رؤى متباينة لاستقرار جنوب سوريا... هل تعود روسيا؟

يمكن أن تشكّل عودة روسيا مظلة نسبية من الاستقرار

رويترز
رويترز
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مصافحا نظيره السوري اسعد الشيباني اثناء مؤتمر صحافي بعد محادثاتهما في موسكو في 31 يوليو

رؤى متباينة لاستقرار جنوب سوريا... هل تعود روسيا؟

أدّى اندلاع موجة العنف الأخيرة في محافظة السويداء، جنوبي سوريا، إلى هزّ المواقف الإقليمية والدولية ودفع القوى الخارجية إلى التحرك. فقد شهدت هذه المحافظة، التي تتميز بأغلبية سكانية درزية وبقدر من الاستقلالية النسبية طوال سنوات الحرب، تصاعدا في التوترات الطائفية بين الجماعات المسلحة الدرزية والقبائل البدوية والمقاتلين المرتبطين بالإدارة السورية الجديدة، في ظل استمرار انحسار نفوذ نظام الأسد. وباتت معركة تثبيت الاستقرار في السويداء اختبارا حقيقيا للاستراتيجيات الدولية المتباينة.

موجات العنف

على مدى الأشهر الماضية، اجتاحت السويداء موجات متلاحقة من العنف الشديد، زعزعت مشهدها السياسي المحلي الذي طالما اتسم بالعزلة النسبية. وكانت الشرارة الأولى انطلقت بسبب خلافات حول إدارة الحكم المحلي، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، وصراعات على السيطرة على طرق التجارة غير المشروعة، قبل أن تتصاعد سريعا إلى سلسلة من المواجهات الدامية في المناطق الريفية. وأسهمت إسرائيل في إذكاء هذه التوترات عبر دعم زعامات درزية، أبرزهم الشيخ حكمت الهجري، وشنّ ضربات على القوات الحكومية السورية بدعوى حماية المجتمعات الدرزية.

في خضم ذلك، استغلت جماعات مسلحة– بعضها مرتبط بشبكات تهريب عابرة للحدود– حالة الفوضى، فيما أعادت الاشتباكات المتكررة بين الوحدات الدرزية والقبائل البدوية فتح جراح تاريخية قديمة. وكشف عجز القوى المحلية والإدارة السورية الجديدة عن كبح هذه الاضطرابات مدى هشاشة المشهد الأمني في البلاد.

ويبدو أن تحقيق الاستقرار في السويداء مهمة شديدة التعقيد، إذ يتشابك الصراع الطائفي فيها مع شبكة إجرامية راسخة ترسّخ اقتصادا غير مشروع وشبكات تهريب ترتبط في كثير من الأحيان بالميليشيات والعائلات النافذة. هذا التشابك يغذي التنافس بين المكونات المحلية، ويساعد على تشكيل مناخ مستمر من عمليات الخطف والاغتيالات وأعمال العنف المتقطعة.

تدرس روسيا إعادة نشر الشرطة العسكرية على الحدود الجنوبية لسوريا، ليس فقط للحفاظ على السلام بين المجتمعات المتنوعة في المنطقة، بل أيضا لردع الضربات الإسرائيلية

ولم تكن هذه الظواهر وليدة اللحظة، بل تعود جذورها إلى ما قبل المرحلة الحالية. ففي ظل الترتيبات الأمنية الهشة التي أعقبت عام 2018 بوساطة روسية وإشراف قواتها على خطوات التنفيذ، ازدهرت الأنشطة الاقتصادية غير المشروعة. إذ تولت أجهزة أمنية تابعة للنظام السابق، بدعم من ميليشيات "حزب الله" وفصائل موالية لإيران، السيطرة على ميليشيات وجماعات محلية بهدف تسهيل عمليات التهريب عبر الأردن ولبنان والعراق. كما شهدت السويداء خلال تلك الفترة انتشار مختبرات ومستودعات لإنتاج المخدرات، وعلى رأسها الكبتاغون.

أما بالنسبة للإدارة السورية الجديدة، فتشكل هذه الاضطرابات تهديدا وجوديا، إذ بدلا من أن تكون السويداء نموذجا لحوكمة ما بعد النظام يمكن أن تسهم فيه السلطة المحلية الشاملة والتعددية النسبية في رسم ملامح سوريا مستقرة ولا مركزية، انزلقت المنطقة إلى العنف الذي قوّض التوازن الهش المستمر لسنوات بين الفصائل الطائفية، وزاد من احتمالات امتداد القلاقل إلى مناطق أخرى في جنوب البلاد، وأثار الشكوك حول قدرة الإدارة الجديدة على حماية المجتمعات المهددة من دون تدخل عسكري خارجي.

