أن تتفكك أمام مشاهدات أوسع وأكثر تعقيدا.

لا يسعى الباحث إلى الدفاع عن أحد ضد أحد، بل يفكك النماذج الجاهزة. يرى أن التباين بين الريف والمدينة ليس في الأخلاق، بل في شكل الحياة. أبناء الريف لا يحملون عيبا خلقيا أو خلقيا، بل يأتون من منظومة اجتماعية مختلفة، أقل تعقيدا، وأكثر التصاقا بالأرض. الفارق بين الاثنين لا يستدعي الإدانة، بل الفهم. الريفي لا يفسد المدينة، هو فقط لا يتقن لغتها، بينما تتعالى المدينة عليه بدلا من أن تنصت لصوته.

تحول العلاقة بين الشيخ والفلاح

يبدأ المؤلف في تشريح بنية مدينة الناصرية، لا بوصفها كيانا عمرانيا، بل صيرورة اجتماعية. كيف ولدت؟ من أين أتت علاقاتها الطبقية؟ من هم ملاك الأرض الأوائل؟ وكيف تبدل الشيوخ من رموز حماية إلى أدوات استغلال؟ في سرده هذا، لا ينحاز إلى الحنين، بل إلى ما يسميه "المنهج المادي التاريخي"، الذي يربط شكل العلاقات الاجتماعية بالبنية الاقتصادية، وليس بالشعارات.

التحول الحاسم في سرديته، يظهر بعد قرار الدولة العثمانية تمليك الأراضي لشيوخ العشائر، مما أفضى إلى تحول العلاقة بين الشيخ والفلاح إلى علاقة مالك ومستأجر، متخمة بالضرائب والاستغلال والمهانة. من هنا تبدأ الهجرة، كقدر أكثر مما كخيار. الريفي الذي ينزل المدينة، لا يفعل ذلك حبا بها، إنما هربا من عسف الريف، لكنه يصطدم هناك بنظام لا يعترف بجراحه. هذا السياق يقودنا إلى لحظة العزلة الكبرى: الفلاح في المدينة، وحيد، يطارد خبزا لا يعرف كيف يصنعه، وتطوقه نظرات لا تعرف كيف تسامح. الجريمة إذن – كما يقول المؤلف – ليست في الفلاح بل في النظام الذي دفعه إلى الهجرة، ثم عامله كدخيل.

أبناء الريف لا يحملون عيبا خلقيا أو خلقيا، بل يأتون من منظومة اجتماعية مختلفة، أقل تعقيدا، وأكثر التصاقا بالأرض

مع قلة الوثائق التي توثق معاناة هؤلاء، يلجأ عبد الستار إلى الرواية الشفوية. يجلس مع الشهود، يسمع من النساء والرجال الذين تنقلوا بين الحقل والرصيف، ويكتب. لكن حتى في هذا الحقل، لا يستطيع كثيرون ذكر أسمائهم. الخوف لم ينته بعد. بعضهم يروي القصة بنبرة محايدة، وآخرون تنكسر أصواتهم قبل أن يكملوا الجملة.

Asaad NIAZI / AFP
منظر لمسرح سومري مكشوف ضمن مشروع مدينة أور السياحية، قرب مدينة الناصرية في محافظة ذي قار جنوب العراق، 18 سبتمبر 2024

في إحدى المقابلات، يواجه المؤلف أحدهم بسؤال عن الفلاحين، فيرد هذا الأخير بحديث عن الشيوخ وكرمهم، كأن الفلاح لا وجود له، أو كأن الكلام عنه لا يليق. في هذه اللحظة، يفهم المؤلف أن التهميش لا يتم فقط بالقوانين أو التاريخ، بل أحيانا بالصمت، باللا مبالاة، بالتواطؤ العاطفي.

