بعد عامين ونصف العام من حرب دشنتها محاولة انقلابية في الخرطوم، وسرعان ما استشرى لهيبها في شتى أرجاء البلاد، لم يعد السودان مجرد ساحة للاقتتال الداخلي، بل تحول بشكل مطرد إلى حاضنة لزعزعة الاستقرار الإقليمي، ومختبرا لحروب الوكالة الحديثة، وفوق كل ذلك، مأساة إنسانية غير مسبوقة اختار العالم، في معظمه، أن يتجاهلها لتذوب في غياهب النسيان.
هول المعاناة باد للعيان ولا يمكن إنكاره: ملايين المشردين من ديارهم، ومدن بأكملها خاوية على عروشها، ونسيج اجتماعي تمزق بشكل عميق تحت وقع دوي المدافع والقصف الجوي. ولكن، كي ننتقل من حالة الحسرة والأسى العابر إلى الفعل الإيجابي الملموس لإنهاء هذه الكارثة، لا بد لنا أولا من أن نواجه بصدق حقيقة هذه الحرب، وأسباب استمرارها، وحسابات القوى التي تبقيها مشتعلة.
على الصعيد الداخلي، ليس القتال ذا طبيعة أيديولوجية أو محلية بحتة، بل هو نتاج مأساوي لتضافر فشلين كارثيين:
انحسار الالتزام ببوصلة المصلحة الوطنية في الممارسة السياسية، والترسيخ المتعمد للرعاية الأجنبية للمجموعات المسلحة.
لقد شكل هذا التقاطع المميت كارثة وطنية على كافة المستويات، حين تخلى الفاعلون السياسيون عن مبادئ السيادة في الممارسة السياسية وقايضوا الأولويات الوطنية لصالح الإبقاء المؤسسي على فصائلهم في المشهد السياسي ومكّنوا قوى خارجية من تحويل أراضي السودان واقتصاده ومجتمعاته إلى ميدان مفتوح لحروب الوكالة.
بلغت هذه الديناميكية ذروتها التدميرية في النفوذ المتزايد لميليشيا "قوات الدعم السريع"؛ التي انصهرت فيها عناصر الدعم المادي والعسكري والإسناد اللوجستي في ساحة المعارك، والإعلامي في المشهد العام، والغطاء السياسي والدبلوماسي الخارجي في بوتقة واحدة لتصنع نظام نهب افتراسي متكاملا محصنا بشكل مرعب.
قبل زمن من انطلاق شرارة حرب أبريل/نيسان 2023، كانت بذور هذه الكارثة قد ظهرت في السلوك الهدام للقوى السياسية السودانية، التي بدلا من أن تعزز مكتسبات ثورة 2019 وتستكمل مهام الانتقال، انزلقت إلى صراع ضيق الأفق على المناصب ومغانم السلطة. وبفعلهم هذا، أُفرغت الأجندة الانتقالية من جوهرها، وتركت الدولة مكشوفة أمام تمدد نفوذ المرتزقة المسلحين الذين تركهم النظام السابق والذين كان الرعاة الأجانب على أهبة الاستعداد لاستغلالهم.