أ ف ب
مقاتلان من العشائر البدوية في غرب مدينة السويداء في 19 يوليو

ورأى كثير من المراقبين في هذه التطورات جرس إنذار: إذا سقطت السويداء، فقد تتبخر آمال بناء منظومة أمنية متماسكة في سوريا ما بعد الأسد بالكامل.

رؤى متصارعة

في أعقاب الاضطرابات في السويداء، نسقت الولايات المتحدة والأردن والإدارة السورية الجديدة خطة عمل مشتركة لوقف المزيد من إراقة الدماء في المحافظة. وترتكز هذه المبادرة على وقف إطلاق نار محلي، وإعادة إعمار مستهدفة، ودعم جهود تثبيت الاستقرار بقيادة مجتمعات محلية مستقلة. ترى واشنطن وعمّان في هذا النهج سبيلا لتعزيز الحكم المحلي وتقوية الصمود وتقليص اعتماد المنطقة على الأطراف العسكرية الخارجية. أما بالنسبة للإدارة السورية، فتمثل الخطة خطوة نحو توطيد الاستقرار الداخلي دون فتح الباب مجددا أمام هيمنة أجنبية على أمن الجنوب.

على أن لموسكو رأيا آخر. وبالفعل، وفقا لمصادر إقليمية، تدرس روسيا إعادة نشر الشرطة العسكرية على الحدود الجنوبية لسوريا، ليس فقط للحفاظ على السلام بين المجتمعات المتنوعة في المنطقة، بل أيضا لردع الضربات الإسرائيلية. وتشير التقارير إلى أن الإدارة السورية الجديدة طلبت من موسكو إحياء وجودها في المنطقة. وسيُشكل هذا عودة تكاد تكون مطابقة للإطار الأمني الذي ساعدت روسيا على ترسيخه بعد عام 2018، حين أدت دور الوسيط والمنفذ لتوازن هش بين نظام الأسد، والقيادة الدرزية، وإسرائيل.

تنفيذ روسيا لترتيبات الأمن السوري بعد عام 2018 رافقه تصاعد ملحوظ في التنافس والعنف بين الجماعات المختلفة وداخلها

استند ترتيب عام 2018 إلى توازن دقيق بين خصوم متنازعين، إذ تفاوضت روسيا مع قادة الطائفة الدرزية في السويداء للسماح بوجود رمزي للنظام عقب استعادته لدرعا والمناطق المحيطة، في مقابل منح القوى المحلية والزعماء الدينيين والميليشيات درجة من الحكم الذاتي في مسائل الدفاع الذاتي. وفي الوقت نفسه، توصلت موسكو إلى تفاهم مع إسرائيل لتفادي الاشتباكات عبر الحدود، تضمن قيودا ضمنية على انتشار القوات الإيرانية وميليشيات "حزب الله" بالقرب من مرتفعات الجولان. وقد أدّت الشرطة العسكرية الروسية، التي كانت تتمركز في بلدات رئيسة وعلى طول الحدود الأردنية والإسرائيلية، دور الضامن لالتزامات نظام الأسد والحاجز الميداني ضد التصعيد.

أ ف ب
قوات الحكومة السورية تدخل السويداء في 15 يوليو

ورغم أن هذا الترتيب لم يكن مثاليا، لكونه اكتفى بتجميد الخلافات والتوترات الطائفية دون حلها، فقد حافظ على قدر من الاستقرار. وبالنسبة لموسكو، كان هذا الترتيب برهانا على قدرتها على الوساطة بين خصوم ألدّاء، وعلى موقعها كحكم نهائي في مصير جنوب سوريا. وتشير المقترحات الحالية لإعادة نشر القوات الروسية إلى رغبة في استعادة هذا الدور، إلى جانب استرجاع نفوذها المتراجع في دوائر السلطة العليا في سوريا. فمع تراجع مكانة نظام الأسد، تخشى روسيا فقدان وصولها إلى موانئ المياه الدافئة على الساحل السوري، ناهيك عن خسارة موقع إقليمي يسمح لها بمنافسة القوات الأميركية المنتشرة في سوريا والعراق وتركيا، وكذلك في شرق المتوسط والخليج.

