النموذج الروسي في أفريقيا... الطاقة النووية بين الطموح والتحدي

أ.ف.ب
أ.ف.ب
أعلام روسيا والنيجر وبوركينا فاسو ومالي خلال تجمع للاحتفال بانسحاب هذه الدول من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) في نيامي في 28 يناير 2025

النموذج الروسي في أفريقيا... الطاقة النووية بين الطموح والتحدي

وصل وفد حكومي روسي برئاسة وزير الطاقة سيرغي تسيفيليف إلى نيامي عاصمة النيجر في 28 يوليو/تموز. وعقد مباحثات مع رئيس النيجر عبد الرحمن تشياني ورئيس الوزراء علي أمين زين. وتمخضت المباحثات عن توقيع مذكرة تفاهم بين شركة "روس آتوم" النووية الروسية ووزارة المناجم والطاقة النيجرية. وإلى جانب التعاون في استخراج اليورانيوم، ستقدم موسكو دعما لبرنامج نووي سلمي يشمل بناء محطات طاقة وتدريب المتخصصين وإنشاء بنية تحتية للطب النووي.

وأكد تسيفيليف: "هدفنا ليس المشاركة في استخراج اليورانيوم فحسب، وإنما بناء نظام متكامل لتطوير الطاقة النووية السلمية في النيجر، يشمل توفير كهرباء ميسورة التكلفة لكل مواطن، والتعاون في مجال الطب النووي. كما اتفقنا على إقامة برامج تدريب مشتركة للمتخصصين."

وشملت الزيارة اجتماعات رفيعة المستوى حول توسيع التعاون العسكري التقني، بما في ذلك تعزيز الوجود الاستشاري الروسي وتدريب الضباط وتوفير المعدات. مثّل الجانب الروسي نائب وزير الدفاع الفريق يونس بيك يفكوروف واللواء أندريه أفيريانوف، فيما مثّل الجانب النيجري وزير الدفاع ساليفو مودي واللواء موسى صلاحو بارمو.

وفي مايو/أيار 2025، صرح وزير الدفاع الروسي أندريه بيلوسوف بأن موسكو تسعى لتوسيع ديناميكي للعلاقات العسكرية مع النيجر. ويُفيد مراقبون بأن المبادرة تخضع لمتابعة شخصية من الرئيس فلاديمير بوتين.

وفي 25 يوليو/تموز، بمناسبة الذكرى الثانية لتأسيس المجلس الوطني لحماية الوطن (CNSP)، أكد الرئيس تشياني التزامَ البلاد بالاستقلال الكامل، مشيرا إلى وقوف النيجر عند مفترق طرق: إما الاستمرار تحت النفوذ الفرنسي وإما اختيار "طريق الكرامة". وأوضح أن استعادة السيطرة على مناجم اليورانيوم الرئيسة- ومنها منجم "إيمورارين"- لصالح شركة "أورانو" الفرنسية لا تدخل في نطاق المفاوضات.

جرى التوقيع على مذكرة تفاهم تقضي بإعداد خرائط جيولوجية شاملة وإنشاء خريطة تفاعلية للموارد المعدنية في مالي وضعها خبراء روس

وزار الوفد النووي الروسي مالي في 29 يوليو/تموز، حيث عُقدت في باماكو الجلسة الافتتاحية للجنة الحكومية المشتركة بين الجانبين. وجاء ذلك تنفيذا لاتفاق وُقع خلال زيارة الرئيس أسيمي غويتا إلى موسكو في يونيو/حزيران. ووصف تسيفيليف الحدث بأنه "أول لجنة حكومية مشتركة بين روسيا ودولة في منطقة الساحل"، معربا عن أمله في أن تكون نموذجا يُحتذى به لدول أخرى. 

وحضر الاجتماع ممثلون عن "روس آتوم" و"سبيربنك" ومجموعة "يادران"، إلى جانب عشرة وزراء ماليين برئاسة وزير الاقتصاد والمالية ألوسيني سانو. وناقش الطرفان مجالات تطوير البنية التحتية والنقل والصناعة والزراعة والتجارة والتمويل والأمن وحماية الاستثمار والتعدين والطاقة. وجرى التوقيع على مذكرة تفاهم تقضي بإعداد خرائط جيولوجية شاملة وإنشاء خريطة تفاعلية للموارد المعدنية في مالي وضعها خبراء روس. 

واعتبر سانو أن الاجتماعات تمثل نقطة تحول استراتيجية للتنمية الاقتصادية: "مكّنتنا جلسة العمل الأولى هذه من وضع خطة عمل واضحة للمشاريع الحالية والمستقبلية، ومن الضروري المحافظة على وتيرة التعاون هذه".