عقدة ذنب لم تحل

منذ الطفولة، كان هناك ما يثير القلق في الفجوة غير المرئية بين المدينة والريف، كأن بين الاثنين عقدة ذنب لم تحل، أو سلالة من الكراهية تتناسل عبر العادات واللهجات. في "الناصرية وكوخ القصب"، يفتح أحمد عبد الستار هذا القلق المؤجل، ويعيد صوغه بضمير الباحث أكثر مما بسردية الضحية. يسأل: لماذا يحتقر أبناء المدينة أبناء الريف؟ هل هو اختلاف في الطباع أم في المصالح؟ وهل تتصفح المدينة مرآتها كل صباح لترى فيها صورة الريف متأخرة في النمو، أم متخلفة في الأصل؟

يكتب المؤلف من موقع "الوسط": ابن مدينة عاش بين ريفيين، ورفيق دراسة وجندية وجوار، ولم ير فيهم تلك الصورة الكاريكاتورية التي تلون بها أحاديث المدن. يرى أن التباين حضاري لا أخلاقي، ناتج من اختلاف البيئات، لا من تفوق إحداها على الأخرى. الريفي ليس مذنبا لأنه لا يتقن لغة المدينة، والمدينة ليست بريئة لأنها "تستقبل" من لا يشبهها. الصراع – كما يكشفه الكتاب – لا يخص سلوك الأفراد، لكنه نتيجة تاريخ طويل من السياسات والقرارات، وسوء توزيع الأرض والسلطة، والتمثيل الثقافي.

FACEBOOK
الكاتب أحمد عبد الستار

المدينة ليست فردوسا

مع ميلاد الناصرية، لم تكن الفكرة ببساطة فكرة بناء مدينة، إنما بناء مشروع هيمنة مركب، كانت فيه الجغرافيا وسيلة لضبط القبيلة، وتحويل سلطة الشيوخ إلى وكلاء إداريين تحت قبضة الباب العالي، ثم التاج البريطاني. بدأ كل شيء بقرار تمليك أراضٍ لشيوخ العشائر، قرار بدا إداريا لكنه غيّر مصير الريف برمته.

لم تكن الفكرة ببساطة فكرة بناء مدينة، إنما بناء مشروع هيمنة مركب، كانت فيه الجغرافيا وسيلة لضبط القبيلة، وتحويل سلطة الشيوخ إلى وكلاء إداريين

صار الشيخ جابي ضرائب، والفلاح أجيرا في أرض أجداده. من هنا تبدأ الهجرة. الهارب من الضريبة يطرق باب المدينة بحثا عن فرصة حياة. لكن المدينة ليست فردوسا. إنها تحرس أبوابها جيدا. ابن الريف، حتى لو نزلها مطرودا من أرضه، يعامل كغريب. في أفضل الحالات، يمنح كوخا من القصب على هامشها. ومن هنا جاء العنوان الرمزي للكتاب: كوخ القصب – استعادة لصوت الحضارة السومرية، حيث سجلت أولى صيحات الإنسان في لوح جلجامش: "يا كوخ القصب! أيها الجدار!"، وكأن الإنسان منذ فجر تاريخه يصرخ من عتبة الهامش.

من بين الذين ساعدوا المؤلف في جمع شهادات الحياة المنسية، أسماء من الريف والمدينة، من البساتين والأحياء العتيقة، تحدثوا عن ظلمٍ طويل المدى، عن قصص هجينة بين الخوف والتكتم، عن ذاكرة تخشى أن تنطق باسمها. غالبيتهم رفضوا التصريح بهويتهم الكاملة. لا يزال الخوف من العشيرة، أو من السلطة، أو من "العار" حاضرا، كأن التاريخ لم يعد كتابته بعد. لكن الكتاب لا يكتفي بالرثاء. إنه بحث تأويلي-تحليلي في بنية المدينة، في أصل نشأتها، في تحول الناصرية من مشاعٍ قبلي إلى بيروقراطية مدينية. المدينة – في نظر عبد الستار – ليست كيانا عمرانيا، لكنها "مسرح للسلطة"، مسرح ولد في لحظة تحول سياسي عالمي، بعد افتتاح قناة السويس، وتحول العراق إلى ممر استراتيجي للقوى الكبرى. ولدت المدينة إذن بقرار إصلاحي على يد مدحت باشا، لكنها لم تبن فوق فراغ: شيدت على جثة نظام قبلي مترنح، وأرادت أن تعيد رسم الجغرافيا بالمسطرة.