السير قدما

من الناحية النظرية، يمكن أن تشكّل عودة روسيا مظلة نسبية من الاستقرار، تسهم في الحد من الانفجارات الطائفية والتصعيد عبر الحدود مع إسرائيل. غير أن هذا المسار، بالنسبة للإدارة السورية، قد يُضعف نموذج الاستقرار بقيادة محلية المدعوم دوليا، الذي تتبناه حاليا بدعم من الولايات المتحدة والأردن. فمن منظور واشنطن وعمّان، يشكّل تجدد الوجود العسكري الروسي تهديدا مباشرا للمكاسب التي تسعى خطتهما المشتركة لتحقيقها، والمتمثلة في تعزيز صمود الجنوب السوري وتوفير الاكتفاء الذاتي دون الاتكال على قوى أمنية خارجية.

ومن الجدير بالتذكير أن تنفيذ روسيا لترتيبات الأمن السوري بعد عام 2018 رافقه تصاعد ملحوظ في التنافس والعنف بين الجماعات المختلفة وداخلها، حيث سعت الفرقة الرابعة المدرعة التابعة لنظام الأسد إلى إنشاء نقاط تهريب عبر الحدود لتجارة الكبتاغون، ما أدى إلى نشوب نزاعات مسلحة امتدت إلى اشتباكات مع دول مجاورة، أبرزها الأردن، وأثار اضطرابا بالغا في الاستقرار الإقليمي، دون أن تبذل القوات الروسية جهودا تُذكر في كبح هذا التصعيد الأمني، وفقا للتقارير.

تكشف الرؤى المتضاربة بين الولايات المتحدة والأردن وروسيا والإدارة السورية عن انقسامات جوهرية في المقاربات الدولية لمستقبل سوريا

وبالرغم من طلب الأردن في ذلك الوقت تعزيز وجود الشرطة العسكرية الروسية على طول الحدود الجنوبية لسوريا لوقف عمليات التهريب، فإن الانشغال الروسي بالحرب في أوكرانيا حال دون تحقيق نتائج ملموسة. وإذا كان الهدف النهائي هو بناء استقرار دائم ومنع اندلاع صراعات مستقبلية، فإن الاعتماد على الوجود الروسي وحده لا يبدو كافيا لتحقيق الأهداف طويلة الأمد التي تتطلع إليها الإدارة السورية الجديدة وشركاؤها.

ويبدو توقيت تحرك موسكو محرجا لواشنطن، ولا سيما أنه يتزامن مع خطوات أميركية هادئة نحو تقليص وجودها العسكري في شمال شرقي سوريا. فقد أعلن مسؤولون أميركيون، من بينهم توم بارّاك، عن سحب مئات من الجنود الأميركيين من المنطقة والتخطيط لتقليص الانتشار إلى قاعدة واحدة في وقت لاحق من العام الجاري. وتشبه هذه الخطوة مثيلتها في العراق حيث نقلت الولايات المتحدة وجودها العسكري من بغداد إلى أربيل، وسلمت المعدات والقواعد للقوات العراقية المحلية استعدادا لانسحاب رسمي مرتقب قبل نهاية عام 2026.

لكن عودة روسيا إلى واحدة من أكثر المناطق حساسية وتنازعا في سوريا قد تميل بكفة النفوذ لصالح دمشق، وقد تدفع الإدارة السورية الجديدة إلى الارتماء مجددا في حضن موسكو، رغم استثمارات واشنطن في إعادة بناء العلاقات الأميركية-السورية. وهذا بدوره قد يدفع الولايات المتحدة إلى إعادة تقييم مدى جدوى تقليص وجودها العسكري في المنطقة من الناحية الاستراتيجية.

تكشف هذه الرؤى المتضاربة بين الولايات المتحدة والأردن وروسيا والإدارة السورية عن انقسامات جوهرية في المقاربات الدولية لمستقبل سوريا. ففي حين تفضّل واشنطن وعمّان نموذج حكم لا مركزي قائم على التمكين المحلي كمسار نحو سلام دائم، تفضل موسكو نموذجا مركزيا مواليا للنظام تدعمه ضمانات عسكرية مباشرة. وقد لعبت الإدارة السورية دورا في كلا النهجين، وربما تسعى إلى الموازنة بينهما، غير أنها ستضطر في نهاية المطاف إلى اختيار المسار الذي يخدم استقرار الجنوب ومصالحها في السويداء على المدى البعيد.

font change

مقالات ذات صلة