وزارة الطاقة الروسية
وزير الطاقة الروسي، سيرجي تسيفيليف في الزيارة الرسمية التي شملت محادثات مع رئيس النيجر عبد الرحمن تيشاني ومع رئيس الوزراء علي أمين زين ووزير المناجم عثمان أبارشي .

كما عقد يفكوروف وأفيريانوف اجتماعا منفصلا مع وزير الدفاع المالي ساديو كمارا، ناقشوا خلاله العمليات المشتركة بين القوات المسلحة المالية و"فيلق فاغنر" الروسي لمكافحة الإرهاب والتطرف الإسلامي، مع تخطيط لتوسيع نطاق برامج التدريب العسكري. 

والتقى تسيفيليف برئيس بوركينا فاسو إبراهيم تراوري في واغادوغو في 30 يوليو/تموز. وأسفرت المحادثات عن اتفاق لإنشاء لجنة حكومية مشتركة روسية-بوركينية تغطي مجالات الطاقة والصناعة والبنية التحتية والأمن. واقترح تراوري إنشاء مجلس أعمال ساحلي روسي، مع تعيين رئيس بوركيني مشارك مُقبل قريبا. 

أعلن رئيس "روس آتوم" أليكسي ليخاتشوف في 30 يوليو عن تشغيل مصنع تجريبي لليورانيوم تابع لشركة "مانترا تنزانيا" ضمن مشروع نهر مجوجو، بحضور الرئيسة التنزانية سامية حسن

وفي 30 يوليو، قدَّمت روسيا لبوركينا فاسو دعما متمثلا في شهادة تسليم لمختبر متنقل لمكافحة الأوبئة، من المقرر تسليمه في ديسمبر/كانون الأول المُقبل. ووقَّعت شركة "إنتر راو" الروسية مذكرة تفاهم مع وزارة الطاقة البوركينية لتطوير محطات الطاقة الحرارية. وإلى جانب ذلك، جرت محادثات عسكرية رفيعة المستوى مع وزير الدفاع سيليستان سيمبوري والعميد موسى ديالو. 

وفي 30 يوليو، قال السفير الروسي لدى بنين وتوغو، إيغور يفدوكيموف، لصحيفة "إيزفستيا" إن روسيا وبنين تستعدان للتوقيع على اتفاق تعاون عسكري مشترك. وسبق أن وُقِّع اتفاق مماثل مع توغو في 27 مارس/آذار. وتحمل هذه الخطوة دلالة سياسية كبيرة، كما تُمكِّن روسيا من الوصول إلى بنية الموانئ التحتية في البلدين دعما لاستراتيجيتها الإقليمية الأوسع. 

وقد أعلنت مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقا لتأسيس بنك استثماري مشترك في 1 أغسطس/آب. ووفقا لمستشار رئيس بوركينا فاسو سيرج باليما، سيُمَوِّل البنك قطاعات الطاقة والبنية التحتية والصناعات الاستخراجية، على أن تساهم كل دولة سنويا بنسبة 5 في المئة من إيراداتها الضريبية الوطنية. 

وبشكل منفصل، أعلن رئيس "روس آتوم" أليكسي ليخاتشوف في 30 يوليو عن تشغيل مصنع تجريبي لليورانيوم تابع لشركة "مانترا تنزانيا" ضمن مشروع نهر مجوجو، بحضور الرئيسة التنزانية سامية حسن. ومن المخطط أن يبدأ العمل بالمصنع كاملا عام 2029، بعد انطلاق أعمال البناء في 2026، على أن يستمر تشغيل المنجم لأكثر من 20 عاما.

أ.ف.ب
وزير خارجية النيجر بكاري ياو سانجاري، ووزير خارجية مالي عبد الله ديوب، ووزير خارجية روسيا سيرجي لافروف، ووزير خارجية بوركينا فاسو كاراموكو جان ماري تراوري، خلال مؤتمر صحافي مشترك في موسكو في 3 أبريل 2025.

وشدد ليخاتشوف على أهمية "الانتقال من التصميم إلى التنفيذ على أرض الواقع". ومن المتوقع أن يخلق المشروع ما يصل إلى 4000 وظيفة ويدعم تطوير البنية التحتية.

وصرَّح وزير المعادن التنزاني أنتوني مافوندي بأن الحكومة تهدف إلى تعزيز التصنيع المحلي للمواد الخام، مُشيرا إلى أن "هذا المشروع يجسد تلك الرؤية". 