Asaad NIAZI / AFP
قارب أمام كوخ من القش في أهوار الجبايش جنوب العراق، 20 يونيو 2021

موقع قابل للغرق

اختيرت الأرض التي تبنى عليها الناصرية بعناية، وكان من سخرية القدر أن تقام على موقع قابل للغرق. كأن السلطة أرادت أن تذكر سكانها كل يوم بأن الأرض، مثل الحكم، ليست ثابتة. وتحت إشراف مهندس بلجيكي، جعلت المدينة مستطيلة وحديثة، بسبعة شوارع عريضة، وسور بأربعة أبواب، وحدائق، ومؤسسات، وسوق، وتلغراف، وسرايا إدارية، وبنية رمزية كاملة توحي بولادة نظام جديد.

"الناصرية وكوخ القصب" أكثر من كتاب تاريخ، إنه محاولة جادة لكتابة التأريخ المقموع، الذي لم يسمح له بكتابة سطره الأول

لكن التغيير لم يكن أفقيا. فمع نشأة الناصرية، ظهرت الفروق الطبقية واضحة في هندسة المكان. بين محلات السرايا والسيف، ومحلات الأكواخ، بين من حصلوا على بيوت مجانية، ومن بنوا مساكنهم بالقش وسعف النخيل. الفارق هنا عمراني لكنه يعكس بنية السلطة: الأرض التي كانت مشاعة أصبحت ملكا مؤقتا بيد الدولة، ومن ثم بيد الشيوخ. ومع هذا التحول، انتقل الفلاح من خانة الانتماء إلى خانة التبعية.

ينقل عبد الستار في بحثه كيف تحولت "المنتفق" – كيانا قبليا – إلى وحدة سياسية. ويرصد أصل التسمية وتطورها، ويحلل كيف أن الصراعات بين العائلات السعدونية، وشراء المناصب بالذهب، جعلت من الزعامة لعبة سلطة أكثر من كونها استحقاقا تقليديا. حتى المظاهر الرمزية للزعامة لم تكن مستقرة، بل مزايدة بين إسطنبول والشيوخ، وبين المال والولاء.

Asaad NIAZI / AFP
صياد عراقي يرمي شباكه في نهر الفرات الذي يمر بمدينة الناصرية، مركز محافظة ذي قار، 2 يناير 2024

مع تتالي التغييرات، صعد السعدون من شيوخ إلى متصرفين، وانتهى بهم المطاف موظفين لدى الدولة المركزية. القرار، وإن بدا إداريا، كان إعلانا صريحا لانتهاء عصر الزعامة الأبوية، وبداية حكم الدولة الحديثة، الدولة التي لا تحتاج إلى سيف، بل إلى ختم ومرسوم وبلدية. في هذا السياق، يقرأ الكتاب كتحليل سوسيو-سياسي لولادة السلطة الحديثة في الجنوب العراقي.

لا يقدم المؤلف أجوبة نهائية، بل يعيدنا إلى السؤال الأول: من نحن حين نكون على هامش السلطة؟ هل تحولت المدينة إلى مصيدة حضارية للفلاح؟ أم إلى أداة تحرر؟ هل تملك الذاكرة الريفية مكانا في سردية المدينة؟ أم ستظل الكلمة الأخيرة لـ"السور"؟

"الناصرية وكوخ القصب" هو أكثر من كتاب تاريخ، إنه محاولة جادة لكتابة التأريخ المقموع، الذي لم يسمح له بكتابة سطره الأول.

font change