بحلول يونيو 2025، استوردت الصين يورانيوم مخصبا من روسيا بقيمة 311 مليون دولار

وخلال جلسة مجلس الطاقة في موسكو التي عُقدت في اليوم نفسه، تقدمت شركة "روس آتوم" بطلب دعم مالي من الميزانية الفيدرالية لمواجهة ارتفاع تكاليف الائتمان، طالبةً إعانات لأسعار الفوائد وضمانات تصدير. ويُرجح تحقيق نتيجة إيجابية نظرا لنفوذ سيرغي كيريينكو (نائب رئيس إدارة الرئاسة الروسية والرئيس السابق لـ"روس آتوم") الذي أشرف على استحواذ الشركة بمليار دولار على "مانترا ريسورسيز" عام 2011. 

وتتميز الاستراتيجية الروسية في أفريقيا باتساقٍ استثنائي وسرعة تنفيذ وطموحٍ منهجي، إذ تقدم نموذج شراكة شاملة يدمج بين البنية التحتية والطاقة والتعدين والتمويل والأمن والتدريب والتنمية الاجتماعية ضمن أُطُر طويلة الأمد. 

أ.ف.ب
مؤيدون للمجلس الوطني لحماية الوطن في النيجر يرفعون أعلام مالي وبوركينا فاسو والجزائر والنيجر وروسيا أثناء تجمعهم في ملعب سيني كونتشي العام في نيامي، 26 أغسطس 2023

في أعقاب إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب عن استراتيجيته الأفريقية المُركّزة على "الموارد والولاء مقابل الأمن والاستثمار"، تواجه روسيا ضغطا زمنيا. ومع ذلك، لا تشارك موسكو في سباقٍ للهيمنة، بل تُركز على ترسيخ وجودها حيث تمتلك نفوذا قائما. ويظل الوجود الروسي في أفريقيا إلى حدّ كبير غير مصطدم مباشرة مع المصالح الأميركية أو الصينية. 

تظل روسيا المُوَرِّد الرئيس عالميا بفضل خبراتها التكنولوجية في تخصيب اليورانيوم. فبحلول يونيو/حزيران 2025، استوردت الصين يورانيوم مخصبا من روسيا بقيمة 311 مليون دولار. وفي حين فرضت الولايات المتحدة حظرا على الواردات النووية الروسية في أغسطس/آب 2024، سمحت الإعفاءات السارية حتى 2028 لأميركا بشراء يورانيوم بقيمة 240 مليون دولار خلال العام ذاته. يعقّد التوسع الروسي في مناجم اليورانيوم الأفريقية من تشابك تبعات الطاقة الأوروبية، ولا سيما فيما يتعلق بمفاعلات فرنسا النووية. 

حتى في حال فشل المشاريع الروسية- لأي سبب كان- تظل مخرجاتها التقنية والتدريبية قابلة للاستثمار

ويظل "فيلق فاغنر" قوة استقرار في المنطقة، ويعمل في إطار اتفاقات تعاون عسكري رسمي وبالتنسيق مع القوات الوطنية. كما يُعد الضامن الأساسي لأمن الاستثمارات الروسية الاستراتيجية. 

وتسعى طموحات "روس آتوم" النووية إلى تحفيز الاستثمارات القطاعية، إذ تُوقَّع عقود توريد الكهرباء حصريا مع المرافق العامة التابعة لدول الساحل السيادية. وقد يشكل التوسع النووي الروسي في المنطقة– بشكلٍ مفارق– حافزا لتطوير صناعاتٍ كثيفة الاستهلاك للطاقة، التي تتطلب بدورها توليدا كهربائيا مستقرا على نطاق واسع، وهو الأمر الذي توفره الطاقة النووية تحديدا. يُشار هنا إلى أن اتفاقات التوريد ستُبرم مع حكومات الساحل، وليس مباشرةً مع موسكو. 

تُعد "روس آتوم" من الشركات القليلة عالميا التي تسيطر على السلسلة النووية المتكاملة– من تعدين اليورانيوم وتخصيبه إلى بناء المفاعلات وإدارتها. وهي شركة لا تُضاهى من حيث التكلفة والجودة والموثوقية، لكنّ تفوقها التقني لا يضمن تنفيذا سلسا للمشاريع في سياقاتها الدولية. 

وحتى في حال فشل المشاريع الروسية- لأي سبب كان- تظل مخرجاتها التقنية والتدريبية قابلة للاستثمار. ولم يبقَ لموسكو سوى تحدٍ جوهري: تحويل التصريحات والاتفاقات إلى آليات تشغيلية فعالة وقابلة للاستمرار. وهذه المرحلة، الأكثر تعقيدا، هي المحك الحقيقي للاستراتيجية الروسية في أفريقيا. 

وبعد اجتياز مرحلة الوعود، أصبح الفشل في هذه المرحلة الحاسمة يُهدد بانهيار المشروع التوسعي الروسي في القارة السمراء. 

font change